قصة الحضارة والبعث

كون حوض البحر الابيض المتوسط الشرقي بجغرافيته الواسعة انطلاقا من الجزر اليونانية غربا الى آسيا الصغرى وتركيا الى بلاد الهلال الخصيب التي ضم العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن وانتهاء بمصر هبة النيل الدفيئة التي نما وبدأ فيها الانسان العاقل المنتصب حياته.اذ ان الأبحاث الجيولوجية- الانتربولوجية الاخيرة أكدت مولد البشرية في هذا الجزء من العالم وان اب البشرية هو افريقي من شمال القارة السوداء منها انتشر وتوغل في اصقاع المعمورة. أكدت هذه الابحاث ايضا على ان هذا المكان الجغرافي مهد بداية الحضارات التي بناها الانسان القديم على ضفاف الانهار وعلى ضفاف البحر الابيض المتوسط الشرقية الهادئة والمتداعية وخاصة سواحل لبنان اليوم وتركيا واليونان التي بدأت تظهر خفاياها وعوالمها السحرية الضائعة في ملهى الزمن. كل هذا جعلها بيت الانسانية الاول وجعلها بالذات المسكن الروحي الفكري عبر العصور حتى وصل بالانسانية الترحال الى اطراف العالم القديم كلها ووصلت الى استيطان اطراف الدنيا والعالم الجديد والامريكيتين بعد رحلة كولومبوس التاريخية التي لم تكن تحصل لولا وجود الحضارة العربية المتفوقة التي توغلت في علوم البحار ورسم الخرائط البحرية للمحيطات والبحار البعيدة التي نقلتها اوروبا واعتمدت عليها كثيرا لفتح العالم واكتشافه.
في هذا الرحم الشرقي الذي ضم نطفة الحضارة الاولى ولد الفكر الانساني الفطري الاول الذي اعتمد على فلسفات انبثقت من احساسات وظروف الزمان الذي عاشته بدايات الانسانية وعاشته الشعوب الشرقية عندما بدأت تتبلور وتتكون بمجموعات بشرية لها نفس الهدف ونفس المصير وتربطها اواصر لغة بدائية واشكال حوار متعددة ادت الى ظهر بدايات اللغات وبدايات الشعوب كما نعرفها اليوم.. الخلق الفكري ولا شك مرهون بالزمان والمكان اللذين يحددان أطر هذا الخلق وآفاقه ومن ثم ارتباطه بالوعي البشري العام في ذلك التخوم. اذ ان تبلور الاقوام والقبائل في هذا المد الجغرافي المحدد وارتباطه بمصيرها وبفكرها المحدد ادى الى تطور حضارات متميزة صغيرة ربطتها وحدة حضارية انسانية واعية كحتمية تاريخية انتشرت على مدى العالم القديم. انما اردنا القول ان الشرق القديم كان مهد الحضارات ومهد اللغات ومهد الافكار الانسانية الاولى التي جميعها وضعت لبنات المجتمع المدني اذا صح التعبير في هذه الحالة وايضا المجتمع الانساني الذي ربطته علاقات وقوانين اجتماعية كانت حتمية لتطور المجتمعات البدائية التي تركت الغابة مرة واحدة والى الابد.
بنى الاغريق القدماء حواضرهم وثقافتهم على اطراف بحر فيروزي وجزر خضراء حالمة تسبح في زرقة البحر وتلاطف جبالها زرقة السماء وكأنها خلقت لتكون مهدا لبداية الفكر والفلسفة والدين ومكانا لخلق حضارة عظيمة اعتبرت من اللبنات الاولى في صرح الحضارة البشرية حتى يومنا هذا.
على ضفاف دجلة والفرات بنى الاكاديون حضارتهم والسومريون علقوا على هذه الضفاف الخالدة احرف لغتهم المسمارية التي كانت الخطوة الاولى لتطور الحضارة والفكر. على ضفاف النيل العظيم بنى الفراعنة الاهرام وتحدوا الزمن وعبثوا به حتى طاوعوهم وها هو ما زال ملكا لفكرهم وحضارتهم.
في الزمن الذي بدأت فيه الحضارات تتطور في الشرق سكنت اوروبا وامريكا قبائل متوحشة اعتمدت على شريعة الغاب بطرق عيشها ولم تطور لا فكرا ولا حضارة الا في عصور متأخرة نسبيا تعود الى العصور الوسطى بتاريخ ما بعد الميلاد. بدأت تتطور الامبراطورية الرومانية على انقاض الحضارات الاولى التي بدأت في العالم القديم كما ذكرنا سابقا. اذا مصدر الحضارة الاولى في العالم القديم الذي بدأ على ضفاف النيل ودجلة والفرات وربما على ضفاف الامازون اذا أخذنا بالحسبان نتائج البحوث والحفريات الاثرية التي دلت على حضارات قديمة هناك قبل التاريخ اهمها حضارة الانك والمايا. تلك الحضارات الجنوب امريكية البائدة لم تترك اثرا كبيرا في مسيرة الانسانية وتطورها الحضاري والثقافي والاجتماعي.
على انقاض الحضارات الشرقية الآخذة بالانقراض بدأت قبل الميلاد وبعده تتبلور قوتين سياسيتين في العالم القديم الامبراطورية الرومانية في الغرب والامبراطورية الفارسية في الشرق وقد تنازعنا على مناطق النفوذ في الشرق العربي وفي آسيا الوسطى وفي آسيا الصغرى مئات السنين. وسعت تلك الامبراطورتين الى السيطرة على ثقافة الشعوب المغلوبة واستمدت منها معارف فكرية وعلمية وادبية ولغوية من اجل بلورة حضارة لها وبلورة شخصية فكرية انموذوجية لروما ولفارس لكن احلامهما لم تتحقق ولم تحفل الحقب التاريخية بمولد ثقافتين جديدتين ومتطورتين في فارس وفي روما احتلت العالم القديم ورسخت عسكريتها وسيطرتها وعملت على الهيمنة المباشرة على الشعوب المحتلة ولم تخلق حضارة وعلما وفلسفة وفكرا اثر في مسيرة الحضارة العالمية كما خلقه الاغريقيون قبلهم. ما بقي من آثار امبراطورية واسعة الاطراف مسارح ومدرجات في بقاع الارض المختلفة لم تعرض فيها الدراما ولم يعالج الفكر وانما كانت معرضا لصراع البشر العبيد الذين استعبدتهم روما مع الحيوانات المفترسة الجائعة كانت مجرد عروض "فرجة".
ولعدم اغضاب جنود روما وعملائها لم يحدث الرومان ثورة بالفكر والفلسفة والعلوم الطبيعية وان كانوا قد أخذوا عن الاغريق بعض العلوم واستغلوها لتطوير حركة العمران وشق الطرق والقصور والمدن لتواصل اجزاء هذه الامبراطورية العملاقة.
الامبراطورية الفارسية المنافسة في الشرق خلقت حضارة بنتها على انقاض الحضارات في الشرق الاقصى وفي الهند بالتحديد وابدعت في حقل الادب والشعر والدين والخرافات والاساطير. الشاهنشاه الكتاب العظيم الذي وضعه الفردوسي يعتبر دائرة معارف فارسية لخصت قصة الحضارة الفارسية واثرها لاحقا في الحضارة العربية الاسلامية وحدد بعض صورها وطور أدبها وخصوصا في الادب القصصي وادب المقامات والادب الخرافي والشعر الوجداني. الامر متشابه مع الرومان اذا وضعنا الخلق الفارسي الحضاري كعامل مؤثر في خلق الحضارة العالمية وتطور البشرية الى ما هي عليه اليوم اذ ان هذه الامبراطورية الواسعة الارجاء بدورها شغلها فرض الهيمنة العسكرية والسياسية على نصف العالم القديم وكذلك صراعها المستمر عصورا مع روما للسيطرة على طريق القوافل بين الشرق والغرب واحراز الهيمنة على الشرق الاوسط والهلال الخصيب.
يوصل بنا الامر في حالتنا هذه الى ان الفتح العربي الاسلامي جاء على انقاض امبراطوريتين افل نجمهما تقريبا في حقبة زمنية واحدة ومتقاربة مما سهل على العرب بسط سيطرتهم على العالم القديم كله من الصين شرقا الى الاندلس غربا ومن اقاصي شمال اوروبا الى مجاهيل القارة السوداء بسرعة مذهلة وبزمن قياسي لا يتعدى عشرات السنين من عمر التاريخ البشري كله. وجدت قطع نقدية معدنية عربية من القرون العاشر والحادي عشر والثاني عشر في فنلندا اليوم وفي السويد والنرويج مما يثبت سيطرة العرب الاقتصادية على العالم آنذاك. الامبراطورية العربية الاسلامية كانت حلقة وصل حضارية كان لا بد منها لربط حضارتين عظيمتين في تاريخ البشرية الحضارية الاغريقية الهلينية والحضارة المعاصرة اليوم الانجلوساكسونية.
الفرنكفونية اتذي يعيشها عالم اليوم في قسمه الغني الذي فرض بدوره على عالم الجنوب اسس هذه الحضارة تارة بالاقناع والسيطرة الاقتصادية الثقافية وتارة بقوة الذراع العسكرية.
العرب لم يفرضوا سيطرتهم على العالم بقوة السلاح فقط بل بالحجة والاقناع لشعوب العالم الذي احتلوه للدخول الى الدين الجديد الذي وضع آنذاك اسسا حضارية غير مسبوقة اخلاقية اعتمدت على العدل الاجتماعي بين الناس وعلى مبدأ تكافئ الفرص وعلى التسامح الديني والاجتماعي مما خلق اجواء صحية منقطعة النظير لتطور العلم والبحث العلمي والفلسفي ومن ثم تحريك الركب الحضاري البشري كله. ابن رشد وابن سينا والبيروني والغزالي وابن خلدون وغيرهم من عشرات العباقرة الذين خلقتهم الحضارة العربية الاسلامية كانوا على وشك ادوات رفع جبارة لمجمل التطور الحضاري الانساني في كل العصور. لم يكتف هؤلاء بأخذ ما تيسر من الحضارات القديمة وخصوصا الهندية والاغريقية بل طوروها وخلقوا على اسسها حضارة وعلوم جديدة لم تعرفها البشرية من قبل طوروا الطب وخلقوا الصيدلة بمفهومها الحديث واكتشفوا بالفلك وعلوم البحار والرياضيات واوجدوا الصفر المئوي الذي بنيت عليه كل العلوم الحسابية والرياضية التي نعرفها اليوم.
خلقوا لاول مرة علم الجبر والكيمياء وخلقوا علم الاجتماع وعلم التاريخ السياسي الاجتماعي.
مقدمة ابن خلدون المشهورة تعد وبحق الاساس المتين لفلسفة التاريخ وحجر الزاوية فيها. هذا العالم الفذ درس لاول مرة في التاريخ الظواهر الاجتماعية وقرر ان هذه الظواهر لا تتأثر بالاهواء والاحوال الشخصية للافراد وانما هناك عوامل وقوانين موضوعية علمية تحدد هذه الظواهر لا بد من البحث عنها والبحث عنها ما زال جاريا حتى اليوم وعلى هذا البحث يعتمد علم الاجتماع المعاصر.
قرر هذا العالم وجود قوانين اقتصادية سياسية تؤثر على الظواهر والتغيرات في المجتمعات البشرية وانها قوانين علمية ومحددة ثابتة تخلق وتغير ظروف هذه المجتمعات. بهذا يكون ابن خلدون قد اوجد اسس المجتمعات السياسية والاقتصادية وأشار الى حتمية فلسفة التاريخ قرونا قبل ان حددها ووضع اسسها العلمية العصرية كارل ماركس في كتابه الفذ "رأس المال" لم نضع ولن نستطيع وضع قصة الحضارة في مقالة واحدة ولا في آلاف وانما اردنا ان نصل بهذا الى نقطة ارتكاز وترصد لما هو حاصل اليوم لهذه القصة العظيمة التي ربما تقترب الى خاتمتها.
لا شك ان للحضارة العربية – الاسلامية دورا اساسيا لوجود حضارة اليوم وخصوصا اذا أكدنا على المد العربي – الاسلامي في القرون الثلاثة بعد الهجرة حيث كان العقل العربي منفتحا يجوب الآفاق ويطلب العلم في الصين ويعمل ويبحث ويصنع المعجزات.
لم يكن هذا العقل سلفيا ولا رجعيا ولا قدريا ولا ارتجاليا اعتمد على العلم والتجربة والتكرار والبحث من جديد وكلها امور بديهية لخلق مجرة علوم واعية ومتطورة ومن ثم خلق فلسفة وفكر يفسران هذه العلوم ويحاولان تطبيقها في حياة البشر اليومية مع اضمحلال الدولة السياسية العربية الاسلامية المركزية في دمشق وبغداد اضمحلت البحوث والعلوم وغلبت الفرقة والتعصب والضياف في السلفية والتعصب واللامعقول. شتان ما بين اسلام منطقي مفتوح الآفاق وما بين آخر سلفي غيبي رجعي يدعو الى العودة بالحضارة وبكل ما اكتسبته البشرية الف عام لبداية الدعوة ولاعادة الكر الاسلامي من جديد. هذا مستحيل وعقيم وبعيد عن منال وفكر العقول الحية والعاقلة. من المهم بمكان ان يؤكد الغرب المعاصر او الحضارة الغربية الحالية والمسيطرة لا تخاف من الاسلام الديني الذي يغرق فقط في وحل العصور والسلفية وانما يقلق راحتها الاسلام السياسي الواعي والعصري الذي قد يمثل لها خطرا قاحما قادما سينافسها على الهيمنة الاقتصادية السياسية في العالم.
ربما يعيش العالم الغربي المتحضر عقدة النقص والخوف القديمة اياها التي عانت منه روما عندما هب الاسلام السياسي من قلب الصحراء وسيطرة على العالم في زمن مجازي عجزت عنه باقي الحضارات. ما نراه يحدث في وقتنا المعاصر يؤكد على ما نقول الجوامع والتكيات تملأ الغرب وعواصمه والناس يدخلون في الاسلام وخصوصا في الولايات المتحدة افراد وجماعات ربما حتى الحادي عشر من سبتمبر الاخير. من جهة اخرى نرى الامبريالية الامريكية تعمل على وأد الاسلام السياسي والاقتصادي والعسكري بكل صوره ومنذ بداية هذا القرن. تعمل على تفرقته سياسيا وتضرب قدراته العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية هذا ما حصل عندما ضربت اسرائيل ذراعها الطويلة في الشرق العربي الفرن الذري العراقي قبل عشرين عاما اذا اخذنا بالحسبان ان احد الاهداف المهمة من وراء حرب امريكا القذره على افغانستان ولا شك ضرب القوة النووية الباكستانية والقضاء عليها او السيطرة عليها ولجمها مباشرة او بواسطة حكام عملاء لها.
حارب العرب والمسلمون روما باسلحة ذاك العصر وغلبوا وسادوا وتطوروا وكانت حتمية التاريخ محاربة هذا العصر الذي نعيشه يجب ان تكون بأسلحة العصر ولا نقصد هنا الذرة ولا الانتراكس ولا الارهاب انما فهم لغة العصر وحضارة العصر وعلومه ومن ثم خلق بعث فكري حضاري من جديد لأمة كان لها الباع الطويلة في خلق وبعث الحضارة العالمية برمتها على مختلف العصور وتملك الآن كل عوامل التطور للوصول الى تلك الغاية المنشودة. الغلبة لن تكون في السلفية الفضفاضة والهرب من الواقع المعاش وانما دخول هذا العصر من اوسع ابوابه العلمية والتقنية والسياسية. من يملك حضارة كحضارة العرب وهذا الارث الثقافي الجليل يمكنه ان يعيد ترميم هذه الحضارة ولو على الانقاض.

(شفاعمرو)


د. فؤاد خطيب
الخميس 23/12/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع