ممدوح عدوان: حرية المبدع المتعدد

*جاء كل هؤلاء الى المدينة وحلموا بأمة عربية حرة وحديثة، وتطلعوا الى فلسطين والتقدم الاجتماعي. انتهى الزمن الى الخيبة وبقيت كتابة ترثي زمنا مضى، الى ذلك الزمن الجميل انتسب الشاعر السوري ممدوح عدوان، الذي ظل يصر على أمرين: رثاء ما مات والبحث عن قيامة جديدة *

أعطى ممدوح عدوان لكتابه الأخير عنوانا ظريفا "حَيْوَنة الانسان". تحمل الكلمة الأولى، باللغة السورية اليومية، دلالة ساخرة، تعني الانسان القليل التهذيب الذي يتصرف كما لو كان حيواناً غير أن هذه الكلمة أي "الحَيْوَنة" تشير في كتاب عدوان الى الانسان الذي حوّله الاضطهاد الطويل الى "حيوان" والذي تعود الاضهاد الى درجة أنْسَتْه انسانيته. تبدو الكلمة ساخرة، في المستوى الأول، ومأساوية في المستوى الثاني. ربما يكون هذا المأساوي- الساخر- مدخلا الى شخصية ممدوح عدوان. فوراء قهقهته الشهيرة الساخرة يقف انسان حزين، يرى الى واقع يومي لا يحتمل ويرد عليه بضحك تخالطه الدموع.
اذا كان علينا أن نطلق على عدوان صفة ملائمة، فإن الصفة الجديرة به هي: المتعدد. ذلك أن هذا المبدع، الذي أعطى ديوانه الأول "الظل الأخضر" 1967، ما لبث أن زاول الى جانب الشعر، أجناسا أدبية مختلفة. المسرح الذي كتب له 24 مسرحية بالأضافة الى روايتين، وترجم عن الانكليزية ثلاثة وعشرين كتابا، منها "الإلياذة" و"الأوديسة" و"سيرة حياة جورج أورويل"، وكتب عدة مسلسلات تلفزيونية، وهو بعد هذا كله "الكاتب اليومي" الذي يتابع شؤون العربي، يكتب غاضبا حينا، ويخفي غضبه ببعض الهزل حينا آخر.
قد يبدو هذا الانتاج الغزير تعبيرا عن طاقة كتابية استثنائية أو عن فائض في الطاقة، ان صح القول، يسمح للشاعر، الذي كتب سبعة عشر ديوانا، أن يذهب الى تلاميذه في المعهد العالي للفنون المسرحية، وأن يرسل مقاله الأسبوعي الى جريدة هنا أو هناك. وقد يبدو أيضا أن هذا المثقف الريفي الأصول الذي ولد في  محافظة حماة عام 1941، يتابع نهج المثقف العربي التنويري، الذي أراد أن يكون مبدعا شاملا، مثل اللبناني رئيف خوري أو المصري لويس عوض أو طه حسين، ربما، حيث المثقف التنويري يشرح أفكاره بأشكال مختلفة. وقد يبدو، أكثر من ذلك، أن مصاعب الحياة الاقتصادية تجبر المثقف أن يوزع مواهبه على حقول كتابية كثيرة، برغبة منه أو بلا رضا كثير. بيد أن الأكيد في هذا كله يقوم في أمرين غير مترابطين بالضرورية: أحدهما ذلك الهاجس التربوي-الأخلاقي، الذي يرفض أن يصبح الانسان "حيوانا" ويتوسل ألوان الكتابة المختلفة، كي يندد بالسياسات التي تختلس من الانسان حقّه في الوجود السوي، شاهرة في وجهه سلاح القمع والتجويع. وثانيهما شك صريح بقدرة الكاتب على شرح أفكاره كما يريد. فعلى خلاف الفكر اليقيني الذي يطرح أفكاره مرة واحدة بطريقة وحيدة، فان الفكر الذي لا يقبل باليقين يعيد تقديم أفكاره بطرق متنوعة. وعدوان، الذي يدور بين الشك والتحريض، أو بين التنديد والاستفزاز، يترك فكرته زمنا ويعود اليها بعد زمن، ليعطيها بناء جديدا يجعل معناها أكثر وضوحا، طالبا من المتلقي المزيد من الانتباه، ومطالبا ذاته بالمزيد من الوضوح.
في عام 1970 كتب عدوان مسرحيته الأولى "محاكمة الرجل الذي لم يحارب". كان ينتقد واقعا عربيا، تكره سلطاته الحرية وتعشق البلاغة الفارغة. بعد عامين سيعود الشاعر المشاكس الى موضوعه من جديد ويكتب "كيف تركت السيف" واصلا، لاحقا، الى "ليل العبيد". في تكرار المكتوب كان الشاعر يعلن عن غضبه، ويغضب على هؤلاء "العبيد" الذين لا يعرفون الغضب، ويعود، ساخرا، الى كتابة ما كتب. غير أن ممدوح، الذي تسبقه قهقهته أينما ذهب، سيروّض الرواية، أو يروّض ذاته على كتابة الرواية، مختارا "أدوات ايضاح" بسيطة، كأن يذهب الى زمن السيطرة العثمانية خلال العالمية الاولى من القرن الماضي ويكتب رواية ضخمة بعنوان "أعدائي"، بطلها القمع والاستبداد والجوع والهزيمة وجمال باشا السفاح الذي رفع "حَيْوَنة الانسان" الى مستوى الصناعة الدقيقة. في روايته هذه لن يذهب ممدوح الى الماضي هربا من الحاضر، بل يذهب الى الماضي ليجعل الحاضر أكثر وضوحا، متأملا، في هذا العمل الروائي الممتاز، سؤال الدولة المستبدة الفاسدة، التي "تُحَيْون" الانسان وتطلب منه أن يذهب الى المعركة، ناسية "ان الحيوان لا يحارب" وأن من لا وطن له "يترك السيف" للذين يقتاتون من لحم المواطنين. بل أن عدوان لن يواجه فقط الدولة العربية الفاسدة بدولة عثمانية قديمة فاسدة انتهت الى السقوط، بل أنه يكشف عن التصور الكاريكاتيري الذي تعامل به النظام العربي مع دولة اسرائيل، حين أختزل كل العهود الى نمط مجرد ساذج عنوانه "اليهودي الجبان". في مقابل رؤية عربية رسمية قوامها التبسيط والتجهيل تعامل ممدوح عدوان مع "اليهودي الانسان" الذي يضحك ويبكي ويقاتل، ويواجه البلاغة العربية بالعلم الحديث.
في كل ما كتب كان عدوان، هذا الجوّال الطليق بين أجناس الكتابة، يبدأ من القارئ، أو المستمع، أو المتلقي، لا من الكتب المتوازنة ولا من الخطابة الجاهزة. وهذا المتلقي، الذي يقاسمه عدوان الحرمان والعذاب، هو الذي أملى على الشاعر، الذي ولد في قرية قيرون، أن يتعامل مع المشخص والمعيش والحياتي. ولعل هذا المشخص هو الذي جعله يكتب مسرحية "لو كنت فلسطينيا"، رافعا أولا شعار مقاومة الانسان من أجل كرامته، قبل أن يقاسم الفلسطينيين أشواقهم، وهو الذي دفعه الى ترجمة "التعذيب عبر العصور" لمؤلفه برناديت ج هروود، مخبرا الانسان العربي أن ما يعيشه الآن، وفي الأمس ربما، قد عاشه البشر منذ عهود طويلة. انه هاجس الحرية والكرامة الانسانيتين. الذي حرّض ممدوح على ترجمة رواية "الشيخ والوسام" للأفريقي فرديناند أويونو، حيث الشيخ يرفض وسام الاستعمار الفرنسي الذي يبادل "الجندي القتيل" بوسام لا معنى له، الا الاحتقار والعنصرية، رأى المترجم في النص الروائي رسالته، وعرّف القارئ العربي على روائي أفريقي موهوب وقاسمه رسالته. ولن يكون الأمر مختلفا مع نص "الصبر المحترق" لأنطونيو سكارمينا الذي ترجمه ممدوح وحوّله الى مسرحية، هي الأهم في الحياة المسرحية السورية منذ سنوات. أخذ الشاعر التشيلي بابلوا نيرودا، هذه المرة، مكان الشيخ الأفريقي، شاركه قلبا انسانيا نظيفا صاغه الشاعر عدوان بلغة رائقة.
قبل سنتين، ربما، أو أكثر عاد عدوان الى حكاية عربية قديمة هي "الزير سالم" وحوّلها الى مسلسل تلفزيوني حظي بنجاح كبير. لم يخطئ الشاعر، المتواجد بكثافة في الحياة الثقافية العربية، موضوعه، ذلك أنه تعامل مع الموضوع القديم بوعي حديث، فميّز بين الشجاعة والانتقام، وأظهر أن الانتقام طموح سخيف. وحاول الأمر ذاته مع مسلسل عن شاعر العرب الأكبر: المتنبي، الذي تحوّل بين يدي عدوان الى بحث دقيق عن حياة الشاعر الذي يثير حوله النقاد اختلافات كثيرة. ما الحدود بين الأسطورة والحقيقة في حياة شاعر "ملأ الدنيا وشغل الناس" ولماذا يستمر التعذيب في كل العصور، ولماذا يقوم الصهيونيون بـ"تهويد المعرفة" ولماذا يرحل الجلاد العثماني ويعود بعد عقود وينطق بالعربية؟ هذه الأسئلة وغيرها يحملها "المتعدد" ممدوح عدوان ويعطيها صياغات مختلفة، بعضها ينطق بها الممثلون فوق خشبة المسرح، وبعضها يأخذ شكله في قصيدة، وبعضها يعلمها الأستاذ الجامعي لتلاميذه، الذين يدرسهم اللغة الانكليزية، أو يترجم لهم نصوصا على التلميذ النجيب أن يعرفها، مثل "المهابهاراتا" لبيتر بروك، أو "حول الاخراج المسرحي" لهارولد كليرمان. انه حس المسؤولية، أو ذاك الشوق الرومانسي الى موسوعية المعرفة، بل ربما يكون نزعة عدمية أصيلة، تكره الاستقرار مع جنس كتابي وحيد، وترى الى التجوال المعرفي في أقاليم مختلفة.
والتجوال المعرفي هو الحرية، هو رفض قيود الاختصاص، هو التمرد على المثقف المهني، كما قال ادوارد سعيد، هو الطيران بلا حدود فوق أرض الشعر والنثر ولغة ثالثة يحلم بها عدوان بالعثور عليها منذ زمن طويل. وبسبب عشق للتجوال لا شفاء منه، يكون ممدوح في بيروت، وهو موجود في دمشق، ويكون في دمشق وبيروت وهو في موجود في القاهرة، ويكون بين يدي القارئ في كتاب، فان ترك الكتاب التقى به في تعليق صحفي، أو سمع غيره يتحدث عن محاضرة جديدة للشاعر- المسرحي – المترجم.
انه حب الحياة والدفاع عن الحياة، كما يريدها ممدوح عدوان، ولعل هذا الحب والدفاع، أو الدفاع المُحِبَّ، هو ما يجعل البعض يعتقد أن ممدوح راهب يعطي الكتابة كل حياته، ويربك آخرين يرون ممدوح في كل مكان. كما لو كان لا يكتب الى صدفة. انه ذلك الانسان الأليف الذي يضحك كثيرا ويكتب قليلا، أو يضحك كثيرا ويكتب كثيرا، أو أنه ذلك الانسان الصادق المفيد النافع الذي يعيش كثيرا لأنه يعايش الناس كثيرا. ولهذا فأن ممدوح لا يحب الابهام في القصيدة، ولا يميل الى الشعر الغامض. فهو يكتب كي يُقرأ، كما يقول، ويكتب للناس كي يقرأ الناس همومهم وآمالهم في قصيدته. وهو لا يعني أبدا أنه يكتفي بقضايا الناس ولا يكترث بقضية الشعر، بل يعني فقط أنه يرى وظيفة الشعر من وجهة نظر القارئ العادي، الذي ينتظر من الشاعر معرفة مفاجئة. لا غرابة والحال هذه أن يُدرج عدوان رموزا عربية كثيرة في قصيدته، بحثا عن إلفة ضرورية مع القارئ، وأن تحوّل قصيدته الرمز الساكن القديم الى رمز ديناميكي تصوغه الحياة المعاصرة ويعيد مساءلتها، وأن يصل قوله الشعري الى الانسان العادي، مخاطبا العقل حينا ومتوجها الى الوجدان في أحايين كثيرة. كل شيء في قصيدة ممدوح موضوع واشارة: موضوع مباشر يصفع حضوره الانسان، واشارة الى موضوع مرغوب، كان ورحل، أو أنه لم يأت بعد. ففي النهر الجاف نهر آخر، كان مادة يسيل فرحا وأقرب الى الغطرسة ، وفي عيون التلميذ الحزين تلميذ آخر، سعى وخاب سعيه، وفي عيون الشهداء دموع تسائل موتا خائب النتيجة.
صوت ممدوح عدوان أم أصوات ممدوح عدوان، حيث تختلط بقايا "بردى" بخرير النهر الجميل الذي كان، وكرامة الشيخ الأفريقي برسائل نيرودا، وملامح الأنظمة الفاسدة العربية بملامح المستبد العثماني، الذي يقتلع الليمون ويضع فوقه شواء فاسد الرائحة. ربما تلخص روايته المتميزة "أعدائي" أشياء كثيرة من شخصيته. فهي تندد بالاستبداد العثماني كي تندد بالاستبداد والفساد في جميع العصور، وهي تدع الروائي-الشاعر يكتب التاريخ الحقيقي، لأن مؤرخ السلطة لا يكتب الا الحقيقة التي تريدها السلطة، وهي تستعيد أطياف مشاعر يهودي حالمة بعالم جديد، بعيدا عن العنف الشاروني وعنف الصهاينة الذين سبقوا شارون. في هذا كله يكون عدوان مثقفا تنويريا ديمقراطيا، وامتدادا نجيبا للمثقف التنويري العربي، الذي علا صوته مرة، قبل أن تكتسحه الهزيمة، التي بدأت في الخامس من حزيران 1967، ولا تزال متعاظمة حتى اليوم.
في مطلع ستينات القرن الماضي ارتفع صوت عدوان للمرة الأولى، مع مجموعة من المثقفين الريفيين الوافدين الى دمشق، كان بينهم الروائي هاني الراهب والمسرحي سعد الله ونوس والشاعران نزيه أبو عفش وعلي كنعان... كان قد سبق هؤلاء الشاعر علي الجندي ومحمد الماغوط، جاء كل هؤلاء الى المدينة وحلموا بأمة عربية حرة وحديثة، وتطلعوا الى فلسطين والتقدم الاجتماعي. انتهى الزمن الى الخيبة وبقيت كتابة ترثي زمنا مضى، الى ذلك الزمن الجميل انتسب الشاعر السوري ممدوح عدوان، الذي لا يزال يصر حتى اليوم على أمرين: رثاء ما مات والبحث عن قيامة جديدة.


(مقال مترجم عن الانجليزية للمؤلف في مجلة "بانيبال"، وأعاد نشره موقع الأدب "كيكا" عند رحيل ممدوح عدوان)


فيصل دراج*
الأحد 2/1/2005


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع