ممدوح عدوان . . حاضر وان مضى

اكثر ما يميزه في تلك الليلة انه حاضر البديهة، متقد الذكاء بما لا يجارى، تقابله اول مرة فتشعر انك على لقاء دائم معه وانسجام ازلي، تودعه وكأنك على موعد قادم ليس ببعيد، هكذا هو لطيف المحيا، بهي الطلعة، مقبل دائما على الحياة وفرحها مقتحما ترحها بابتسامة لا تعرف الهزل بل تلخص الواقع وتمسح على رأس اليتيم تخفف من اوجاع الجياع والمشردين والضائعين والمقذوفين على هامش الطرقات وبين الاشجار، هكذا هو يجتاز كل تردد وارتعاش في جدلية الخوف والجرأة والتردد والمراوحة والاقدام بين تلكؤ ومبادرة، فينتصر دوما للحقيقة والاقدام والثورة والتغيير. لم نمهله نحن الذين ندب على الارض بتناقضاتنا طويلا كي ينظّر ما يشاء وكما يشاء بل اقفل عائدا لا مسافرا بعد ان مارس بلا كلل كل النظرات الثاقبة وسبر بكل اقتدار غور المجهول وخاطب الى غيره مرة كل المظلومين والطغاة... نعم كان يميزه في تلك الليلة الحاضرة يوم تأخر عن موعد منزلي في لقاء دافئ في الزرقاء لكنه قدم بعد العاشرة مساء فابتسم كما ظننا حينها اننا اعتدنا على تلك الابتسامة والقى باللائمة على صديقه القادم معه (معالي الدكتور خالد الكركي) رئيس رابطة الكتاب حينها بأنه سبب تأخره عن ا لموعد.
ما لبثنا بعد ذلك ان جلس وجلسنا فتحدث وتحدثنا فاذا بحديثه يسعى ليلتهم الدقائق والساعات وينقلنا لا بل ينقل الى غرفتنا صوره الموجعة وحقائقه وآلامه ووجدانه، فاذا بنا حينها قد تلاقينا لاول مرة ايضا مع سليمان خاطر، في حينه كان سليمان خاطر الاسير والضحية، القتيل والقاتل، وصيحة بصوت ممدوح عدوان يجلجل في فضائنا الصغير يتلو علينا فاتحة الحقيقة ويسرد اوجاعها حكايا واساطير، يمزق حجب الغد وشمسنا القادمة وافقنا الذي لا يغيب.
قبل الانهيارات الدولية الكارثية التي اصابت المعسكر الاشتراكي والتي اخلت بالتوازن الدوليه لصالح القطب الامريكي الواحد الذي ما زال يمارس حقده وغطرسته، عصف ولا زال يعصف بالعالم وضمنه عالمنا العربي وقطع ولا زال يقطع ما تبقى من اوصال التقارب العربي، حينها أتى ممدوح عدوان في تلك الليلة فالتقينا بقدومه احلامنا القديمة، فلقد كنا في ذلك القديم القريب لدينا القدرة ان نمارس حقنا الطبيعي في ان نحلم فكان ممدوح ليس الاديب الكاتب والشاعر فحسب بل الملهم واحد الرموز الذين بمجملهم يشكلون الروافع وادوات الفعل في الحراك السياسي والتقدم الاجتماعي ويجسدون بحضورهم واقلامهم معالم احلامنا ويصوغونها واقعا مقنعا قابلا للتداول والتناول...
انه الموت الذي يغيبهم عنا كما سيغيبنا عنهم، لكنه الموت الذي يضع حدا لحلم الفرد، فان كان كذلك لكنه لن يغيب وجودا وحضورا حيث يكون كممدوح عدوان الذي اصبح مخزونا في وعاء مكتبتنا العربية وفي وجدان وذاكرة لن تنضب.
ايها الحاضر حتى في رحيلك... سلام عليك مقاتلا لم تلق سلاحك يوما، ولم تهن، سلام عليك قابضا على قلمك وقلمنا وكلمتنا نحن الامة.
لك قبلة حرى على جبينك يوم ترحل كما كنت دائما رافع الهامة. يوم تودع صخب الحياة وعبثها وانت الفارس تمضي منتصب القامة، تمضي ونحن على ذكراك نهتدي في دجى الليل وصمته اثرًا على اثر... فنم انت في مرقدك قريرا، انك قد أديت الرسالة... وأوفيت الامانة.

(الزرقاء – الاردن)


د. تيسير ابو عاصي *
الأثنين 3/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع