يقول المثل الشعبي "من خلّف ما مات"، ويقول ايضا "من كرس حياته لخدمة شعبه، تبقى ذكراه حية". واميل توما كرس حياتها كلها في خدمة شعبه والدفاع عن حقوقه.
ولد اميل في حيفا في 16/3/1919 لعائلة حيفاوية فلسطينية، من العائلات الفنية في المدينة. وكان في استطاعته ان ينعم بحياة سهلة وان يحصل على اعلى الوظائف، ولكنه تخلىعن كل ذلك، انفصل عن طبقة الاغنياء وانضم الى العمال والكادحين.
درس في مدرسة صهيون في القدس، وسافر الى جامعة كيمبريدج في لندن لدراسة القانون. قال لي مرة: كما تعلم درست في مدرسة صهيون وفي جامعة كيمبريدج، ولكني لا احمل اية شهادة. فدراستي في صهيون توقفت بسبب الثورة، وفي كيمريدج توقفت دراستي بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن ذلك لم يمنعه من ان يصبح قائدا شعبيا مرموقا ومناضلا ومفكرا. وفي عام 1968 نال شهادة الدكتوراة من جامعة موسكو.
* بدء عمله السياسي
انضم اميل الى الحزب الشيوعي الفلسطيني في نهاية 1939، وقام مع رفيق دربه توفيق طوبي ومع بولس فرح في تأسيس نادي شعاع الامل، الذي تحول الى مرجع لعمال شركات الزيوت وعمال المعسكرات يقصدونه للتشاور. ولاحقا ساهم اميل ورفاقه في تأسيس "اتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب" الذي كان لاحقا النواة لتأسيس مؤتمر العمال العرب. وانتقل اتحاد النقابات الى مقر جديد واسع في درج الموارنة، الذي اصبح ايضا مركزا لصحيفة "الاتحاد" عند صدورها، ومقرا لعصبة التحرر الوطني بعد تأسيسها. وكان اميل توما عاملا اساسيا في صدور "الاتحاد" الذي كان رئيس تحريرها، وفي تأسيس عصبة التحرر الوطني الذي كان سكرتيرها العام.
كان صدور "الاتحاد" خطوة كبيرة الىامام قام بها اميل توما ورفاقه توفيق طوبي واميل حبيبي وآخرون، الذين كانوا يؤمنون بمبادئ الاشتراكية العلمية. وارادوا ان تكون "الاتحاد" قوة اعلامية فكرية تناضل من اجل استقلال فلسطين واقامة دولة دمقراطية مستقلة، وتدافع عن مصالح العمال والفلاحين وجماهير الشعب، وتنشر الوعي الوطني والاجتماعي في اوساط الشعب.
عمل اميل توما ورفاقه في عصبة التحرر الوطني من اجل دمقراطية الحركة الوطنية، ومن اجل الوحدة الوطنية واستقلالية الحركة الوطنية الفلسطينية، وان تكون هي صاحبة القرار في كل ما يتعلق بالشعب العربي الفلسطيني.
قررت عصبة التحرر الوطني العمل على اقامة جبهة عربية عليا، تكون قائدا للشعب العربي الفلسطيني، تطرح حلا دمقراطيا للقضية الفلسطينية. والقت على اميل توما القيام بهذه المهمة. ونجح في اقامة "الجبهة العربية العليا" التي شملت عصبة التحرر الوطني، مؤتمر العمال العرب واحزاب الاستقلال والاصلاح والدفاع والكتلة الوطنية ومؤتمر الشباب. وكتب اميل في مؤلفه "60 عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية" رأت العصبة في هذا خطوة هامة نحو بناء الحركة الوطنية على اسس شعبية دمقراطية. وكانت هذه هي الطريق الصحيحة لبناء الوحدة الوطنية. وتدخلت الجامعة العربية التي لم يرق لها قيام قيادة شعبية دمقراطية للشعب الفلسطيني، وحلت الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج امين الحسيني والجبهة العربية العليا. والفت لجنة جديدة متجاهلة القوى الوطنية الفتية. وعمليا بقيت القيادة التقليدية على حالها. إن تدخل الجامعة العربية في شؤون الشعب العربي الفلسطيني جرد هذا الشعب من حقه في القرار المستقل بخصوص نضاله ومستقبله. وادى هذا عام 47-48 الى إبعاد جماهير الشعب العربي الفلسطيني عن القيام بدورهم الطبيعي في تقرير مصيرهم والدفاع عن وطنهم وكيانهم. وكتب اميل توما في مؤلفه منظمة التحرير الفلسطينية حول مؤسسي حركة فتح: "لقد استنتجوا بحق ان غلطة الحركة العربية الفلسطينية الكبرى كانت ايام الانتداب وفي الحرب الفلسطينية في عام 48 وبعدها الحاق الحركة الوطنية الفلسطينية بارادة الانظمة العربية. ولذلك اقسموا اليمين كما كتب صلاح خلف "ابو اياد" في كتابه "فلسطين بلا هوية" على التصدي لكل محاولة اخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لاشراف حكومة عربية ايا كانت هذه الحكومة، وعلى السهر على الا يستعيدها أي بلد "شقيق" الى "حظيرته" (صفحة 110) وحافظت القيادة الفلسطينية بعد ذلك دائما على استقلالية القرار الفلسطيني.
* قرار هيئة الامم المتحدة لتقسيم فلسطين
في البحث الذي جرى في اللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني حول قرار الامم المتحدة بتقسيم فلسطين، ابدى اميل توما رأيه معارضا لقرار التقسيم، ومتمسكا بالحل الذي كانت تطرحه العصبة باقامة دولة دمقراطية واحدة في كل فلسطين العرب واليهود على السواء.
ولكن اميل لم يعمل على تجنيد قوى داخل العصبة ضد هذا القرار، فلم ينظم الاجتماعات ولم يصدر البيانات. وحضرت انا شخصيا اجتماعا مغلقا في حيفا حضره حوالي الـ 15 شخصا، دعا فيه بعضهم اميل الى اقامة حزب جديد يعارض قرار هيئة الامم المتحدة. الا انه رفض هذا الطلب رفضا قاطعا.
بعد عودة اميل من لبنان حيث سجن في معسكر للاعتقال في بعلبك ثلاثة اشهر، كان من الطبيعي ان ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي قام في مؤتمر الوحدة في تشرين الاول 1948، بتوحيد الحزب الشيوعي الفلسطيني (الرفاق اليهود) واعضاء عصبة التحرر الوطني. وطلب من اميل ان يقدم انتقادا ذاتيا لمعارضته قرار التقسيم، ومع انه قدم الانتقاد الذاتي المطلوب الا انه حرم من ان يكون عضوا في قيادة الحزب. واستمر هذا المنع حتى عام 1965 أي 15 عاما. ولم ينتخب اميل للجنة المركزية للحزب الا بعد الانقسام عام 1965. لقد كان قرار ابعاد اميل عن القيادة هذه السنوات الطويلة في رأيي قرارا ظالما غير واقعي.
* مؤرخ القضية الفلسطينية
لم يكن اميل توما مناضلا ثوريا فقط، بل كان ايضا مفكرا ومؤرخا. وكما كتبت "فلسطين الثورة" في افتتاحيتها في العدد الذي صدر في 31/8/85 اميل توما لم يراقب التاريخ ويسجله من موقع المحايد. اميل توما شارك في صنع التاريخ ثم سجله من موقع الملتزم".
اميل توما بحق واحد من اهم مؤرخي القضية الفلسطينية ونضال الشعب العربي الفلسطيني. لم تكن مؤلفاته مجرد سرد للوقائع التاريخية وتسلسلها، بل كانت تشمل تحليلا عميقا ونقدا مبدئيا موضوعيا ورؤية شاملة مع استخلاص العبر والنتائج. وطرح اميل توما في مؤلفاته الحل الذي بلوره الحزب الشيوعي الاسرائيلي للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني والاسرائيلي - العربي هذا الحال القائم على انسحاب اسرائيل من كافة المناطق التي احتلتها عام 67 واقامة الدولة الفلسطينية في هذه المناطق – الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمة هذه الدولة القدس الشرقية، وحق اللاجئين في العودة او الحصول على تعويضات لمن لا يريد العودة، وحق اسرائيل العيش بامان وسلام وراء حدود معترف بها دوليا وتدريجيا اصبح هذا البرنامج هو البرنامج الذي تطرحه السلطة الفلسطينية والاقطار العربية وقوى السلام في العالم.
* مؤلفات اميل توما
اصدر معهد اميل توما للابحاث السياسية والاجتماعية في حيفا، الاعمال الكاملة لاميل توما وعددها 14 مؤلفا. ومؤلفه مسيرة الشعوب العربية الحديث، الذي سجل تاريخ مسيرة الشعوب العربية منذ بدء الاحتلال العثماني للاقطار العربية وحتى تاريخ كتابة هذا المؤلف، هو من المؤلفات الهامة الذي لم يهمل أي نضال او حركة للتحرر من الاحتلال العثماني الا وذكرها، كما استعرض باسهاب كل الحركات والنضالات ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي.
من هذه المؤلفات اربعة مؤلفات خصصت للقضية الفلسطينية: جذور القضية الفلسطينية، 60 عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية، منظمة التحرير الفلسطينية، الحركة القومية العربية والقضية الفلسطينية. في هذه المؤلفات يؤرخ اميل نضال الشعب العربي الفلسطيني منذ بداية الانتداب البريطاني في فلسطين. وفي مؤلفه جذور القضية الفلسطينية، هو يحلل جذور القضية، وكيف بدأت ومن المسؤول عن ذلك، حلل اميل الصهيونية فكرا وعملا كحركة عنصرية رجعية خادمة للاستعمار تقوم عقيدتها على الاستيلاء على كل فلسطين "ارض اسرائيل الكبرى" وعلى تشريد الشعب الفلسطيني من وطنه.
* النضال ضد الحكم العسكري والاضطهاد القومي وسلب الاراضي
قام اميل توما بدور هام في النضال ضد سياسة القمع والاضطهاد القومي تجاه الجماهير العربية الفلسطينية في اسرائيل. وكنت شاهدا على الجهود الكبيرة التي كان يبذلها اميل والرفاق لتجنيد قوى دمقراطية يهودية من كتاب وادباء واساتذة جامعات وفنانين لتأييد المؤتمرات التي كانت تعقد في سنوات الخمسين والستين ضد قانون الجنسية والحكم العسكري وسلب الاراضي.
والاهم هو عمل اميل توما ورفاقه في الحزب الشيوعي من اجل بناء الوحدة الوطنية لجماهير شعبنا العربي في هذه البلاد، لتواجه موحدة سياسة الاضطهاد والتشريد الحكومية. لقد تم بناء هذه الوحدة حجرا حجرا من خلال النضال اليومي والتوعية والمؤتمرات الشعبية باشتراك وتضامن القوى الدمقراطية اليهودية. وكتب اميل توما: "سنلتزم بقضايا شعبنا السياسية والاجتماعية والثقافية ولكن التزامنا لا يعني عدم الخروج عن الدائرة القومية الضيقة التي تولد العقم وقصر النظر وضيق الافق.
سنجمع بين اهتمامنا بقضايانا القومية وبكفاحنا الوطني ومن المشاركة في كفاح الانسانية من اجل السلام والحياة الافضل". وتبلورت هذه الوحدة الوطنية لاحقا في قيام العديد من الاطر الشعبية الوطنية كلجنة الدفاع عن الاراضي، ولجنة المتابعة العليا، واتحاد الطلاب الجامعيين العرب الخ.
*إميل توما والثقافة العربية
قدم اميل توما كمحرر لـ "الاتحاد" ومجلة "الجديد" وكقائد شعبي اسهاما كبيرا في الدفاع عن الهوية الفلسطينية والتمسك بها، وعن الثقافة العربية في مرحلة حاولت فيها السلطة الحاكمة وابواقها طمس الهوية العربية والثقافة العربية ونشر العدمية القومية.
ولعبت "الاتحاد" والجديد دورا هاما في هذا المجال وفي نمو كوكبة من الشعراء والكتاب الوطنيين الذين ابتعدوا عن كل تعصب قومي، وكانوا يعبرون في نثرهم وشعرهم عن مشاعر شعبهم وهمومه وآماله.
* شخصية اميل توما
كان اميل يتمتع بشخصية قوية جذابة، يحب الاصغاء للناس وسماع افكارهم وانتقاداتهم، وكان يصل مبكرا الى القرى والمدن التي دُعي للمحاضرة فيها حتى يكون لديه الوقت للجلوس مع الرفاق والاصدقاء والاستماع اليهم.
كان يتمتع بالبساطة والتواضع. وكثيرا ما وجدته عندما كنت اعرج لزيارته في مكتبه المتواضع في شارع صهيون، حاملا مكنسة يكنس المكتب، او واقفا في المطبخ الصغير يغسل فناجين القهوة او صحنا تناول فيه طعامه.
كان يترك البيت في الصباح ويقضي النهار باكمله في مكتبه يطالع ويكتب مكتفيا بغداء بسيط. كان يتمتع بالمثابرة والجلد على العمل.
كان اميل شخصية وطنية وشعبية بارزة، تمتعت باحترام كبير بين الجماهير العربية وفي اوساط يهودية واسعة. كان امميا ابتعد عن التعصب القومي وحاربه وآمن من اعماق قلبه باهمية وحيوية الاخوّة اليهودية العربية، والنضال المشترك للقوى الدمقراطية العربية واليهودية وعمل دائما من اجل بناء هذه الوحدة النضالية وتقويتها.
* على ضريح اميل توما حُفرت الكلمات التالية:
"لقد احببت شعبي حبا ملك علي مشاعري وآمنت بأخوّة الشعوب ايمانا عميقا لا تحفّظ فيه".
في الاحتفال بمرور 10 سنوات على رحيل اميل توما قال توفيق طوبي رفيق دربه منذ ايام الشباب: "مهما بعد عنا رحيل اميل توما، ستبقى بارزة ومضيئة بصمات فكره وآثار نشاطه السياسي والاجتماعي في ساحة شعبه وساحة العلاقات بين شعبي هذه البلاد، من اجل الحرية والاستقلال والسلام والتعايش والتعاون المتكافئ بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، من اجل المساواة وممارسة الحقوق وكرامة العيش للجماهير العربية الفلسطينية في اسرائيل، التي كان اميل بها شريانا ينبض نضالا للبقاء وتمسكا بالارض والوطن وحفاظا على الهوية القومية والتراث ومن اجل مستقبل افضل".
ان نضال اميل توما وتراثه الفكري الغني هوشعلة مضيئة لا تنطفئ وستبقى ذكراه حية في القلوب.
في كلمة الوداع التي القاها اميل حبيبي في اثناء مأتم جنازة اميل توما قال مما قاله: "ان شعبا يجتمع هذا الاجتماع، على درب هذا الحزب وهذا الرفيق على هذا الطريق، شعبنا يحول منصة مأتمه الكبيرة الى فوهة بركان يقذف اللهب واللافا خصوصا في هذه اللحظات، هو شعب باق في وطنه، كتبت له الحياة في وطنه. هذا وطنا واحنا هون! فوق هذا التراب الذي انشأنا وربانا واطعمنا واروانا وكسانا وعلمنا واحتوى رفات اميل توما.
ويبقى اميل في الارض، واما الزبد فيذهب هباء، من الورد الى الورد ويعود وسوف نعود.
زاهي كركبي *
السبت 27/8/2005