خريفيّات (6)
الوصية قبل رحيل البرتقال

انا البرتقال...
جيد في البيت والنزهة.. وفي العيد..
وشائع في الحروب، آت من الارض المعذبة، المصلوبة في ميادين القهر والظلم، عند المساء المظلم يقتبسون لهبي الناري واصبح الشائع كالخبز، الهارب من بيارات "الكيبوتسات" الى عبق وتراب وبساتين يافا البعيدة!
لا تحزنوا
سأرحل عنكم، لاكون ذكرى غربتكم، ومثير عزلتكم واقسم دائما بالسكين الى شطرين متساويين شطر للبحر الذي يذكرني.
وشطر للساحل المستلقي بكآبة رمادية في حضن المدن المنتظرة عودة الفارس..
"لعل الفتى حجر
من بعيد يرى مدن البرتقال السياحي
والكاهن العسكري" (محمود درويش – حصار لمدائح البحر – ص 52).
طقوسي هائلة...
والخرافات على جسدي ملت الانتظار
انا البرتقال اسقط، واسقط
وانتم تسيرون وحدكم.. الى غدكم بدون امسكم.. فأرجوكم سيروا نحو عبيري ولهبي.. ولا تدعوا غيومي تحجب شمسكم..
هل املك ان اختار؟!
استدعي لكم الغبار والاحجار..
وموتي القديم وآلامي القديمة..
وانواع الثلوج والامطار..
ومعادن الافق وطينية الهواء..
الملم لكم اجزائي.. الشائخة فأقبرها.. واجزائي الشابة انثرها نحو الجبل كالبركان.
يا بركاني فيك عرفت كيمياء النرجس، ومصادقة الصدفة والموجة.. وهندسة العنفوان..
أأنا من جنس لهب.. تبت دعوة ابي لهب
ما الغنى ما الكسب
ورغم الشوك والحطب
فالنذير والوعيد قد من لهب..
اللهب.. اللهب..
لهبي..
اصنع من لظاه عنفواني.. وادفن زمن العهر..
وانسى طفولتي البريئة، واستفزكم
برحيقي العبق المقدس كخبز الفقراء..
فأحرقوا معلقات شقائكم.. واتبعوني..
وأطفأوا اشتعالات ايامكم البائسة.. وانشروا راياتكم مرفرفة فوق الريح..
لهبي..
واقف على ضفة العالم، كهدير البحر
اقرع ابواب القدر وينحني امامي الضوء.. ويتوسع المكان لنجوم لا تحصى.. والمدى يتحول في خرائطي البرتقالية.. نحو الجهات الاربع – والثائر الحائر يتنفس عطري يمتطي فوق الرماد لهب الجمر.
انا انتمي الى جنس اللهب..
وأزداد يقينا انني اسير في اتجاه الفجر..
أيها الحائر..
ضاع الحلم كالملح...
وتلوت فيك العواصف، فاقرأ فاتحة فضائك وانطلق.. نحو الولادة الجديدة.
وتدحرج ممتلئا بالنور والزمان والمكان..!
سآتي اليكم.. شظية.. برذاذ البداية.. فلتسقط كل الاشياء.. الافكار، والاعمال، الرؤى والمخططات والاشياء الفاجعة المنغرسة في جراحكم، والتي تحاولون اقتلاعها يوما يوما، ولم تنجحوا فسبقتكم وتكاثرت.
انا البرق..!
عندما تختفي الحقيقة
الهيكل الذي يتحرك وتركع فيه افراحكم الضائعة.. فأفرغوا انفسكم ايها الضعفاء..
من الاحلام الآسنة.. في مياة العادات والتقاليد البالية
واتبعوني..
"البدايات أنا..
والنهايات أنا..
والرمل شكل واحتمال
برتقال يتناسى شهوتي الاولى. (محمود درويش (اعراس) الديوان ص 609).
انا الشهية الشتوية .. الرحيق الملتهب.. حنينا للبيارات الحزينة في يافا المملوكة للغير..
سأرحل عنكم..
لتحسوا وهج الوطن الغالي المستلب..
سأرحل عنكم..
واكره فيكم.. المنفعة المباشرة السريعة
وعبودية السهولة والاغراءات المومسية..
ايها البعيدون عن الآفاق المضيئة..
البعيدون عن التساؤل والتطلع..
الرازحون تحت الامثولات التي تشدكم الىالوراء.. تقيدكم تعلمكم ان تكونوا وارثين.. انسجاميين.. سلفيين.. مقتدين.. تعلمكم القناعة والصبر..
تعلمكم ان تفتحوا هوة بينكم وبين انفسكم.. ملؤها اشياء العادة والامور الصغيرة وتهرمون وانتم في خطوات الطفولة..
آه من عصر ملعون
كل شيء فيه ينطلق من مصنع القهر
استفزكم كطائر الشؤم
فكل شيء لاعادة النظر
ليخلق من جديد كل شيء منتظر – الانسان، الحب، الشعر، السياسة، الاقتصاد والقوة التي تتغير
وهذا الينبوع.. يغذي الطموح.. ويطلق الطاقة المحررة بادئين تاريخنا الآخر الاغر
غير لهبي..
ينتهي تلاطم التوهمات..
وعلى هوامش قشوري..
ينطفئ التوهج الاخير كلما ازداد وضوحا
ازداد ايغالا في الاشعاع..
اكثر من تفكك الذرات..
لن اقبل الخمول المجبول بالجمود، واقبل الجاهز المسبق..
سأبقى اجري في نهر الولادة المستمر للاشياء والافكار والحقائق..
فالانسان اكثر اهمية من المذاهب والنظريات..
لست الوارث ولا المقتدي...
انا الباحث، الحر، الطامح المتطلع الذي يعيد النظر
ودائما يعيد خلق الادوات
أذكركم.. ابقى في مخيلتكم
وان نزعتم ملابسكم وعاداتكم.. احفظوني في ذاكرتكم..
احمل الندى واسكن عطور الصباح..
وتاج الجنات ولهب القناديل في الليالي الهادئة..!
وهدية السياح..
غدا.. تفجرون جسدي
وتعطشون لدمي.. تحت مطر الكآبة..
أيرويكم دم ادونيس المتفجر أحمر من شقائق النعمان من براعم اللوز المكلل بالضياع.. من دموع العنب..؟!
أفي ربيعكم القادم
تدخلون قوس الاسطورة.. المنحني على شاطئ غربتكم..
اجلالا.. واجلالا.. للغضب..
سأرحل عنكم.. ووصيتي لكم..
امتحنوا انفسكم دائما.. لتكشفوا النور
هذا المتدحرج دائما في حنجرة اماكنكم واشيائكم
سأموت من أجلكم مبشرا بالقيامة
لانهي شكل العفن والتحجر لاني لا احيا.. فافضل ان اموت حتى تموت معي امراضي العظمى.. الجمود، وعمل المؤسسات الرتيب فيّ، والعالم السجن الكبير، وعشق الاخضر المدور كالبيكار، وفن الخيانة وفن ادارة المؤامرة والدسائس، والقتل والهتك والاغتصاب اموت لافسح مجيء البرق..
واموت لجسدي العتيق،لكي انبعث في جسدي الآخر..
واموت كي لا اتكرر..
لاصبح ينبوعا.. وعالما فسيحا لا نهائيا من المتفجرات والتعابير فيما وراء الجداريات
والتركيبات النرجسية.. وخطابات الرماد، وانحناء العرش ووصايا الانبياء...
لأكف عن النوم في اسرة الماضي لا توقف عن الرضاع من ثدي الاسطورة والحكايات.
هذه قبلتي الجديدة.. اجترح معجزتها ربيعها الآتي واكون كما اكون..
جوهرا في قرن الحياة والارادات..
واكون الهتاف وامسح عن ارادتي سطوة
الدوائر المملة خارجا من ادوات الثروات
واكون الضوء والورد
والوسائل والممارسات..
والحرية.. اضع المستقبل.. والتاريخ
والبدايات..
انا لست المحايد الأبدي.. كل يوم انفجر.. وتعصرونني بين اصابعكم دما لدمكم.. انا اللون الناري.. فمني تبدأ وتنتهي النيران، ورائحتي اجمل من عطر النساء تثير فيكم الثأر والقتال..
انا اللهيب الابدي..
انا الرصاصة..
"انا الرصاصة التي ضاعت منكم مبكرا واصبحت الذكريات"
"انا احمد العربي – قال
انا الرصاص البرتقال الذكريات"
وهو
"الرصاص البرتقالي"
يا احمد اليومي
يا اسم الباحثين من الندى وبساطة الاسماء
يا اسم البرتقال
يا احمد العادي"!
(محمود درويش – الديوان اعراس احمد الزعتر – ص 596،599، 606)


يوسف حيدر *
الأحد 16/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع