نصٌ على نص:
السعادة، الحرية، والخيط الوهمي ما بين الفاعل والمنفعل

*في أعقاب "نحن والتراث - قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي" - د. محمد عابد الجابري، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت /الدار البيضاء، ط6 – 1993*

انه مشروع قراءة جديدة للتراث. متوازن وأقل حدة  من مشروع القراءة الجديدة للتاريخ العربي والإسلامي الذي قدمه لنا شهيد الكلمة والموقف د. فرج فوده. وهذه المقاربة لا تعني المفاضلة بأي حال من الأحوال. ولست بصدد نقد فكر الجابري أو تقييمه.
إنني أعتقد أننا بحاجة الى قراءة جديدة في كل شيء. الى قراءه ثورية جادّة، غير توفيقية بين العقل والنقل او بين الفلسفة والعلم من جهة، وبين الدين من الجهة الأخرى. أو بين ما لقيصر وما لله او بين الشاهد (الدنيا) والغائب (الآخره). اذ انه وفي معتقدي التوفيق في مثل هذه المواضيع يصل حد التلفيق، لاختلاف المستويات بين الثابت والمتحرك، بين الدين والعلم، وبين الإيمان الذي هو غير خاضع للجدل لأنه تصديق بالقلب وبين الفكر والفكر الديني كنتاج بشري اجتهادي خاضعٌ للنقد وللنقض.
والمقصود بالقراءة المعاصرة لدى الجابري هو: "جعل المقروء معاصراً لنفسه معناه فصله عنا. وجعله معاصراً لنا معناه وصله بنا.." اي اتباع منهجي الفصل والوصل بالراهن. والعلاقه هنا جدلية: مطلوب من "الثوره" ان تعيد بناء التراث، ومطلوب من "التراث" ان يساعد على انجاز الثورة.(ص15) ليس عن طريق النسخ الكربوني او الآليه الميكانيكية. والعملية أشبه بعملية الولادة العضوية، فيها يولد الجديد من رحم القديم في زمن متطور باستمرار وفي بيئات مختلفة. سواء كانت مشرقية تميل الى الغنوصية كما عند ابن سينا والسهرودي أو مغربية عقلانية كما عند الفارابي وابن رشد والمعتزلة والكندي. وهنا ليست التقسيمة شرق/غرب لأن المعتزلة كانت في الشرق كما كانت في الغرب،

    
(Genosis بمسألة العقل والعقل الأكبر والتجربة العقلانية كما وكان الغنوص  في الغرب والشرق  بمسألة العرفان/المعرفة الجوانية والتجربة الوجدانية).
يقول الجابري انه علينا دراسة العقل بواسطة العقل. ودراسة الفارابى بواسطة الفارابى وكذلك افلاطون وارسطو. وان:
"التراث ليس بصناعة ثم انتاجها دفعة واحدة خارج التاريخ، بل هو جزء من التاريخ، هو حركة الفكر وتطلعاته خلال مراحل معينة من التطور وبالتالي فهو لحظات متتابعة ألغى بعْضُه بعضاً او كمّله، لحظات فكر يعكس الواقع ويعبر عنه ويؤثر فيه سلباً او ايجاباً. ولذلك فالتعامل مع التراث تعاملاً علمياً يجب ان يكون على مستويين : مستوى الفهم ومستوى التوظيف او الإستثمار."(ص47)
يتحدث التاريخ وبضمنه التراث عن الماضي. لكنهما يحملان احياناً  في طيّاتهما العقائد والإيديولوجيات و "هنالك ايديولوجيات تعيش "مستقبلها" (= حُلمها) في الماضي. اي هناك ايديولوجيات تعيش مستقبلها في الآتي. وهذا الصنف هو وحده نزوع نحو هذه الحياة. " (ص48)
الجابري، في المبادئ التي يطرحها لقراءة جديدة للتراث يتقبل الروح الرشدية. هذه الروح التي يقبلها عصرنا،لأنها متطورة مع روح العصر في مسألة "العقلانية والواقعية والنظرة الإكسيومية والتعامل النقدي"، بعكس روح ابن سينا والغزّالي والسهروردي الحلبي المشرقية الغنوصية الظلامية الإشراقية التي تشد الى الوراء. ولا تعتمد المعرفة انما العرفان". ( ص 52)
وهو يخلص الى القول: "يجب ان نتطلع الى بناء هذا المستقبل انطلاقاً من معطيات واقعنا وخصوصية تاريخيا ومقومات شخصيتنا". (ص53)
لقد انتقل الفكر العربي الاسلامي رويداً رويداً من فكر "الميتوس" الجاهلي الى فكر "اللوغوس".. من عبادة الأصنام وتعددية الآلهة الى التوحيد. من الفكر القبلي الذي يعتمد على الإقتصاد الرعوي الى فكر المدينة بمكة، الفكر المديني التجاري والديني ثم الى مجتمع دولة دمشق وبغداد ومنه الى مجتمع الإمبراطورية الإسلامية واقتصادها التجاري البضائعي القائم على المبادلات العالمية. الذي يحتك بباقي الحضارات العالمية وفلسفات باقي الأمم واللإنفتاح عليها، التأثير فيها والتأثر منها، من الهند والصين الى اوروبا.
من هنا جاءت "المدينة الفاضلة" للفارابي بعد "الجمهورية" لأفلاطون وجحيم دانتي "الكوميديا الآلهية" بعد "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي و"حي ابن يقظان" لأبن طفيل، وغيره وغيره نتيجة هذا الإحتكاك الحضاري.
ومن هنا، فكل قراءة لكل من هؤلاء يجب ان تكون على ضوء معطيات عصره ومشاكل زمانه ومكانه ومجتمعه. هذه القراءة التي يجب ان تكون قراءة واعية ونقدية منهجية لا تؤمن بالمسَلّمات والتي "تميّز بوعي بين المحتوى المعرفي والمضمون الإديولوجي".(ص 1).
الغريب في الأمر ان الفارابي مادي الى حد بعيد في فكره المثالي، فهو يعتبر ان السعادة التامة ليست متوقفة على مفارقه النفس للبدن بمعنى الموت بل متوقفة فقط على استكمال العقل النظري ، اي على المعرفة بحقائق الموجودات.
لذلك يسخر الفارابي من الذين يعتقدون ان السعادة الحقيقية انما تكون بعد الموت، فيقول: "يلزم هؤلاء ان يقتلوا أنفسهم وأن يقتلوا الناس جميعاً". ان الفارابي بالعكس من ذلك يوصي سكان المدينه الفاضلة بالحرص على الحياة من اجل خدمة مدينتهم. يقول: "ليس ينبغي للفاضل ان يستعجل الموت، بل ينبغي ان يحتال في البقاء ما امكنه ليزداد من فعل ما يسعد به، ولئلا يفقد أهل المدينة نفعه لهم بفضيلته، وانما ينبغي ان يقدم على الموت اذا كان نفعه لأهل المدينة بموته أعظم من نفعه لهم في مستقبل حياته". (ص 113).
يذكر ابن طفيل بمقدمه قصة حي بن يقظان "ان الفارابي كان يرى ان السعادة الإنسانية انما تكون في هذه الحياة التي في هذه الدار (= الدنيا) وان كل ما يذكر غير هذا فهو هذيان وخرافات عجائز." (ص113)
اذًا، السعادة هي غاية البشرية وهي عند الفارابي تكون حين استكمال العقل واستكمال العقل يكون عند المعرفة. هذه المعرفة هي الاستزادة كما عند سقراط، هي انك كلما عرفت اكثر اكتشفت كم انت جاهل. ولدى ابن باجة فيلسوف الأندلس ان "الأنسان الذي يحيى ويعمل بعقله ويعنى بتثقيف عقله " يكون "احسن الناس نظاماً وأحبهم الى الآلهة" وهو جدير بالخلود "وأحق بالدوام"وان مشروع ابن باجه يبدأ حيث ينهى مشروع ارسطو في مسألة الأخلاق والسعادة الكاملة، ثم يتعداه ويرفض ان تكون السعادة مرادفة للذة. (ص196)
السعادة تأتي من طريق المعرفة وديمومة البحث وراء المعرفة تأتي لنا بتراكم السعادة. يقول ابن باجة ان "خلود المعرفة يستتبع خلود العارفين." ذلك هو معنى "اللقاء الآلهي". (ص 207)
وعليه فانني اعتقد ان بلوغ السعادة بالمطلق لدى البشر غير ممكن التحقق لأن المعرفة كرّة نسبية وكرّة ً أخرى لا حدود لها.. فلا معرفة مع تزمت فكري وجمود عقلي لأن المعرفة هي أولاً وقبل كل شيء ضد التعصب بجميع أشكاله وضد الخرافة وضد أسطرة الواقع. بناءً عليه يجب أن نقرأ فكر أجدادنا قراءة جديدة خالية من التعصّب وذات دينامية داخلية عميقة. يقول الجابري انه "بدون هذا التواصل سيبقى تراثنا الثقافي، كما كان منذ قرون، تراثاً بدون دلالة، فيظل حملاً ثقيلاً علينا معوقاً لمسيرتنا." (ص 213) وقد كان مفهوم ابن رشد فيلسوف قرطبه قريباً من هذا النهج العلمي والعملي التجريبي، اذ ان العلم هو "ادراك النظام والترتيب الذي في الأشياء." (ص223)
بالإضافة لذلك يربط ابن رشد ازدياد المعرفة بإزدياد الحرية عند الإنسان وتحقيق ارادته – (ص226) – نحو المستقبل بواقعية وعقل مفتوح. واضح أن إبن رشد يجدد هنا ويربط ما بين السعادة والمعرفة والحرية.
ويقينا ان فكر الأجداد بالنسبة لي على الأقل لا يقتصر على اجدادي العرب انما يشمل الأجداد السومريين والبابليين والآشوريين والفراعنة والكنعانيين / الفينيقيين والكريتيين/ اليونان واليونانيين والرومانيين والقرطاجيين وحتى الصينيين والهنود والهنود الحمر بأمريكا.
ويقينا ايضا ان دراسة فكر الأجداد تعلمني كونية العقل البشري وتحميني من الضياع بمتاهات غيبية وتؤكد لي ثقتي بنفسي وتعلمني كيف تنشأ الحضارات ولماذا تزول او تتراجع !
اذن فالسعادة ليست المعرفة من اجل المعرفة وهي ليست فقط "ابتهاج المدرك بما ادرك"، وهي ليست فقط لذَّة الكشف او الخلق والإبداع وهي ليست فقط حسيَّة. وهي ليست فقط ما احس به الآن عند الإنتهاء من هذا العمل الفكري. إنها حريتي المطلقة والنسبية في القراءة والكتابة بهذا الموضوع. إنها كل هذه العوامل مجتمعة، انها ذلك الخيط الوهمي الذي يربط ما بين الفاعل والمنفعل او الكاتب والقارئ المتفاعل مع النص سلباً أو ايجاباً.

 

 
 محمد عابد الجابري / بطاقة


 مواليد فجيج (وجدة- المغرب) 1935
 دكتوراه الدولة في الفلسفة. كلية الآداب. جامعة محمد الخامس. الرباط 1970
 أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بكلية الآداب،جامعة محمد الخامس الرباط، منذ 1967
بين مؤلفاته: العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي 1971 / مدخل إلى فلسفة العلوم : جزآن 1976/ نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي 1980. (ترجم إلى الإسبانية) / الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية  1982 / تكوين العقل العربي. 1984 / حوار المغرب والمشرق : حوار مع د. حسن حنفي  1990 / التراث والحداثة: دراسات ومـناقشات 1991 / المشروع النهضوي العربي  1996 / العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. 2001.


وليد الفاهوم
السبت 15/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع