القضاء والقدر

كلما عاودني الشعور بالوحدة تذكرت تلك الايام التي قضيتها وحيدا بمعية جثة ذلك الجندي الذي لم اعرف حتى اسمه، أسميته القضاء وكنت انا القدر، او ربما كان هو القدر وانا القضاء! لا اعلم!!!

كان جسده ما يزال دافئا وعرقه لم يجف، تساقطت القطرات من جسده ومن خصلات شعره حتى وجهي.
لم ادرك كم ليلة مضت وانا مختبئ تحته، ألوذ بنفسي من هلاك محتم، مر العديد من الجنود فوقي لاهثين، بيحثون عني وعن آخرين كانوا قد فروا من الجبهة. اصطدمت قدماي به، وقعت ارضا. كان وجهانا متقابلين، انفاسه مقطوعة وانفاسي محمومة، لم افكر سوى بنفسي وكيفية النجاة. ارتعدت خوفا وأظنني فقدت الوعي لساعات.
استيقظت على صوت أحدهم يناديني، اردت ان اصرخ واعلن عن وجودي، لكني صمت ولازمت مخبئي.
عاودني النداء وألح المنادي بالسؤال، جثة ملقاة على الارض.
ضبطت انفاسي، تحملت العبء الثقيل على صدري. همست بأذنه دغدغت خاصرته وكلمته:
- من تكون؟
- يسمعني يفتح عينه اليسرى وعينه اليمني مخضبة بالدماء، يلتف نحوي فينزلق رأسه ليحط على صدري قوّمت رأسه وأغلقت عينه، سكنت تحته وسمعته يقول:
- من تكون؟
- أكون.... اخشى البوح عن اسمي فالمشنقة حاضرة للفارين.
- كم ستلازمني؟
- هل سئمت مني؟
- نعم، تؤرق منامي.
- هل ستظل نائما والآخرون يبحثون عنك، الن ترجع الى عائلتك؟
- هل تعتقد ان عائلتي تنتظرني؟
- بالطبع، انهم يهيئون لك احتفالا
- مسكينة زوجتي، لو اعلم ماذا وضعت، تركتها حاملا في شهرها الثالث، اعتقد انها جاءت بوليد، وماذا عنك؟
- انا! عازب والحمد لله. هل تريدني ان اوصل لعائلتك أي شيء قبل ان اغادر.
- هل ستغادر؟
- طبعا وهل تعتقدني سأمكث هنا!
- اصبحت الشمس عمودية، شقت السماء باشعتها فوصلته مباشرة. تجفف عرقه وتنثر حولي رائحة دمائه. كدت اصاب بالغثيان ووددت لو اخرج من مخبئي وافارقه لكن صوت الاقدام طرقت الارض طرقا.
- سقطت ذراعه وظهرت اصابعه متكورة جامدة، اردت ارجاعها فلم استطع، طلبت منه مساعدتي فلم يرض، واذا به يقول:
- اريد منك ان تدفنني قبل ان تذهب، هل تستطيع؟
- طبعا، سأفعل فاكرام الميت دفنه دعني اخرج الى العمل، تنحّ جانبا ارجوك، آه كم انت ثقيل ما زلت احتفظ بمديتي ستساعدني على الحفر.
- وعندما انجز الحفرة رجع الى (القدر) قائلا:
- لقد انجزت القبر، هل تريد ان ادفنك الآن ام تنتظر حتى المساء هكذا اضمن رحيلي في العتمة فلا يراني احد.
- كما تريد ارجع وتوار تحتي، اريد ان اقول لك شيئا.
- ماذا تريد انتظر حتى آخذ موقعي لئلا يغافلني احدهم واذهب مثلك في خبر كان.
- اعلم انك رجل تقي ورع.
- اذن لا تعرفني، لست تقيا ولا ورعا لم اذكر يوما صليت ولا صمت فيه.
- هذه سمعة غير طيبة، لذلك اقترح عليك تبادل الادوار فانت اولا غير مؤمن، ثانيا اعزب وليس لك اهل يعتمدون عليك، موتك لن يضر أحدًا، اما انا فلي عائلة وزوجة بانتظاري ما هو رأيك؟
- تسألني رأيي هل جننت! تريد ان ادفن عوضا عنك؟
- نعم هلا فعلت هذا المعروف؟
- معروف! اولا تطلب مني حفر قبر لك والآن تريدني ان ادفن نفسي فيه؟ ما بالك تهذي هل جننت؟
- يجب ان تسدي لي معروفا، ألم أحميك؟ بفضلي ما زلت على قيد الحياة.
- نعم، نعم اعلم لكن..
- لا تكن ناكرا للجميل، الا يكفي انك عديم الايمان؟ البقاء بالنسبة لك مر الحياة ستتعذب كثيرا صدقني، ثم الا ترى ان الحروب مستمرة ان خرجت حيا من هذه الحرب واشك بذلك، ستؤخذ الى حرب جديدة. اما تموت كضحية واما يكون مصيرك بتر احدى قدميك او ذراعيك، الا تراني؟ فقأت احدى عيني قبل ان تفارقني الروح، نزفت حتى نالتني رصاصة في قلبي، انهمر عليّ الرصاص كالمطر كم هو مغفل ذلك الجندي لقد خسر عشر رصاصات، بامكانه ان يقتل بهما عشرة رجال ليس كل من يحمل سلاحا يتقن استعماله لو سألتني كم رجلا قتلت لقلت لك اني قتلت كل رجلين برصاصة واحدة، وانت كم من الرجال قتلت؟
- لا احد، لا استطيع ان اقتل.
- لا تقل لي انك جبان انك بالفعل جبان، لو لم تكن جبانا لم احتميت بي فانا الشجاع المقدام وحتى بموتي ابقى كذلك، الا ترى كم انت مدين لي؟ اضيف لسجلك عيبا آخر.
- هل لي عيوب؟
- نعم اولا عازب، ملحد فجبان.
- وهل هذه عيوب؟
- نعم العازب الذي لم يكمل دينه، الملحد لا يحبه الله، والجبان لا يستطيع الحياة في هذا العصر. صدقني الموت لك اشرف من البقاء. فانا اكبرك بكذا سنوات ومررت بتجارب كثيرة والحكمة تقول اسأل مجربا ولا تسأل طبيبا.
- اذن ماذا تقترح؟
- اقترح ان تعيد لي حذائي وتلبسني اياه فلا يجوز لي الرجوع الى بيتي حافي القدمين.
- خذ حذائي وسهل علي الامور، اكيد انك ستطلب مني تنظيفه بعدما جرفت كل هذه الرمال فيه.
- سيكون حذاؤك ضيقا فانت انحف مني والا لما استطعت الاختباء تحتي.
- لا تذكرني بثقلك انا لا افهم كيف كبرت واصبحت كبيرا بهذا الشكل! متأكد من انك ولدت عملاقا لا اتصورك كنت صغيرا في يوم من الايام.
- اعتقد اننا نتأخر، هيا اذهب واحضر الحذاء. كم اتمنى ان يتحول هذا الحذاء الى قارب، اخترق به الصحراء الى الشاطئ القريب ابحر فيه، اكيد سيكون وصولي اسرع،ما هو رأيك؟
- لا تطلب مني ان احوله الى قارب لا استطيع ذلك.
- لا سأطلب منك شيئا آخر، اريد ربطة عنق، يجب ان التقي زوجتي واولادي وانا مهندم الملبس ومرتب، ما رأيك؟
- ماذا؟ يا لك من متطلب جشع تطلب ربطة عنق وبعد ثوان تطلب مني بذلة وربما ايضا قبعة، ما لي انا وهذا الهم، انك تدعني اطلب الاسراع في دفني حيا كي اتخلص منك، هيا هيا افعل والا انطلقت مجنونا وسط هذه الرمال والله معك حق بان الموت ارحم لكنني لا اريد ان ادفن في تراب مليء بالدماء، تعال انظر كيف امتلأ القبر دماء!
- اني لا ارى شيئا.
- اقترب الى هنا نسيت انك مقتول... كيف سترى فالموتى لا يرون.
- خسئت الميت يرى كل شيء ؤيأبى النزوح عن ارضه ما ذنبه بكل هذه العراكات الا ترى انني اذرف الدموع، انت الذي فقدت الرؤيا اتشبث بالحياة اريد ان احيا اعيش حتى لو كان الجوع ينهك معدتي لماذا ولدنا اذن؟ لنقتل؟ ومن اجل من؟ لا اريد ان اموت اريد ان تعيد الي الحياة، ارجوك اعد الي الحياة، اركع تحت قدميك امنحني اياها لثانية، احب الحياة لم لا تمنحني برهة منها، لحظة عمر، لم لا نتقاسم الروح ليس من العدل ان تملك الروح لوحدك، اعطني نصفها اما ان نحيا معا او نموت معا اين هو العدل؟ آ آ آه لو استطيع اغتيال كف الحروب التي تغتالنا.
- هل تبكي؟ لاول مرة ارى ميتا يبكي يكفي يكفي سأمنحك حياتي لكن بشرط ان تزرع وردة على قبري اكيد انها ستنمو وتزدهر وستكون رائحتها دماء في دماء هل توافق؟
- لكن لا يوجد هنا ورود انسيت اننا في صحراء، يوجد صبار فقط.
- تتهرب اذن لقد لبيت لك جميع طلباتك ولا تريد ان تلبي لي طلبا بسيطا مثل هذا؟ انك خائن تسيء لمن اكرم اليك. لقد منحتك كل ما يحلم به المرء، وانت لا تريد ان تمنحني أمنية بسيطة والله العظيم ان لم تأت بوردة الآن وتزرعها فوق قبري سأقتلك، ساقتل ولاول مرة في حياتي بل سأعدمك واعلق رأسك على قمة قاربك وارسلك بلا جسد الى عائلتك، من تظن نفسك؟ تدعي الحكمة والشجاعة وترخص من قيمتي، تنعتني بالجبن، هيا تعال اقترب الى هنا لاريك كيف انني قاتل مثلك، الآن فهمت ان القتل من سمات الانسان ساقتل كي ابقى قويا سابدأ بك وانتهي به...
- بمن ستنتهي فلم لا تبدأ به اولا؟
- انك تستفزني، بعتها نعم تغضبني وتغتصب هدأتي
- كلا فقط اردت ان اعرف بمن تريد ان تنتهي؟
- سأبدأ وانتهي بكل واحد يشبهك يا لك من مراوغ مخادع، تدعي الفضيلة، الشرف والايمان تعال سأخلص عليك الآن وانجو بروحي التي بعتها لك، لن ادعك تدفنني حيا.
- تعارك الطرفان اوسعا نفسيهما ضربا، اهتز الجسدان، سقطا ارضا منهكين مرهقين، تلفحهما ريح الصحراء وتأخذ احدهما ارى ارضا ملساء كان قد وقع من سريره بينما يحلم ويستذكر الحروب وحادث الاختباء تحت جثة احدهم عندما كان في ريعان الشباب.
يهرول حفيده نحوه يساعده على النهوض، يضعه في كرسيه الهزاز المعهود، بجانب منضدة مستديرة وضعت عليها زهرية مليئة بالورود الحمراء، يجثو تحت قدميه الحافيتين يلبسه حذاء البيت يطالبه بالمزيد من سرد الذكريات.

(ابو سنان)


دينا سليم مطانس *
الأربعاء 5/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع