تغريبة بنات أفكاري

إستيقظت على صخب بنات أفكاري من نوم متوسط العمق.. صراخهن كان عابقـًا بالحركة، بالفوضى وبخشونةٍ طفولية ما. كلٌ تحزم حقائبها وهنّ يتقاتلن على الأمتعة:
"هذا كتابي"،
"تلك وسادتي"،
"إنه عطري"،
"لا بل كحلي أنا"،
"إعيدي إليّ حذائي"،
و "أين أخفيت آخر ما تبقى من فرحي" - بالغت إحداهن.

كنّ مستعجلات الخروج، أسرع من دخول زوج الفراشات الصفراء إلى زاوية معتمة في مركب نوح. لم تتأدّب أيّ منهن، لم تفسح أي مساحة من حرية لشقيقاتها، بل تشابكت خطاهن كأقدام أرانب جوعى في حقل يدفّئه الثلج. فظلّت ندوب الأثر الناعم تستدعي عيون آلهة الصيد النهمة، نحو ازدراد الأثر والذاكرة والذكريات.

برهةٌ من دهر انسلّت خلسة في حلمي، وغابت بنات أفكاري عن ناظر قلبي. فتحسر وذرف سائلا ملونا بالفُقدان، ثم عاد ليرتاح في نومة هانئة داخل صدري عند مفترقات الضلوع التي تشابكت كخيوط عنكبوت داوود الهارب للآن من خصومات الاساطير:
هل دخل المغارة أصلا؟
كنّ أربعًا: إبنة النار نورا، إبنة الهواء هويا، إبنة الماء مايا، إبنة التراب رابا ومعهن خامسة (ظلٌ واحدٌ) ترافق حتى غياب أسمائهن، كان اسمها الخامسة، إبنة الهيولي، الأثير الحرّ من المادة. كانت غامضة الحضور، شديدة الغياب، لكن رؤياها كانت كأفق بحّارة الربيع، ترقص فيه النوارس وتطلّ في مداه جزر من توابل وعشق وخبز خمري النكهة.
كانت الخامسة أشبه بفكرة مستحيلة مثل ظل الصوت، خوف الماء، رقصة الهواء، ألم النار وغفوة الارض. كانت تلك الطافية فوق امتداد الغرق والغافية في هذيان الأرق. كانت الأم الصغيرة التي خرجت من أرحام البنات الاربع.. اللاتي غبن بعد استفاقتي حين ضجّت نافذتي بصرخات الشمس.

سأعرف بعد حين أن الأربع سيقطعن بحرًا من السفر. من المستقبل. ستعود ذكرياتهن لترسم أفكاري ببشرة أجسادهن. سيبرحن علبة دماغي، سيخترن الغُربة أو المنفى أو حميمية الابتعاد، لتجد كل واحدة إغريقيّتها، تلك الصفة العتيقة المملوءة بالترحال والموت والانبعاث، ولأجد أنني لا أملك أفكارًا لولا ترحالهن.
اولاء البنات اللاتي اخترن شقاوة الشقاء، طعم الملح الطائف في الأشرعة الممزقة الزرقاء، ولهفة عبور المداخل الغائمة في حَوارٍ يلملمها العشق والخمر والحزن والفقر، رحلن، ارتحلن، وعُدت بعدها لأرى أني لا أملك افكاري.
إنها مُلك البحر والابحار، الشقاء والشقاوة، اللهفة وفقر لقاء الآتي من كل ما تخيلته، بل مما أعي الآن أنني لم أتخيل له وجودًا في أفق تسارع أيام بنات أفكاري التاعسات، ولكن جذلات الهوى ومجنونات الحياة. منهن تتصاعد أيامي كخمور في قبو شقاء أمهات قيد انتظار الولادات، كأبخرة من اشتعال الشموع الكافرة، تلك التي تعشق ذلك النبي الفلسطيني اليهودي ولا تبوّئه رمزًا للسذاجة.. ساذجٌ، نعم، لكنه أبسط، بل وأسذج من عذوبة سذاجة فقراء المؤمنين.

نورا قد تلتقي مايا على جسد رابا في موقد على رمال البحر. وحدها هويا ستظل تحيط أجساد البنات الحاضرات كشبه ظل، لن تكون ظلا حقيقيًا، فذلك هو تجلي الخامسة الخارجة عن تعداد العدّ. هي الخامسة، التي قد تبدو خامسة لكنها ستظل أبدًا واحدة بذاتها، فهي الخارجة عن العدّ والحدّ. هي التي تجعل البنات الأربع المغتربات مع أفكاري نحو التماهي معها، يحملن إسمًا وحلمًا وشخصًا – وجودًا.
هي الامتداد الذي تتاح فيه الحركة بين نقاط ضلوعه ودوائره وأشلاء تقطيعه بمقصات العقل والخيال والنظر.
الخامسة،
صاحبة الفضل المؤسي في جعل مايا مقتولة بالحنين الى البحر،
ودفع نورا لتمتشق اللذة من موجات الدفء الدافق السيّال بين أطياف الأحمر والاصفر في رقصة النار،
وإطلاق العنان لرابا كي تواصل الالتصاق بفضاء هذا الكون،
وبعث هويا محتضرة في التأمّل الصاخب.

حين ستخرج رابا الى شوارع اللقاء مع الغريب ولا تعود تملك عبء الحب في العودة الى سرير مرسوم بإسمها، ستظل الخامسة حبل سرتها مع قيثارة مايا العازفة زرقة بحرية غائمة في آخر الصواري وهو يرتفع فوق سقف الموج.
وكما تمسك أم بتوأميها، ستأخذهما الخامسة المتوحدة بذاتها، الى نورا السابحة في بخار خمور الشجر المشتعل، حين تتراقص منه صور تنسجها هويا الواقفة ببسمتها على حافة معبد شرود المتأملات في صخب هذا السكون المفجع.

الخامسة ستبقى معي،
إمتداد نظر قلبي الواصل الى بنات شرودي،
منها سأرضع شغف القطرات التي تطفئ فيّ تعب ارتحالهنّ مني، فأشعر بحلاوة تذوقهن البياض في شفتيّ..

الخامسة،
ستحفظ لي الكون امتدادًا مذهلا ومرعبًا يحنو على عجزي وعلى قواي الخائرة الممنوعة من ملامسة حدود هذا السر.

الخامسة،
ستكون الحمامة الزاجلة العائدة دومًا بأخبار الارتحال الأول:
مايا في قطرات الوتر،
هويا في معبد الشرود،
رابا في نثر بذار التراب،
ونورا في السباحة الخمرية حتى الغرق.

وفي موقد يشتعل بلون احتراق حبات البنّ على قطعة رطبة من رمل حيفا، ستطير النار الى الملح المائي، تسخّن ضلوع الأرض لتتلون حبات الهواء بالجمر الخفيف المتطاير قليلا حتى يخبو.
في هذه القطعة الصغيرة ستكون رحلة بنات أفكاري، أو صدى أجنحة خروجهن الذي لا يعرف أحد حدود امتداده المبهم.
يومها لن أعرف مكاني بل سأشعر به نقطة غير قريبة ولا بعيدة، تتراقص كما أشرعة قارب أخضر سابح على سطح من لهيب برتقالي وقد أحاطه سرب من الهوام المضيء بخفوتٍ بالكاد يُرى. سألجأ الى الخامسة، لأعرف مجددًا أنه لا مكان أخير، لا زمن قد انتهى ولا شيء هو نفسه.
أنا في بداية لم تبدأ بداية مطلقة.

سأسقط في نهر الشيخ اليوناني الملتحي العائم جدلا في أفكار النار العميقة عند القعر، فلا أجد لي لحظة أرى فيها جسدَ مكاني. أواصل انتظار عودة الأربع من ترحالهنّ، دون أن أتيقّن، هل ارتحلن فعلا، أم انه وهج اشتعال الموقد البحري على رملات مدينتي؟

وأملا في إشفاء نهم الاسئلة المشتعلة في ضلوع شرودي،
أمعن في التغريب

وفي ما يشبه الحلم،
أرى قصص حياة الأربع تتراقص كحدود اللهب الدافئ الخارج من جسد زيتونة تعبت من المعنى،
يأكلها شبق أن تظل خضراء فقط
 كما هي الزيتونات
ستصرخ: ارحموني من المعنى.
أقطفوا عني هذا الحِمل.

في صباح الشمس القادمة سأحتار بألم: أهذا البرتقال السابح على ريشات غيمات الأمس هو رقصة نورا، أم وتر جامح من قيثارة مايا، أم جذر مكشوف الصرخة حفرت فيه رابا وجودها، أم انه عيون هويا الزائغة في سراب الظل المرعب؟

سأنام،
سأحلم،
سأرى،
سأشمّ،
سأغيب،
سألمس ما لا يلمس،
سأعود الى لذة تحسس صور النائمين في موتهم المؤقت،
سأفيق،
سأعتدل في جسدي وأنظر من النافذة الى سماء جديدة حلت على عيوني الناعسة.

في ليلة القمر السريع سيذهب الصَّحب.
سأسمع صوتين في ذاكرتي لنغم اللذة الآتية من الذكرى.
سأغوص في مائي الإعتيادي.
سأسمع صوت الفرح الغائم في سماء مدينة لا تزال تعتدل منذ قرنٍ مع نقيضها.
سأتذكر الطارقة باب حريتها من نوافذ نصوص حبها لي، ثم سأرتجف.
سأرسم في خيالي الرصاصي الصاعد من بين عواء كلبيّ جارتي وأمها الغريبة، صوتـًا للصدى المرتدّ من خوف قلبي حين امتلأ بحبٍّ ممنوع، متعذر على الكشف والانكشاف.

ستعود إطلالتهن مع صوت غيمة الصمت المنجّي من صيف المدائن الملأى. سترقص نورا عندما تعزف مايا على نيران تُقدح من خشونة تربة رابا الممتدة منبسطةً على قدميّ شرود صغيرتي الحبيبة هويا.. لن أرى، كما لم أرَ أبدًا، ابتسامة الخامسة الساحرة عند آخر خطوط قمر الليلة المظلوم الذي تنهشه نسور الفجر، كما كبد صاحب الصخرة المتـّهم بسرقة العقل من براثن السادة.

على شعاع متمرّد نازل من سيدة النور الصابرة ستعلق شعرة سمراء ارتحلت عن جدائل نورا المنعوفة كفوضى الفقر والطيبة. تنفخ هويا عليها من برج مزاميرها المغنّاة لآلهة جميلة لا تعرف الخلود ولا القسوة، فتترنح الشعرة السمراء راقصة في الأفق السابح حتى الشاطئ.
هناك ترقد بسلام، نصفها في الماء المالح وما تبقى لديها من جسد يتمدد على رمل فيه صدَفة زرقاء.. حين أدقق النظر ألمح أصابع مايا تتأرجح وهي تمدّها في الماء بينما رابا تسند الشعرة بصدرها المُتْرَب.

نورا تتوسّط الآن أحضان شقيقاتها وبعض ضلوع فيّ تدمع من كل هذا الحب.

في عتمة الحلم يطل عليّ صوت: لقد ارتدت مايا زيّ حوريات الأزرق الموغل في السؤال، وهذه الليلة ستحلّ في خشونة أيام رابا الممتدة رملا متصخرًا بطعم رائحة الملح الفاسد. وعندما يقطع القمر نصف عمره لتلك الليلة المتسارعة الى الاتشاح بنور الفجر فاقد الصبر هش الانتظار، ستكون نورا قد اكتملت في حضورها المشروخ بين نعومة القمر وفجاجة خيوط سيدة الوقت الصفراء القادرة على إعادة رسم شيء بألوان قسرية، كالحياة. وهويا، تلك المترنّحة بثمل التأمل ستتداخل بين ضربات الموجات المصطدمة بكاسر روحها، وبين اندفاعها المجنون من رحم الأزرق المارد..
لن يبقى سوى دقات الحلم: هل كانت عودة ملتقى المُغتربات مجرد الموقد هناك على قطعة من جسد الـ حيفا حين تداخلت موجة من سلاسة شاطئ اسبانيا البعيد في رملات دحرجها زمن تسارع البؤس من صخرة في الكرمل، على وهج نار راقصة محكومة بالذوي في كل هبّة شقيّة لهواء مدينة البحر،
أم أن ضلوع التغريبة الأربع صَنَعن سَيرهن في خيالي المتوعّك لقلة الاقتناع بوجوب كل هذا الوجود العصيّ على الإدراك؟

حين أقع ثانية في براثن اليقظة سيظلّ السؤال يشتعل حتى في غلاية قهوتي.. سأنادي الخامسة الساخرة في صدري، لكني لن أسمع منها سوى ثنايا قهقهة ماجنة لا تلائم طفلة وادعة في مثل سنوات انسيابها الخفيف.

وعندما سيُمنح الفجر عمره الذاوي، ستلعب الريح بخليط من رمل ورماد سكنته رطوبة البحر.
سيظل السؤال شيئًا كذلك التداخل المالح بين المدينة والبحر.
 لن تعود بنات أفكاري من تغريبتهن، لكني سأتحسّس داخلي فأراه قد امتلأ  كما لو أن كل ما وقع قد سقط عميقـًا فيّ.
سأشيح بنظري الى عيون الشيخ اليوناني الهازئ قرب النهر، ولن يصل إليّ سوى صدى قهقهتها،
الخامسة الشقية، التي تحلّ في كل مكان ولن ألتقيها في أي مكان..
تغريبة!

أيار 2003



هشام نفاع
السبت 15/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع