3 كتب تَرشح بالأسئلة

*بين أقدام "الأمير الصغير" و"دون خوان" و"الخيميائي" -  أو عملية تسكع في دهاليز الفكر..*

استوقفتني ثلاث روايات تمت كتابتها في أزمنه مختلفة. الأولى في الأربعينيات وهي"الأمير الصغير" لأنطون دو سانت اكزيوبيري كتبت سنة 1943 والثانية في السبعينيات (1971) "رحلة الى ايختلان" او حياه منفصلة او تعاليم دون خوان لكارلوس كاستينيدا والثالثة "الخيميائي" لباولو كويلو، كتبت في اواخر التسعينيات من القرن الماضي والتي قيل عنها انها تذكر بـ "النورس" لريتشارد  باخ، ولم اطلع عليها بعد.
ان ما استوقفني هو وجه الشبه بين هذه النصوص، وكونها تتحدث عن علاقة الإنسان بالطبيعة وصراعة مع القدر وقدرته على الحلم والإستقراء والإستنتاج بأن البعرة تدل على البعير والخطوة على المسير.
جميعا ترجمت لعده لغات وانتشرت عالميا فإستوقفني فعلاً. سؤال.. لماذا؟ هل وراء هذا الإنتشار عوامل وأسباب؟ نعلم مثلاً ان وكالة المخابرات المركزية كانت وراء عدَّة موسيقيين بعد الحرب العالمية الثانية وأنها كانت وراء شهرة أرنست هامنجواي وأنها كانت وراء انتحاره الذي دفعته اليه دفعاً. كذلك يُذكر انها كانت وراء دعوة كثيرٍ من الكتَّاب لأجواء قريبة من أجواء سلاطين الف ليلة وليلة، وكذلك كانت وراء بعض الجوائز التي منحت لبعضهم.
ولنعد الى رواياتنا الثلاث قبل ان نبتعد أكثر بهذا الإستطراد. كما ويجمعها عنصر الإصغاء الى الطبيعة والإستماع الى القلب في قراءه اشارات المصير والذهاب الى نهاية الحلم. كما وتجمعها عناصر الغرائبية والغموض والنظر الى الجوهر وان على الإنسان ان يتحمل مسؤولية أعماله.
تجمعها الأجواء الصحراوية. لماذا الصحراء؟ هل لأنها كانت بحراً في يوم من الأيام ، وان أصل هذه الأرض التي نعيش عليها هو الماء وأن المحيط المائي هو بدء التكوين.

يلتقي سانت اكزيوبيري الذي خدم في سلاح الجو الفرنسي سنة 1922 ثم عاد وتطوع بالحرب العالمية الثانية وكان صديقاً حميماً لبعض المتنفذين في مكتب الخدمات الإستراتيجية الأمريكي الذي أصبح فيما بعد وكالة المخابرات المركزية عام 1946 اي بعد عامين من عملية اختفائه. وقيل في الصحراء الليبية اولاً ثم أعلن مؤخراً عن وجوده وحطام طائرته المقاتله في اعماق البحر مقابل مرسيليا. وما فتئ السؤال معلقاً، هل أُسقطت طائرته من قِبَل الحلفاء ام من قبل دول المحور؟
يلتقي هذا المؤلف بالأمير الصغير في الصحراء الإفريقية أثر هبوط اضطراري جراء عطب في طائرته. تتكون فيما بينهما صداقة ويحدث كل منهما الآخر عن مغامراته وفلسفته في الحياه.
ويبقي سؤال آخر، هل كان في هذا الهبوط الإضطراري عملية تنبؤ الكاتب بما سيحدث له بعد سنة من كتابة هذا النص سنة 1943؟
ان مايميِّز هذا النص قدرته على الإيحاء رغم البساطة وهو نص ملائم للصغار والكبار ولجيل المراهقة ويدرَّس ببرنامج البكالوريا الفرنسية.
يلتقي بطل كارلوس كاستينيدا برحلته الى ايختالان بالعرّاف الهندي الأحمر بصحراء المكسيك على تخوم كاليفورنيا. فطالما بحث عنه كي يتعلم منه اسرار الطبيعة واشاراتها حتى يدرك جوهر الأشياء. لكن عن طريق محو الذات والشفاء من التاريخ القومي والتاريخ الشخصي.. فأن "تشعر بعظمة الذات معناه تدميرها.. "عليك ان تنسى تاريخك! يقول له العرّاف بحزم، عليك ان تكون صياداً يقظاً لا يهاب الموت. فالموت يحدث مرة واحدة عند الشجاع وآلاف المرات عند الجبان.
اما في الخيميائي فإن الأحلام هي لغة الله.. البشر يملكون الإمكانية دائماً لتحقيق أحلامهم، وهم في صراع دائم مع القدر.. وان كان الإنسان عاجزاً أحياناً عن إختيار قدره، إلا ان الكنز الذي يبحث عنه بعيداً، كثيراً ما يكون بين قدميه.
وفي سبيل العثور على هذا الكنز يبيع الراعي الصغير قطعانه ويتخلّى عمّا يملك ويقصد اهرامات مصر عبر الصحراء. فقد تهيأ له أن الكنز هنالك بالقرب من الأهرامات التي ترمز للعراقة والقدم والطموح وتحدّي الزمن. ثم بعد ان يمر بتجربة الصحراء ولقاء امرأة الصحراء واتقان لغة العالم والغوص بروح العالم، تدله هذه المرأة على حجر الفلاسفة –السر الأعظم – ومعرفة الجوهر والطبيعة والكون، تدله هذه المرأة على ان الحب هو الذي يؤدي الى هذا السر. يتقن لغة العلامات والإشارات ويحترمها. تقول المرأة: "تعلّم ان تحترم وتتبع العلامات ".
لغة العلامات هذه  هي  لغة الإشارات عند كاستينيدا وان هذا الراعي هو الصياد عند الأخير.
يتضح لهذا الراعي في النهاية ان الكنز موجود في المكان الذي ابتدأ منه الرحلة، في كنيسة مهجورة بالأندلس، تحت شجرة الجميز العملاقة في المكان الذي كان قديماً الموهف (السكرستيا) وهي غرفة الملابس الملاصقة للمذبح فيها يستبدل الكاهن ملابسه العادية بملابس الطقوس والأواني الذهبية والنحاسية..
 هل يريد كويلهو ان يقول لنا ان الكنزموجودٌ في الدين والتديّن.. أم العكس تماماً؟ والا فماذا يعني قول الفتى الراعي سانتياغو حين يتحدث عن "عدم قدرة الناس على اختيار مصيرهم الخاص  وفي النهاية، يدفع الناس الى الايمان بـأكبر عملية تضليل في العالم.. أكبر خديعة.. ففي لحظة معينة من وجودنا، نفقد السيطرة على حياتنا التي تغدو، منذ ذلك الوقت، محكومة بالقدر. هنا تكمن أكبر خديعة في العالم." (ص30). بمعنى آخر، هل يقصد اننا نلجأ للغيب حين نعجز في الواقع؟ أو نحتمي بالغيبيات والخرافات عند عجزنا عن تحدي معضلات الواقع؟
يحذرنا كويلو من التخلّي عن الحلم (ص78) لأن " القرارات تشكل فقط بداية كل شيء " (ص86).
ونرى ان كاستينيدا يتجاوزه ويدعونا ان نحلم حلماً ارادياً كنوع من أنواع "الإستخاره"، ان نحلم حلماً من الممكن تطبيقه، اي ان نطرح المشاكل التي نستطيع حلها في الواقع..
كما نرى سانت اكزيوبيري يستعيض عن هذه الفرضية بمثال مختلف. ففي احدى جولات الأمير الصغير بين الكواكب والنجوم يلتقي هذا الأمير بالملك الذي يقول له:
"اذا أصدرتُ قراراً لجنرال بالتحول الى عصفور بحري، ولم يُطعني الجنرالُ فإن الذنب ليس ذنب الجنرال وانما هو ذنبي انا" (ص49) وذلك حتى "لا نطلب من أحد إلا ما يستطيع ان يعطي " (ص52).
ان هذه الفكرة المشتركة بين هؤلاء الكتاب الثلاثة تنسجم مع المقولة الماركسيَّة "ان الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا التي تقدر على حلَّها"، هذا وإن كانوا جميعاً بعيدين عن ماركس او عن الماركسيَّة اللينيفيَّة عقائدياً.
اما بالنسبة للطقوس فيقول الأمير إن الطقس "يجعل يوماً ما يختلف عن باقي الأيام" (ص94). ونرى الراعي الفتى سانتياغو يقول المعنى ذاته بأن "مكة هي سبب تمسًّكي  بالحياة، هي التي تعطيني قوَّة احتمال الأيام المتشابهة".
وفي مسألة القلب نرى أيضاً تكراراً للمعاني.
يقول الأمير الصغير: "نحن لا نرى جيداً الا بواسطة القلب. فالأساسي لا تراه العيون "(ص97)" وما نراه هنا ليس الا قشرة، ان الأكثر أهميَّة هو اللامرئي" (ص105).
ويقول الفتى سانتياغو ان الأرض كائن حي، لها روح، لا تتوقف عن التحول تحت السطح او فوقه (ص 98). ولا يوجد سبب لكي نحب، وحيث يوجد قلبك يوجد كنزك ( ص 153) فالقلوب تساعد الناس الذين يعيشون اسطورتهم الشخصيَّة (ص160) وعندما نحب لا حاجة للفهم، فالحب هو القوَّة التي تحوّل روح العالم وتطورها لأننا حين نحب نود ان نكون أفضل مما نحن عليه  (ص175). وعلينا ان نكون دائماً صادقين مع قلوبنا وان نتبعها فلا نخونها. معناه الا نستسلم لليأس فهذا يمنعنا من الكلام مع قلوبنا. 

اعتقد ان الكِتاب هو لغة حوار. لغة تواصل مع الكاتب. آمل ان تكون هذه الهوامش التي وضعتها على هذه الكتب الثلاثة رسالة الى القارئ التالي، كما آمل ان تكون لغة الحوار هذه لغة تواصل فيما بيننا جميعاً الكتّاب الثلاثة وانا والقارئ عبر الزمان والمكان والبعد الآخر، أقصد قراءة النصوص الأصليَّة .
ان الكتاب الجيد هو الذي يثير الأسئلة، وحسبيَ انّي في هذه المقاله قد ركّزت على بعضها في عملية المسير المضنية بدهاليز الفكر لدى ثلاثة من عظماء الكتَّاب .


المراجع:
1. دو سانت اكزيوبيري انطوان – الأمير الصغير. ترجمة محمد المزيودي، منشورات الجمل 2000.
2. كاستينيدا كارلوس – رحلة الى ايختلان.  ترجمة عميهود اربيل، اصدار زمورا 1987 .
3. باولو  كويلو – الخيميائي. دار الأزمنة الحديثه بيروت، تعريب فارس غصوب. ط1.  كانون الثاني  1998.


وليد الفاهوم
الأحد 23/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع