الجراد

هجعت الى فراشي بعد سمر طويل تحت النافذة الوحيدة في الغرفة وافكاري ملآنة باحلام اليقظة والخطط عن غدي وذهابي مع اخي الذي يصغرني الى الحقل البعيد تنفيذا لاوامر ابي الذي اسمع شخيره في هذه اللحظة يعلو ويخفت يغوص في نوم عميق ربما جلب الراحة لرحلته الشاقة الدؤوب في الحياة.

اطفأت مصابيح الدار ماعدا واحدا صغيرا بعث في الردهة الطويلة ضوءا اصفر خافتا عكس خيالات الاشياء والاثاث الموضوع هناك.
حملقت في سقف غرفتي وحلقت في افكاري بعيدا الى ذاك الحقل البعيد والطرق المؤدية اليه.. كان الصباح على اجنحة البلابل خلف النافذة المشرعة. فتحت عيني على خيال امي تداعبني وتدعوني برقة متناهية الى القيام والاستعداد للذهاب الى الحقل. غادرت لتوها غرفتي واتجهت الى الغرفة الاخرى تنادي اخي وتدعوه بدوره للاسراع قائلة بصوت ملآن بالحنان بانها ذاهبة لاحضار طعام الافطار.
كان الصباح هادئا راكدا وضباب كثيف حجب كستارة سميكة المنظر من شباكي.
قمت من مرقدي وخطوت خطوات واسعة نحو الخارج حيث سمعت هدير شاحنة ابي واصوات العمال وقهقهاتهم وقفشاتهم كعهدي بهم كل يوم. غير اني هذه المرة لم أر الا ضوء من اصفرين باهتين اخترقا الضباب الكثيف الذي لف كل شيء حتى الشاحنة التي وقفت بضعة امتار مني في ساحة الدار.
ابتعدت السيارة رويدا رويدا وغاب صوت ابي في الضباب امر احدهم بالصعود الى الشاحنة المغادرة.
نزلت من عتبة الدار عدة خطوات باتجاه هدير محرك الشاحنة التي اختفت كلية وخفت صوتها وضاع في ذاك الضباب السميك الذي اكاد المسه باصابعي التي راحت بحركة لا ارادية تبحث عنه او ربما عن أي شيء آخر يعيدني الى الواقع الملموس المحسوس بعد ان وجدت نفسي في ثقب اسود لا قرار له. وقفت دقائق لا اعرف ما المصير لم ار يدي الممدوتين في ذاك الضياع. تسمرت مكاني وعلتني رجفة هزت كياني وكدت اصيح رهبة من ذاك المصير الذي الت اليه... حتى سمعت اخي رفيقي الى الحقل يدعوني باحثا عني.
هكذا كان.. وجدتنا بعد دقائق نسير في طريقنا الى قصدنا وقد خفت حدة الضباب، بدأت اشعة شمس الصباح تخترقه مكونة شلالات من نور بديع ينعكس على البيوت والاشجار والطريق. صعق اخي وارتعدت فرائصي وقد فوجئنا بقرنين كبيرين اسودين وبصوت داهم على وقع اجراس رتيبة. اخذنا جانب الطريق تاركينها للقطيع الذي عبر وعلى رأسه ذاك الثور الضخم صاحب القرنين والجرس الذي علق برقبته الضخمة.. قرع وقرع وبدد الوحشة والضباب وبعث الامان في نفوسنا الصغيرة وشعرنا بان كل شيء في الحياة على ما يرام. نظرت الى اخي وابتسمت فابتسم بدوره وتابعنا طريقنا التي باتت ملامحها واضحة عدة امتار امامنا تناهى الى اسماعنا ثغاء اغنام وعواء كلاب وزقزقة عصافير الدوري المختفية في شقوق السطوح القديمة.. هنا وهناك سعالات وكلمات وابتهالات وصياح ديوك كثيرة تعلن للملأ ان القرية بدأت تفيق وتغسل عيونها من بقايا النوم الى لقاء يومها من جديد كعهدها مئات السنين. وصلنا الى مرجة عالية تطل على حقلنا المرتمي بين احضان اشجار الزيتون العتيقة على طرف القرية الشرقي. بانت ساعتها السماء صافية وعلت الشمس قدر رمحين واكثر وبعثت الدفء في اجسادنا الغضة ورفصت الضباب الذي ربض على صدر الدنيا. من تلك الربوة بانت لنا بصورة جلية بقايا فلول هذا "الغبوق" من حنايا الوادي المنخفضة التي لم تصلها بعد اشعة الشمس. سمعت حديث الرجال في سمر ابي البارحة على ان ما نراه اليوم لاول مرة في حياتنا انا واخي الصغير ظاهرة خيرة للزرع والضرع اذ يعقب هذا الضباب الكثيف ندى وفير يغذي الاغصان والسيقان الطرية اليانعة.
هكذا كان اذ ابتلت اطراف ملابسنا ونحن نمخر عباب المرجة المكسوة بالحشائش الخضراء العالية. دقائق مرت وكنا في وسط الحقل مالت اوراق نباتاته الخضراء بقطرات كبيرة من الندى التي لمعت تحت اشعة الشمس الهابطة من مكان سحري بعيد، بدأت مهمتنا برش الرماد الابيض الناعم فوق تلك الاوراق منفذين ارشادات صديق والدنا بحذافيرها. انغماسنا بعملنا ذاك بهمة ونشاط اشغلنا عن حرب الشمس مع الضباب وسطوة اشعتها التي سخنت الجو حولنا وهي تعلو بثقة لتحتل كبد السماء. تابعت عملي ومسحت بين الفينة والاخرى حبات العرق من على جبيني بكفي الملطختين بالرماد. شعرت باخي يتخلف عني وعن مجاراتي بنشر ذاك المسحوق على وريقات النباتات في الصف المجاور لصفي. التفت الى الوراء ورأيته يقفز هنا وهناك وينبطح كلية على الارض جاهدا للقبض على شيء ما. صاح باسمي وفي صوته لهفة طفولية صادقة وهو يشد قبضته على شيء ما وكأنه كنز وجده لتوه. اقترب وابتسامة شقية على شفتيه الصغيرتين قائلا "انظر لقد أمسكته... انه جندب.. تعال وانظر.."
فتح قبضته بحذر قابضا بيده الاخرى على جناحي ذلك المخلوق. كان جندبا غريب الهيئة لم ار مثله في حياتي. لونه وردي يميل الى الحمرة وبقع سوداء تغطي بعضا من جسده ومن جناحيه... دوائر كالحة اللون حول عينيه اللتين دارتا في كل اتجاه. انتفض اخي وارتمى على الارض وهو يصيح" .. هذا واحد آخر وهذا آخر.. يا الله جنادب كثيرة.. انظر هنا هناك". نظرت اليه ودرت حول نفسي وتركت وعاء الرماد ينفلت من يدي وعلتني دهشة وفرح طارىء صبياني وانا ارى تلك الجنادب تتراقص وتقفز حولنا في كل مكان.. على الارض وعلى اوراق النباتات وسيقانها تحت اقدامنا وعلى ثيابنا وشعرنا. علت ضجة غريبة حولنا تشبه صوت منشار الخشب. صوت قضم وقرض رهيب ملأ المكان وبعث الرهبة في نفوسنا الصغيرة. علت تلك المخلوقات سيقان النباتات واوراقها وفتكت بها بسرعة هائلة. عشرات الآلاف، آلاف الآلاف تقرض بنهم وتأكل الاوراق اليانعة في حقلنا تاركة اياها ممزقة تنزف رحيقا وندى. ها هو جارنا العجوز يتنقل بين نباتات حقله ويهش بعكازه على الارض هنا وهناك بحركات طائشة. سمعته يكلم نفسه بصوت عال.. صاح وشتم وقفز ذات اليمين وذات الشمال وكأنما ادركه مس من الجنون.
يا الهي جمدت نظراتي واهتزت خلجات قلبي ذعرا وانا انظر الى قرص الشمس وقد غطته ملايين البقع الحمراء. ملايين الجنادب تنقض على الارض والزرع تجرد الارض جردا ولا تتركها الا بعد ان تنزع اللون الاخضر منها. تقرض وتمرح وتطير موجات فيها الموت واليباب. قبضت يد اخي وجررته جرا الى عرق زيتونة قريبة بعد ان جمدت البسمة الطفولية على شفتيه وعلته سحنة خوف وذعر شلت كيانه كله. هكذا مرت الساعات ونحن نتابع المشهد الغريب الذي لم نعرف له تفسيرا. قضت الجنادب على الزرع تماما وتعلقت الآلاف منها فوق غصون الزيتونة العتيقة التي احتمينا بها ملتصقين محاولا طمأنة اخي الذي تحول ضحكه الى بكاء مرير لا قرار له.
ركض جارنا العجوز نحونا صائحا باعلى صوته "جراد.. أي والله جراد يا رب استر.. يا رب ارفع بلواك عنا".
اطلقنا ساقينا للريح باتجاه القرية مولين الادبار لا نلوي على شيء.
في طريق العودة راينا العجب. انقلبت الموازين واختلفت الصور. ها هي تلك المخلوقات الحقيرة تغطي كل شبر امامنا. شعرنا بصوت انهراسها تحت اقدامنا مما زاد الرعب في قلوبنا الصغيرة. هنا وهناك انطلق الفلاحون يولولون ويصرخون محاولين بالمعاول والعصي وحتى المكانس وكل ما تيسر لهم طرد تلك الحشرات التي اكلت قلوبهم. هل كان يوم القيامة؟ هل كان يوم الحشر والحساب الذي اتى بهذه الصورة الغريبة؟ هل وصلت تلك الكاسحات الصغيرة بيوت القرية وانتشرت في حواكيرها وعلى اشجارها المثمرة التي طالما سرقنا ثمارها الفجة؟
الابواب والنوافذ كانت موصدة امام هذا الجيش الزاحف من كل صوب. رأيت جارتنا العجوز تلوح بمكنستها من القش في وجه تلك المخلوقات في محاولة اخيرة ومستميتة في الدفاع عن حوض النعناع الذي رعته كرموش عينيها. وقفت امي في ساحة الدار تنظرنا بلهفة وروعة. احتضنتنا بقوة ودموعها غسلت وجهها الطيب. دخلت غرفتي ووقفت خلف الزجاج اشاهد استمرار المأساة التي حلت بالقرية. اتت تلك المخلوقات الحقيرة من جهة الغرب الجنوبية موجات موجات غطت عين الشمس الاحمر القاني الذي مال الى الغروب. مع سقوط الشعاع الاخير خفت حركة الجراد وتوقف صوت القرض والنشر المخيف. هدأت تماما بعد ان ارخى الليل سدوله على القرية والدنيا كلها. اجتمع رجال ابي كعادتهم في نفس الميعاد. وجوههم كانت تلك المرة داكنة وسحناتهم قطرت قطرانا اسود، خرجت اصواتهم حزينة ملآنة بالمرارة والقهر والرغبة بالانتقام. تناهى حديثهم الى سمعي وانا اسامرهم من بعيد واخطف بصري بين الفينة والاخرى الى القمر الحزين.
قال ابي "لم ار مثيلا لهذا في حياتي.. انها والله مصيبة على الجميع".
قال الذي جاوره "اتت من الصحراء كالقضاء المجنون.. انها آفة صحراوية ملعونة".
قال آخر: "سمعت عن جدي رحمه الله انه لا يترك الارض الا بعد ان يقضي تماما على كل شيء اخضر".
وقال ثالث: "يقولون انه لا يقوى على شجر الزيتون.. وهذه نعمة.. الحمد لله".
اكبرهم بقي ساكتا فرك يديه وعصرهما ونفث دخان سيجارته نحو النافذة الغربية وقال: "اتى من هناك.. من تلك الجهة".
رايتني واقفا بدون استئذان قائلا بصوت فيه حرق والم: "نعم اتى من فوق البحر.. من فوق البحر حيث مغيب الشمس".
دارت بنا الحياة وعبثت بنا الاقدار كعادتها مع بني البشر. مات ابي وانفض السمر وبقي يوم الجراد يوما مشهودا في قريتنا بزيجة لا تثمر وعنزة لا ترضع وحقل لا يطرح الغلة.
(شفاعمرو)


د. فؤاد خطيب
الخميس 25/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع