عن العلاقات بين الفلسفة والتاريخ لدى هيغل

"عبادة الدولة" هي الفلسفة التي نادى بها الفيلسوف الالماني جورج وليام فريدريك هيغل (1770-1831)، فهو من اعظم الفلاسفة تأثيرا في تاريخ الفلسفة، ولم يعرف تاريخ الفلسفة فيلسوفا بعد افلاطون وارسطو له هذه المكانة الرفيعة والمنزلة العالية مثل هيغل.

لقد كرس هيغل فكرا ثاقبا ورأيا بارزا للعلاقات بين الفلسفة والتاريخ حيث يؤكد ان الفكر الفلسفي لا يمكن ان يكون منفصلا عن التاريخ ولا يمكنه ان يوجد بدونه وفي معزل عنه.
الفلسفة، التي تشكل الفكر العام، عليها ان تتلازم مع المادة، في التكاثر اللامتناهي واللانهائي مع الحقائق المكونة للتاريخ. ومن الجانب الآخر، فان التاريخ لا يمكنه ان يوجد دون الفكر الواعي. ان الفكر يقرر ويحاول ان يفهم ويعطي مدلولا ومعنىً لتكاثر الحقائق اللانهائي وبالتحديد التاريخ. ان الموضوع الحقيقي للفلسفة هو الفكر حيث ان ما يقف مقابله، يختلف عنه ويضاده. كما ان الفكر موجود في تطور دائم.
وفي كتاباته، يستعرض هيغل تاريخ الوعي ابتداءً من المشاركة المحسوسة في العالم، "في المكان الزمان"،حتى بلوغ المعرفة المطلقة، مرورا بكل ما من شأن النفس البشرية ان تدركه من تجارب. فالوعي كان في البداية ممتزجا دونما تميز بالطبيعة اللاواعية، ذائبا في الوجود المباشر. فينطلق هيغل من وحدة الوجود، فيرى ان المطلق هو الوجود الواقعي، بما فيه من روح لامتناه ٍ، او مثال، او عقل كلي، او مبدأ خالق منظم، وان الطبيعة والفكر حالان له، يظهر الفكر في وقت ما من اوقات تطور الطبيعة، لانهما وجهان له متوازيان. ويرى انه لاجل فهم الوجود في مبدئه وتسلسل مظاهره، يجب اتباع منهج منطقي يبين هذا التسلسل، ابتداءً من اصل واحد (هو القضية) ينقلب الى نقيضه، ثم يأتلف مع هذا النقيض. ويتكرر هذا التطور ما دامت مظاهر الوجود موجودة، أي انه يجب ترك العقل يجري على سليقته هذه، ابتداءً من اول وابسط هذه المعاني، وهو معنى الوجود. ومن هذا يمكن تفهم قول هيغل بان:
"الدولة هي الحياة الاخلاقية ذات الوجود المطلق.. والفرد انما يستمد حقيقته الروحية من الدولة.. الدولة هي الفكرة المقدسة على الارض.. لم تقم الدولة من اجل الافراد، بل وجد الافراد من اجل الدولة". ويقول هيغل ان الدولة فكرة، وفي كل عصر تتجسد هذه الفكرة في امة من الامم. فقد تجسدت في الصين، فالهند، فاليونان، فروما. ومنذ سقوط روما تجسدت في المانيا.
ويرى هيغل انه لكي نفهم التاريخ والطبيعة والروح لا بد من منهج منطقي، ومنهج هيغل يستمده من الوجود نفسه، ويقوم على تطور جدلي ثلاثي، يبدأ بالموضوع او القضية، التي تنقلب الى نقيضها، ثم تأتلف مع النقيض. ويطبق هيغل هذا المنهج على كل مظاهر الوجود، فالطبيعة تنقسم الى ثلاثة اجزاء، وكذلك التاريخ وتطور الروح. وللروح الموضوعي مظاهره الثلاثية كذلك، وهي الحق والواجب والمؤسسات الاجتماعية، فالانسان يبدأ انانيا، ثم يهذب المجتمع انانيته بالحق والواجب، ويتوسط المجتمع الاسرة والدولة، وتنظم الاسرة الجنس بالزواج، وعليها يقوم المجتمع، والدولة غاية الاسرة والمجتمع، وتحقيق الروح الكلي غاية الدولة، فهي مشيئة الله على الارض، وتحقيق الروح المطلق غاية الدولة، بان تهيء للفرد ما ينمي ملكاته ويمنحه المعرفة ويتيح له ممارسة ذاته، لكن الدولة في احسن احوالها قوة خارجية وانما يحتاج الفرد لكي يصعد مدارج الكمال الى تعميق وعيه الذاتي، والانسان يكتسب الوعي بالدين، ويحقق في الفن مثله الاعلى. والفن انتصار على المادة، وانزال الفكرة في المادة، لكن الصورة المادة لن تكون كالمثال، فالفكرة ارفع واجمل من ان توضع في المادة، وهذا الشعور بالقصور عن تصوير المثال هو اصل الدين. والدين ادراك للمطلق في الباطن، والفن تعبير عنه في الظاهر، فالفن دين غير كامل والدين فن متكامل.
وفي رأي هيغل ان الروح لا تبلغ وعيها بذاتها الا في الانسان وحده، وهي لا تعرف الا ما يعرفه الانسان فحسب. وهيغل لا يرفض التصورات التقليدية عن الثالوث والتجسد والله، بل يستخدم مصطلحات مسيحية، ويثني على المسيحية لادراكها ان الله هو الروح، وان الله اصبح انسانا... الخ. والمفارقة هنا ان "الله" لا يكتشف نفسه الا في مذهب هيغل، لكن هذه المفارقة تزول حين نعرف ان هيغل لم يؤمن بالله.
هناك وضوح شديد في فلسفة هيغل عن التاريخ فهو يقسّم تاريخ العالم الى مراحل ثلاث: في المرحلة الاولى، في الشرق القديم لا يعدّ حرا الا شخص واحد (هو الحاكم)، وفي المرحلة الثانية في اليونان وروما، يتمتع الناس بالحرية، وفي العالم الحديث يعد الجميع احرارا - من حيث المبدأ على الاقل. ويرى هيغل ان الدول ذات القوة الاخلاقية هي التي تنجح في مقاومة التهديدات الخارجية مما يؤدي الى بقائها وازدهارها. وليست القوة هي التي تقرر هذا البقاء، وانما "تقدم وعي الحرية" أي تحقيق فكرة الحرية لكل مواطن ومواطن، صراع الانسان لتحقيق حريته وحقوقه، واعتراف المجتمع بهذه الحقوق وكل هذه الاشياء تشكل العوامل التي تُجري الاحداث والتغييرات التاريخية. والدولة في نظره تنتمي الى مجال الروح الموضوعية – أي الروح المتجسدة في نظم اجتماعية – وهذا المجال كله هو الاساس الذي ينمو عليه الفن والدين والفلسفة.
بين تلاميذ هيغل بعد وفاته برز جناح يساري ممن يسمون بالهيغيليين الشبان مثل كارل ماركس الذي أخذ عن هيغل اهتمامه بالتاريخ والتطور، واعتبر ان هيغل جعل الانسان يقف على رأسه كأنما الروح والافكار امور اساسية، لكنه اتبع ذلك بقوله ان العوامل المادية هي الاساسية، وفضلا عن ذلك "فلم يفعل الفلاسفة غير تفسير العالم على اختلاف فيما بينهم، بينما المهم هو تغييره". ومع كل هذا فان هيغل يشير الى انه مهما تبلغ الدولة من كمال فهي ليس الغاية القصوى التي يتجه اليها تطور الروح، وليس السياسة المظهر الاخير لنشاطه. ان ماهية الروح الحرية، واكمل دولة لا تخرج عن كونها قوة خارجية. لذا يصعد الروح الى اعلى من الدولة، ويعمل على تحقيق ما يجده في نفسه من مثل اعلى للجمال والله والحقيقة. فيولد الفن والدين، ويصير الروح المطلق بالفعل، اذ يتحقق على هذا النحو في نفس الانسان. وبالفن احرز الانسان اول انتصار على المادة، قبل ان ينتصر عليها انتصارا كليا بالعلم. وخلاصة افكار هيغل وتحليلاته التي صاغها في برنامجه، برنامج تقديم الكون بأسره، كون الطبيعة والتاريخ والروح، ككل واحد، مشبعًا بالعقل، وينبسط لعضوية حية واحدة. وميزة هيغل بكاملها هي فلسفته للطبيعة، وفلسفته للتاريخ على حد سواء، ستحاول ان تركز الانسان في مكان الله.
وفي منظور هيغل، هناك عامل مركزي في تطور الروح طوال التاريخ وهو ان الروح في شخص المؤرخ، الفنان او الفيلسوف تعكس اساسا حالتها الحاضرة، ولكنها تتجاوز حالتها الحاضرة بتطوير الافكار التي لم تكن تملكها في السابق بوضوح، وبهذا تزوّد مادة جديدة لانعكاس وتطور اضافيين.
والمظاهر والحالات اللاحقة المتقدمة للروح تحتفظ بمظاهرها واشكالها المبكرة، كما انها تلغيها ايضا. وهكذا فان فلسفة هيغل الخاصة تحتوي، ولا تنافس ببساطة، الفلسفات المبكرة: انها الفلسفة العالمية فلسفة النظام كلي الشمول. ان المثالية الهيغيلية لا تستثني المادية او الواقعية، لكنها تنكرهما او تعتنقهما. ولهذا فان احد ردود فعل هيغل على الش
كّيّّة هو ان نظامه ليس وضعا بين اوضاع اخرى، لكنه تكامل بين جميع الاوضاع.
لقد رأى هيغل فلسفته على انها رمز او صورة في شكل مفاهيمي للمجاز التصويري للمسيحية. ان التركيب او البناء المنطقي للعالم يمثل الله الآب، الطبيعة الله الابن، والروح روح القدس. والله ليس متميزا عن العالم ومستقلا عنه – وهو في هذه الحالة لن يكون لامتناهيا او مطلقا، بل محدودا، مقيدا من جانب العالم – لكن الله يحول وينقل نفسه في الطبيعة وعندها يروّض نفسه في النشاط المدرك والعملي للروح. والانسان ليس متميزا بحدة عن الله، لكنه يبلغ مرتبة الله على امتداد التاريخ.
وفي مفهوم هيغل، فان العقل والفهم والمعرفة هي القدرة لرؤية الاشياء الخاصة من منظور الفكر العام. والعقل هو اساس العمليات الاخلاقية الاجتماعية والسياسية عند الانسان. ويزعم هيغل ايضا ان الفن، الدين والفلسفة تشكل تعبيرا للطبيعة الانسانية الحقيقية، كما انها تعبر عن الحقيقة الواحدة العامة، وتعطي معنى لحياة الانسان.
ويفرد هيغل مكانة عليا للفلسفة التي بمقدورها ان تصل الى درجة "رؤية الكمال العالمي". وفي رأيه ان الفلسفة تسِم طريقا معرفية وعقلية للاحداث التاريخية، وبامكانها ان توجه سير التاريخ، وتؤدي الى توعية البشر بالظلم على كافة اشكاله، وحفز الارادة لتصحيحه.
لقد رأى هيغل ان معرفة الذات هي نتاج الرغبة. والناس يرغبون في التعرف على الآخرين من بني البشر اكثر من رغبتهم في معرفة الاشياء، وهذه الرغبة تؤدي الى الصراع. وفي هذا الصراع هناك الرابحون والخاسرون مما ينشأ عن ذلك علاقات غير متساوية والتي حللها هيغل بمصطلح السيد والعبد. وكلاهما مقموعان ومضطهدان بفعل هذه العلاقة، فالعبد مستعبَد ومبعَد، والسيد مستعبَد بفعل اعتماده على العبد، ولكن العبد يجد حرية معينة في العمل الخلاق بينما السيد يكون سجينا في تبطله غير المنتج. كذلك فان توق العبد للحرية وتحقيق الذات النابعين من وعي لظروفه، يهيء التضاد المدمر لطريحة الاستعباد. وهذا التحليل اثر في المفاهيم الحديثة للحرية فيما يتعلق بالاحوال والظروف، وبفكرة "الآخر" كعنصر معرف ومحدد لرؤى العالم.
وهكذا فانه من المؤكد ان هيغل يعتبر من اعظم الفلاسفة الالمان، ويعتبر مذهبه من اشد المذاهب الفلسفية تأثيرا في فكر القرن التاسع عشر، بل القرن العشرين. لذلك يعتقد الكثيرون ان دراسة هيغل ضرورية ومهمة لفهم التيارات الفكرية العميقة، التي قلبت النظر الى التاريخ والمجتمع، لا سيما وانه على اساس فلسفة هيغل قامت الفلسفة السياسية الالمانية بعدئذ. وعلى اساس منطقها الجدلي قام مذهب المادية الجدلية عند كارل ماركس الذي لا يستطيع الانسان فهمه جيدا الا من خلال فهمه الهيغيلية اولا، لان تأثيره على ماركس كان اساسيا بشهادة التاريخ والدراسات الفلسفية العالمية.

(كفر ياسيف)


د. منير توما
السبت 18/12/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع