وجه كاليبان

1956
- الرقابة شطبت خبر المجزرة ولم تبق منه حرفا واحدا.
-  بد من وسيلة لتسريب الخبر بأية صيغة.

بعد التداول كتبوا:
"تعزية:
هيئة تحرير "الاتحاد" تتقدم باحر التعازي الى ذوي المرحومين: وتلت ذلك قائمة بتسعة واربعين اسما دون أي اشارات اخرى ولم تورد اسماء الجرحى الثلاثة عشر.
جلس يحيى وزميلان محرران آخران في المطبعة ينتظران عودة الرسول الذي حمل النص الى الرقيب العسكري.
شطب الرقيب محاولة الالتفاف ولم يترك من التعزية حتى عنوانها.
متيّا نصار مدير المطبعة يلح. بماذا نملأ الفراغ؟ ممنوع بقاء فراغ او بياض يشير الى أي حذف.
والوقت لا يتيح كتابة اية مادة اخرى وصفّها. يجب الانتهاء من الطباعة لتصل الجريدة الى مختلف انحاء البلاد في الوقت المحدد للمواصلات.
قال الشارح: كانت الطباعة في ذلك الوقت بدائية. يؤخذ كل حرف بالملقط ويرتب في مصف خاص حيث رقائق من النحاس ترتب السطور وقطع خاصة تفصل بين الكلمات وبعض الحروف.. اما آلة الطبع فكانت كبيرة ثقيلة وبطيئة تلهث بين كل صفحة وصفحة.
يجب اغلاق العدد في ساعة مبكرة. واذا كان هناك نبأ عاجل يمكن ان تترك له زاوية صغيرة في
اعلى الصفحة الاولى، تُعبأ بسرعة وتطبع تلك الصفحة في آخر المطاف.
راح متيا يبحث في جارور الكليشهات عن كليشيه يناسب حجمها الفراغ الذي احدثه شطب الرقيب. اخيرا قال: هذه الكليشية تملأ الفراغ كله ولا مجال حتى لكلمة تحتها.
- اية صورة هذه؟
- ماذا يهم؟ لا وقت للنقاش او الاختيار.
تطلّع وقال: انها صورة فاتن حمامة. نضعها وليسأل الناس – ما علاقة فاتن حمامة ولماذا هي هنا – فاشرحوا لهم.
متيّا يتعامل مع مهنته بشكل آلي احيانا ويقرر في بعض الامور بشكل مفاجىء. كان احدهم يطبع في "مطبعة الاتحاد" مجلة اسمها "الوسيط" وكثيرا ما كانت تنتهي الصفحة ويبقى من المادة سطران او اكثر فلا يصفّهما متيّا وتظل النهاية حيث انتهت الصفحة. وحينما سأله يحيى كيف يفعل ذلك؟ قال: هذه المجلة لا يقرأها أحد حتى الذي يظهر اسمه عليها، والبرهان ان هذا هو العدد الثالث، وكان في كل واحد مثل هذا البتر لكنه لم يسألني ولم يراجع. حتى البروفات لا يراجعها.
هذا الرجل يأخذ مخصصات من السفارة اياها لاصدار المجلة، وهذا كل ما يهمه.
لم يكن مناص من تنفيذ الحل الذي ارتآه متيّا: ان تكون صورة فاتن حمامة قفلا تغلق به الافواه وتدفن الحقيقة وراءه.
مضى زمن كانت صحيفة "الاتحاد" تحتفظ فيه بكليشيه لرسم يقف فيه شخص يفتح يديه بذهور وقد اغلق فمه بقفل كبير. فاذا حذفت الرقابة شيئا ملأ ذلك الرسم البياض الثاكل. كان الناس آنذاك يعرفون ان ثمت خبرا حذفته الرقابة، اما اليوم فممنوع ان يعرفوا يقتلون ويكتمون.
احس يحيى انه يغرق في بحر خانق. لا بد ان يعرف العالم هذه الجريمة.
مضت ايام ولم يتسرب النبأ.
...
اما صورة فاتن حمامة فكانت موضوع "الاسبوعيات" في عدد تالٍ من "الاتحاد" عالج دهشة الناس وتساؤلهم: ماذا تفعل صورة هذه الممثلة على الصفحة الاولى – ولا شرح ولا تعليق؟!
روت "الاسبوعيات" تلك الحكاية التي رواها يحيى في الجزء الاول من هذا الكتاب: حكاية الرجل الذي ذهب من قريته الى المدينة في يوم عاصف ماطر، وكان عليه ان يجتاز واديا تدفق فيه السيل فسرق حذاءه الوحل والسيل ووصل الى المدينة حافيا. مشى في احد الشوارع حتى رأى دكانا رُسمت على واجهته الزجاجية صورة جزمة جلدية شامخة، فدخل وطلب ان يشتري حذاء بدل حذائه السليب.
نظر اليه صاحب الدكان متعجبا وقال:
- لست بائع احذية!
- اذن ماذا تبيع؟
- انا مطهّر
- فلماذا رسمت جزمة على واجهة الدكان؟
- وماذا تقترح علي ان ارسم؟
- هكذا كان اللجوء الى الحكاية الفولكلورية جوابا على سياسة المنع والقمع!

تحت دخان الحرب التي شنوها على مصر نفذوا الجريمة.
انها عودة على سياسة المجازر التي رسموها لتشريد الشعب الفلسطيني بالقتل والذعر – دير ياسين وعين الزيتون وناصر الدين والطنطورة، والقائمة طويلة.
قال جبرا: اذا ادعوا ان المجازر السابقة ارتكبتها منظمات عسكرية مختلفة فماذا يقولون الآن والعنوان واضح: حكومة وجيش نظامي؟
قال عصام: ويتحدثون عن القيم الانسانية وعن طهارة السلاح!
عرف بالنبأ النائب يوسف خميس، وكان في الكنيست يمثل حزب "مبام" فاتصل حالا بتوفيق طوبي النائب الشيوعي. اخترق توفيق وماير فلنر الحصار على كفر قاسم بعد ثلاثة اسابيع مستفيدين من الحصانة البرلمانية. زارا القرية وعادا بالاخبار الدموية المذهلة. كتبا رسالة بالتفاصيل المروعة وارسلاها الى العديد من الشخصيات والصحف في البلاد والخارج.
اقترنت المجزرة بالهجوم العسكري على مصر التي تمردت على الارادة الاستعمارية واعلنت تأميم قناة السويس وقد انسجمت اسرائيل مع بريطانيا وفرنسا وكان الحلف الدنس.
كان ذلك يوم 29/10/1956.
عسكر الحدود يطوّق عددا من القرى في المثلث.
في كفر قاسم ينقسمون الى اربع فرق تسد المداخل الاربعة.
في الساعة الرابعة والنصف يُستدعى مختار القرية احمد صرصور ليبلغ الناس ان منع التجول سيبدأ في الساعة الخامسة ويمتد الى السادسة من صباح اليوم التالي.
يقول المختار: هناك حوالي اربعمائة من السكان خارج القرية منهم من يعمل بعيدا ومنهم العاملون في قطاف الزيتون، لا يمكن ابلاغهم بالمنع خلال نصف ساعة.
يعود الناس الى القرية افواجا في موجات، ولا يعلم احد بمنع التجول.
بدأت المذبحة في الطرف الغربي حيث فرقة العريف شالوم عوفر، في الساعة الخامسة.
أطلّت مجموعة من الناس العائدين الى بيوتهم، قال الضابط: احصدوهم. لعلع الرصاص وسقط رجال ونساء واطفال..
موجة ثانية تطل بعد حين.. يمزقها الرصاص ويرتوي من دمها التراب.. تتوالى الموجات ويتوالى القتل.
في الموجة السادسة 15 قتيلا. أبلغ القائد آمريه: "15 عربيا أقل!".
عشرة قتلى في الموجة السابقة. قال القائد لآمريه "يصعب الآن عددهم".
خلال اقل من ساعة، وقبل ان تكون الساعة السادسة، كان في الطرف الغربي ثلاثة واربعون شهيدا، منهم سبعة اولاد وبنات وتسع نساء احداهن في السادسة والستين.
اما في الطرف الشمالي فسقط ثلاثة شهداء منهم صبيان، احدهما في التاسعة والثاني في الخامسة عشرة.
وفي وسط القرية شهيدان احدهما طفل عمره ثماني سنوات.
كان مجموع الشهداء في كفر قاسم ثمانية واربعين، التحق بهم صبي من الطيبة في الحادية عشرة من عمره.
افلح البعض ان ينجو بالتماوت. اما التفاصيل فهي مذهلة. يصعب ان يفهم الانسان معنى الحقد البهيمي الذي يقتل بدم بارد واعصاب هادئة.
قال علي: بماذا تختلف جرائم القتل الكبيرة عن الجرائم المسلسلة المقسمة الى دفعات؟
تساءل يحيى: كيف تحولت قلوب هؤلاء الضباط والجنود الى وحل وشرايينهم الى اسلاك من المعدن الأصم وعيونهم الى شظايا من الزجاج المعتم؟ نقعوا ادمغتهم في مستنقع العداء ودمروا انسانيتهم.
قال الشارح: عندما أخذت تفوح رائحة الجريمة ارادت الحكومة ان تطوق الموضوع، فنشر مكتب رئيس الحكومة بعد اسبوعين من المجزرة بيانا يزوّر الحقائق وكأن الامر حادث عرضي. يشير البيان الى "توسع اعمال الفدائيين" واعلان نظام منع التجول في عدد من القرى الواقعة على الحدود الشرقية..." وفي بعض القرى عاد بعض السكان الى بيوتهم بعد ساعات المنع واصيبوا من قبل حرس الحدود". فعينت لجنة تحقيق تبحث في:
- اسباب الحوادث في القرى بتاريخ 29/10/1956.
- مدى مسؤولية رجال حرس الحدود (ضباط وصف ضباط وانفار) وتقديمهم للمحاكمة اذا اقتضى الامر.
- قيمة التعويضات التي على الحكومة دفعها للعائلات المنكوبة نتيجة لسلوك حرس الحدود".
السعي اذن هو للتنصل من التهمة ان المجزرة هي وليدة سياسة استهدفت الترحيل وحصر الامر في بعض سلوك شاذ انحرف به بعض الافراد. وعندما تقرر تقديم المسؤولين الى المحاكمة وقفت التهمة دون الرأس المسؤول – المقدم شدمي، الذي اعطى الاوامر الاساسية.
قررت لجنة التحقيق تقديم عدد من المسؤولين الى المحكمة العسكرية التي استغرقت اجراءاتها سنتين. في تلك المحكمة ارتسمت صورة مروعة، وتكشفت عن الهدف من قتل اولئك الابرياء.
هناك قال الضابط كول: "كان الهدف ان يهرب ابناء الاقليات هربا جماعيا الى ما وراء الحدود".
وقال الرائد مالينكي انه حينما سأل رئيسه: ماذا عن العائد الى قريته دون علم بمنع التجول؟
اجاب: "الله يرحمه"، قالها بالعربية.
حتى المحكمة ذهلت من تلك المجزرة ورأت في القتل امرا "وحشيا غير انساني وغير قانوني".
كما دانت من مارس القتل فحُكم على الرائد مالينكي بالسجن 17 سنة وعلى عوفر ودهان 15 سنة و 7 سنوات على المتهمين الخمسة الباقين.
شرعوا حالا بالاستئناف على تلك الاحكام ثم جاء قرار رئيس الاركان وبعده قرار رئيس الدولة واخيرا خفض الثلث لحسن السلوك فلم تتعد اطول مدة حكم بالسجن ثلاث سنوات ونصف!
لكن السخرية الدامية كانت في الحكم على الرأس المدبر شدمي حيث كان القرار: توبيخ وغرامة مقدارها قرش واحد. واتسع قاموس الامثال الفلسطينية الى مثل جديد: "قرش شدمي".
ويضيف الشارح: ولعل ذروة الامعان في التنكيل كان في ترقية مالينكي المسؤول المباشر عن الجريمة وتعيينه ضابط امن في المفاعل الذري في ديمونه. اما شدمي فعين مسؤولا عن الشؤون العربية في بلدية الرملة!!
استقبلت الجماهير العربية أنباء المجزرة بالألم العميق، وقام رفاق يحيى في مختلف انحاء البلاد بتنظيم اضراب احتجاجي قوي. طاف يحيى مع رفاقه في حيفا بالسوق ولم تكن حاجة الى اقناع اصحاب الحوانيت ليغلقوا فالنقمة والحزن لا يحدّان.
عندما صدر عدد "الجديد" بعد ذلك كان طبيعيا ان تكون المجزرة همه في الشعر والقصة والمقالة. لكن ذلك آثار حنق اعضاء حزب مبام الذين توجوا جريدتهم "عل همشمار" بشعار: "الصهيونية والاشتراكية وأخوة الشعوب" فاتهموا "الجديد" انها "بالغت في ميدان اثارة غرائز الاقلية العربية واظهار السكان اليهود بمظهر سفاكي دماء اولاد العرب، وذلك ان عددها الاخير كُرّس كله تقريبا لحادث كفر قاسم في المقالة والشعر والقصة".
ردت "الجديد" على ذلك بافتتاحية عنوانها "كاليبان والمرآة" فضحت فيها الحكومة التي "في مركزها احزاب العمال الاشتراكية الصهيونية الطلائعية الثلاثة". واضافت: "يقول اوسكار وايلد في مقدمته لقصة دوريان جراي: ان كراهية القرن التاسع عشر للواقعية هي غضب كاليبان لرؤية وجهه في المرآة، وهذا شأن "عل همشمار" فكراهيتها لما ينشر في "الجديد" هي في الواقع غضبها لرؤية وجه نظامها وحكومتها في المرآة".
في السنة التالية عندما حل موعد ذكرى المجزرة نشط يحيى وعدد من الاصدقاء في الدعوة الى اضراب في ذلك اليوم. وكان بين من شاركه في ذلك النشاط استاذ تخرج حديثا من الجامعة العبرية وجاء يسكن في حيفا ويعلم في احدى مدارسها.
كان التفاهم تاما بين يحيى وذلك الشاب في كثير من المواقف. الا ان المفاجأة كانت بعد شهر عندما سمع يحيى ان صديقه قبل وظيفة قائمقام في الناصرة. رد على عتاب يحيى قائلا: "ان لم اقبل انا فسوف يعين سواي. وانت تعرف مواقفي. اليس من الافضل ان اكون هناك وأؤثر من موقعي ذلك؟".
منطق عرفه يحيى من آخرين وراح يشرح مدى السذاجة في ذلك التعليل. لكن الرجل لم يقتنع وقبل الوظيفة.
في الموعد القادم لذكرى المجزرة اتصل يحيى بذلك الصديق وطلب اليه المشاركة في الدعوة للاضراب الاحتجاجي. خفض الرجل عينيه وقال: "البركة فيكم، قلبي معكم". وانقطعت الصلة بين الاثنين، وكان سلامهما اذا التقيا رماديا.

* فصل من كتاب "مهر البومة" – الجزء الثاني من "ظل الغيمة" وهو ماثل للطبع.


حنا ابو حنا
السبت 18/12/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع