مذكرات رحالّة فلسطيني مغامر

عن "مذكرات نجاتي صدقي" / تقديم واعداد: حنا ابو حنا / بيروت، منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001

تنطبق على سيرة حياة الكاتب الفلسطيني نجاتي صدقي (1905- 1979)، الذي عرفناه في السابق كاتبا قصصيا من الرواد فقط، مقولة من عاش حياة عريضة وزخمة جدا وليست بالقصيرة ايضا. وهذه الحياة الغنية كانت غائبة عن الجميع، ما عدا قلة قليلة عرفت الكاتب معرفة شخصية او قرأت مخطوط مذكراته الذي لم يكن منشورا في السابق، والذي قام الشاعر حنا ابو حنا، مشكورا جدا، بتقديمه واعداده ودفعه للنشر. وفي كثير من المرات لا يملك المرء، في اثناء قراءة هذه المذكرات الشائقة، الا ان يحار ويستغرب لعدم اقدام الكاتب – صدقي- على نشر هذه المذكرات الهامة والقيمة والنادرة وهو على قيد الحياة، فيكتب في نهاية المذكرات معلّلا لنا الامر: "لقد كتمت هذه المرحلة من حياتي السياسية مدة سبع وثلاثين سنة على وجه التقريب، واسقطتها من البحث الذي كتبه عني المرحوم (البدوي الملثم)..." اما الاسباب التي حدت بكاتب هذه المذكرات المتميّزة لان يؤجل كتابتها او نشرها، فربما كان يعود الى التطور الفكري السابق لاوانه لصاحبها والذي كان من شأنه ان يثير نقاشا حادا وصاخبا حول كثير من الموضوعات كانت من المسلّمات آنذاك، او لتواضع الكاتب الذي عاش الحياة بملئها وارجأ تدوين تجاربه وتركها لتنشر بعد رحيله !
ثلاثة امور غالبا ما كانت تستوقفني اثناء قراءتي هذه المذكرات على نحو خاص : الاول، هو توازن كاتب المذكرات وقدرته على النفاذ الى عمق الامور والنقد ورؤية ما قد تؤول اليه الامور مسبقا، لدرجة انه كان قادرا على التلاؤم والولاء للشيوعية والاخلاص لها من ناحية، وعلى عدم الانصياع الاعمى واعمال العقل والذهن في ما يجري حوله والتصدي اذا ما كانت هنالك حاجة لذلك. ففي هذه المذكرات المكتوبة بمداد التجربة والحياة والمغامرة والزخم الثوري العالمي نرى انه على الرغم من اعتناق المبدع صدقي للشيوعية وايلائه الكثير من المهمات البالغة الاهمية والحساسة والخطرة جدا والتي تتطلّب جرأة وتضحية هائلتين، الا اننا في كثير من الاحيان نجده ينتقد ويحلّل بشكل دقيق وبارع جدا ويسخر، كما جاء في حكايته مع طبيب الجامعة في الاتحاد السوفييتي الذي قال له مازحا على نحو جاد :"وهكذا تقفزون من الصحراء الى الاشتراكية دفعة واحدة ؟!" فما كان من الكاتب صدقي الا ان سارع الى تعداد اسماء الفلاسفة والعمالقة العرب القدامى الذين نبغوا في حقول الطب والفلسفة والعلوم ليفحم الطبيب، الا ان الاخير اردف :"هذا موضوع آخر.. المهم ان الصحراء والاشتراكية لا تجتمعان، لان الاشتراكية هي ثمرة التطور الصناعي وليس ثمرة تطور الفقر!" وعندما سأله صدقي :"كيف سارت في ركابكم شعوب الاوزبيك، والقوقاس، والمغول، والقرغيز، والتتر؟!" يتابع صدقي "فربت (الطبيب) على كتفي مبتسما وقال: "في سؤالك هذا جواب على سؤالي.." (ص 61) ومن الجدير ذكره هنا ان هذه المذكرات كتبت بتاريخ يناير سنة 1976.
اما الامر الثاني اللافت، فهو قدرة الكاتب، وربما لانه في العمق كان اديبا اكثر منه مؤدلجا، على ان يستشف الضحك والهزل في اشد المواقع ايلاما. لا بل اننا في كثير من الاحيان، وحين يكون الوضع على غاية من الصعوبة والحساسية، فاننا نرى ان الكاتب يتلّمس خيوط السخرية او الفكاهة او الدعابة التي تجعل من الموقف اخف وطأة واكثر تأثيرا في النفوس وتجعلنا نحن القرّاء اكثر تعاطفا وتقبلّا للحالة.
والامر الثالث الذي يلفت الانتباه على نحو خاص وبارز والذي يدعو الى الدهشة والغرابة في الآن ذاته، هو امتلاء حياة الكاتب بالمغامرة، لا بل ان المغامرة هي التي تسود اغلب صفحات هذا الكتاب الذي يعج حياة وثقافة ووجوها ومخاطر. فهذا الكاتب المؤمن بالشيوعية (البولشفيكي) لا يركن الى حياة الاستقرار، بل نراه دائم التحرّك مغامرا، كما لو انه كان الى حد كبير مفطورا على تلك الحياة. ولقد جمع هذا الكاتب بين مغامرات الحياة ومغامرات الفكر على حد سواء، وحاول قدر الامكان وضمن تلك الظروف ان يفيد ويستفيد من تلك التجارب والمغامرات التي تعامل معها بذهن صاف وبدون اي ادعاء او غرور. واحدى المغامرات الكبرى التي ورد ذكرها في هذا الكتاب، هي اقدام الكاتب على المشاركة في الحرب الاهلية في اسبانيا ودعوة المغاربة على التوقف عن دعم الجنرال فرانكو. وعندما اضطر ان يعود الى باريس والتقى هناك خالد بكداش، حاول الاخير ان يقنعه بالعودة الى اسبانيا رغم وضوح الصورة قائلا له :"انني ادرك مخاوفك، ومع ذلك اقول لك يا رفيق سعدي (اي صدقي/ ر. ب) عد الى اسبانيا، واذا قتلت فيها فثق بانني لن انساك، وسأضع عنك كتابا يخلّد ذكراك !" ولكن الرفيق سعدي النبيه الفطن والذي كان يعرف حقيقة ما آلت اليه الامور لا يوافق. وفيما بعد، عندما يكتب ذكرياته عن الحرب الاهلية الاسبانية يوقعها خالد بكداش باسمه!

الصدمة والانتماء الى الحزب

في بداية المذكرات "هجرة ومبادئ مستوردة" يتعرض الكاتب صدقي الى الصدمة التي حصلت اثر الهجرة اليهودية الى فلسطين وما حملت معها من افكار جديدة، فيكتب: "حملت الهجرة اليهودية الى فلسطين فيما حملته  معها عادات وافكارا ومناهج اجتماعية غريبة عن البيئة الفلسطينية.. فسمعنا وقتئذ، اي اوائل العشرينات، عن البلشفية والفوضوية وماركس ولينين وتروتسكي وهيرتسل." (ص 16). اما عن الاحزاب الاشتراكية اليهودية، فكانت على وجه العموم تدعو الى افكار تقدمية، اما بالنسبة للشعب الفلسطيني اصحاب الارض والبلاد، فكان احد تلك الاحزاب يرى الفلسطينيين كمتخلّفين ومن الاصلح لهم ان يذوبوا في الدولة العبرية العتيدة. اما كيف تم تعريب الحزب وعودة اليهود من الشتات الى فلسطين ودفع اهلها الى الهجرة، فهذه تبقى مشكلة شائكة جدا وعصية على الفهم، لدرجة انها تظهر كالطلاسم حتى بعد تعريب الحزب. فالاممية والطبقية وكل مشتقاتهما لا تملكان حلا للكارثة التي حلّت بالشعب الفلسطيني، وتبدو الحلول المعروضة كنوع من الحلول المفبركة والزائفة، وذلك لمصلحة اليهود اولا واخيرا! وفي الكتاب ثمة شرح واف عن تعريب الحزب في الفصل الرابع المعنون بـ "قضايا الحزب الكبرى". وعلى الرغم من كل ذلك الشرح، الا انه يبدو "غامضا وملتبسا" الى حد بعيد، خاصة ان الافكار الصهيونية كانت تسم تفكير بعض الاعضاء اليهود بسماتها !
ويسرد الكاتب كيف انضم الى الحركة الشيوعية التي كانت سرية وقتئذ، وكيف انتمى الى تلك الحركة السرية آنذاك، وكيف عرضوا عليه عرضا مغريا وهو السفر والدراسة في موسكو، وكيف وافق على ذلك العرض دون اي تردد، وكيف تكتّم على ذلك الامر حتى عن اهله وذويه، كل ذلك يظهر لنا بوضوح ان الكاتب نجاتي صدقي انه من اول حياته الى آخرها كان مسكونا بروح المغامرة مهما كانت النتيجة. وكل ذلك يجري وحتى يدوّن في المذكرات على نحو عادي بدون اي انتفاخ او غرور.
ولا شك ان الانفتاح على الافكار الجديدة والدراسة في جامعة كوتف واللقاءات التي يسردها الكاتب بدقة عالية وحسه بالمغامرة مع توازنه الداخلي وقدرته العميقة على النقد حين يستوجب النقد صقلت شخصية هذا الكاتب المغامر، لا بل اكثر من ذلك، وكما يقول حنا ابو حنا نرى :"ان المسؤولين في الكومنترن قدروا مواهب نجاتي صدقي وقدراته فانتدبوه لعدة مهمات تجاوزت دوره في فلسطين الى مسؤوليات "اقليمية" بل مركزية." (ص8)
ان طبيعة المهمات التي القيت على عاتق صدقي تدلّل على المركز والتقدير اللذين كان يحتلهما في اوساط الحركة الشيوعية. ففي حين يرسل الى اسبانيا لحث المغاربة على الابتعاد عن فرانكو، نراه يصدر بعدها جريدة في باريس لوحده، ثم يرسل الى الجزائر من اجل تأسيس اذاعة هناك وغيرها من المهمات الكبيرة. وعلى الرغم من هذه الثقة به من قبل الكومنترن، الا ان الاضطرابات تعصف بعلاقاته ببعض الاحزاب الشيوعية واهمها الحزب الشيوعي الفرنسي، لدرجة ان عضويته في لبنان تجمّد بطلب من قادة الحزب الشيوعي. وهذه مادة ثرية وعلى غاية من الاهمية تكشف للقرّاء على نحو جلي وبيّن انه حتى في بعض الاحزاب الشيوعية العالمية لم يكونوا مؤهلّين للنقد والتخلّص من بعض النوازع الاستعمارية والامبريالية. ومن ابرز الامثلة على ذلك هو اعتراض صدقي على اتفاقية عدم الاعتداء التي وقعت بين هتلر وستالين سنة 1939، والتي رأى فيها مماطلة لتأجيل الحرب، حيث تم على اثرها الفصل التام لنجاتي صدقي من الحزب ونشر ذلك "القرار في صحيفة حزبية سرّية مطبوعة على الجلاتين." اما كتابه الشهير المعنون ب ("النازية والتقاليد الاسلامية") الصادر سنة 1940 والذي ينبّه فيه ويحذّر من مخاطر النازية والويلات التي قد تستحضرها، فلقد ترجم آنذاك الى الانجليزية.
ففي علاقة نجاتي مع الحزب والحركة الشيوعية العالمية من ناحية، وحسه العالي بالمغامرة الموزونة واستعداده للتضحية من اجل الشيوعية، نجد ان الكاتب يتصف بمقدرة كبيرة من الاخلاص والصدق والتفاني وفي الوقت ذاته عدم الانصياع الاعمى الى تبنّي كل ما يصدر عن الحزب. ان هذه "التركيبة" العقلية والفكرية الفذة لهذا الشخص نادرة جدا. اذ كان واضحا لنا على مدى المذكرات كلها ان الكاتب صدقي كان مخلصا ويقظا وعميقا لكل ما يجري في الحزب وحوله في العالم، وان شهادة بولس فرح التي اوردها حنا ابو حنا في التقديم هي ادق وصف او انطباع عن هذا الشخص ونراها تنتشر واضحة على كل صفحات المذكرات.. يكتب بولس فرح عن صدقي :" وفي مناسبات اخرى التقيت في قلب الجامعة (موسكو) بالرفيق نجاتي صدقي، ومحمود المغربي، ولم التق باي منهما في فلسطين سابقا. كان نجاتي عنصرا مثقفا، انضم الى الشيوعية بدافع من رؤية انسانية وعقلانية. كان مفكرا لا يلقي الكلام على عواهنه، حذرا في حديثه متزنا لطيف المعشر اشبه بخرّيج اكاديمي، قلما سمعته يندفع في الكلام على عواهنه، حذرا في اناة، واكثر صبرا في الحوار، بعكس خالد بكداش فهو يقاطعك بالحديث اينما اتفق ويختلف عنه بنرجسية بقيت مكبوتة بسبب الموقع المسؤول الذي كان يمثلّه في الشيوعية العالمية." (ص8)
الذاكرة القوية والقدرة على التصوير
من الامور التي تسترعي الانتباه على نحو شديد في هذه المذكرات هي قدرة الكاتب على الوصف والتصوير وموهبة التقاط التفاصيل والصفات الدقيقة للمدن والاماكن والاشخاص والمواقع والظروف والازمان وابرازها، وكل هذا طعّم المذكرات بنكهة من الخصوصية والتميّز. ويكفي ان تقرأ هذه المذكرات لتدرك كيف ان الملكة الادبية والموهبة تشتغلان وتدققان وتلاحظان وتحصيان التفاصيل في عقل وقلب هذا الكاتب المبدع الذي اعطى الكثير للحركة الشيوعية العالمية. فالكاتب يحسن وصف رحلته في الباخرة الى روسيا ويدهشك بقدرته على سرد تفاصيل تلك الرحلة، ثم متابعة سفره في القطار وماذا يرتدي الفلاحون هناك والشاي الذي يشربونه والمناظر الخلاّبة. ثم بعد سنين، عندما يسافر الى طشقند ليقف عن كثب على تجربة تلك الشعوب يجعلنا نعيش معه في الجو هناك. اما بالنسبة لسفره الى القرم، فانه يغطي في هذا الفصل البديع تصوير تلك المناطق والحياة هناك تغطية ادبية غنية جدا بالتفاصيل، ويورد ما قاله تولستوي عن بعض تلك المناطق، ثم يصف البيت الذي عاش فيه تشيخوف.
في هذا الكتاب المميّز جدا بقدرة صاحبه على ابراز تفاصيل حيوية وهامة تغني هذا العمل الادبي ثمة الكثير مما هو مثير ولافت للانتباه على مستوى الاسفار والتنقل والبلاد والعباد. وفي هذا الامر، يبدو نص هذا الكاتب المبدع في احيان كثيرة شبيها باعمال بعض الرحالة. لا بل انه بكتابه هذا المدهش يعيد الاعتبار في صفحات عديدة (من حيث يدري او لا يدري او بقصد او بدون قصد او على نحو عفوي خالص) الى صنف الكتابة الابداعية المتعلّقة بالرحلات وادبها التي اجادها العرب فيما مضى. ففي هذه المذكرات وعلى بعض صفحاتها، يبدو نجاتي صدقي رحالّة حديثا متميّزا ومبدعا وشائقا وذا مقدرة فريدة على ابراز التفاصيل المهمة والاحداث المؤثرة والقدرة على الفرز والغربلة. ان ما يشد كثيرا في هذه المذكرات هو توفر حس المغامرة في الكاتب، ثم قدرته الهائلة والذكية على الوصف والتصوير مع ابراز تفاصيل تعطي العمل نكهة خاصة جدا. ومن المؤسف حقا، ان الكاتب لانشغالاته الكثيرة، الحزبية منها والحياتية، لم يول هذا الجانب اهمية اكثر. فاحدى مواهب الكاتب الكبرى هي انه في مواقع كثيرة من كتابه تتجلّى لنا موهبته الكبيرة والمتميّزة والعفوية على طرق باب ادب الرحلة بجدارة. ادب الرحلة الذي اندثر عند العرب، ربما لظروفهم واوضاعهم او لقلة الفضول، وتطور في الغرب الى حد بعيد.
ذهن متوقد ومنفتح
اما توقد ذهن الكاتب وانفتاحه على الحياة بكل اتساعها ومحاولته هضم ما يجري حوله فهي كبيرة جدا. ولا شك ان مواقفه الكثيرة، رغم انتمائه الحزبي، تجعله ابعد ما يكون عن الانغلاق والتجمّد والتقوقع والدوجماطية. ان الامور التي يناقشها كثيرة ومتنوعة. وعلى سبيل المثال، في تطرقه لانتحار الشاعر الروسي يسينين الذي قال عنه مكسيم غوركي انه كان "عضوا" من اعضاء الطبيعة فقط ولم يستطع ان يتفاعل مع قضايا بلاده الاجتماعية والسياسية، لذا انتحر.. هذا القول جعل المبدع صدقي يتساءل : اذا كان يسينين حقا هكذا، فما الذي حدا بالشاعر ماياكوفسكي، الذي تفاعل مع الثورة وكل قضايا بلاده الى اقصى حد وكان ثوريا جدا، لان ينتحر ؟!
وبالفعل عندما يشير حنا ابو حنا في المقدمة الى دهشته من اتساع رقعة اهتمامات الكاتب صدقي وتنوّعها وتعددها، فهذا صحيح وبارز على صفحات المذكرات. كذلك تكشف لنا هذه المذكرات عن شخص موهوب ولمّاح وذكي وذي مقدرة كبيرة على الاضطلاع بتحمل المسؤوليات الجسيمة التي يقوم بها لوحده، على الرغم من انها تستدعي وجود آخرين كثيرين، كتحريره للجريدة في باريس لوحده. وعندما تستدعي الضرورة والاخلاص لان يتبنّى موقفا معارضا للحزب لا يثنيه عن ذلك شيء، وذلك للعقل النقدي الجدلي العميق الذي يتحلّى  به.
ان كتاب المذكرات هذا الوثائقي والادبي الجميل يجعلنا اكثر من مرة ندهش ونؤخذ بعمق هذا الكاتب والمفكر وانفتاحه وقدرته على النقاش الهاديء العميق للعديد من القضايا الحاسمة. فالايديولوجيا والانتماء الحزبي لا يجعلانه حبيس اهتمامات ضيقة، بل يجعلانه اكثر انفتاحا وقدرة على النقاش والاختلاف. ونرى هذا احيانا لمحا او بشكل سريع، وفي احيان لا يخشى الكاتب من الاختلاف مع كل الحزب وابداء موقفه ونشره على الملأ مثل قضية اتفاقية عدم الاعتداء بين هتلر وستالين. وموقفه من الوحدة العربية، وموقف ستالين المعارض لها، وموقف خالد بكداش المؤيد للموقف الستاليني ! كما ان تناوله للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن بمقال مع ترجمته لنشيد الحرية ونشره آنذاك يدلّل على مثقف واسع الاطلاع ودؤوب وواسع الآفاق.
لا اعرف اذا كانت كل اعمال نجاتي صدقي قد جمعت. لكن هذا الكتاب جعلني اتساءل اكثر من مرة عن ضرورة القيام بهذا العمل، وذاك لتقديم اعمال هذا الكاتب والمفكر الفذ للاجيال الفلسطينية الصاعدة، لئلا تقع القطيعة الكارثية. لقد جعلني هذا الكتاب، مع بعض الكتب الاخرى القليلة المتيّسرة لخليل السكاكيني وبندلي الجوزي وخليل بيدس وغيرهم، افكر في اولئك الكتّاب الفلسطينيين العمالقة وعظمة المشروع الثقافي الفلسطيني الذي كان ينشأ ويترعرع ويكبر وينمو في فلسطين والذي ضرب في الصميم مع قيام اسرائيل. ان قراءة هذه المذكرات الغنية تحث القاريء والباحث على حد سواء على البحث عن المزيد من الروائع الفلسطينية التي يجب ان لا يطولها النسيان وتندثر. فاعمال اولئك الكتّاب العمالقة التي تشكّل جزءا من هويتنا الحضارية ما زالت صالحة وحية وغنية بالفكر والنقاش والابداع حتى هذا اليوم. واكبر دليل على ذلك، هذه المذكرات التي تقرأ اكثر من مرة لغناها وعمقها وجمالها وسحرها. ان نجاتي صدقي ليس كاتبا مبدعا فحسب، بل هو مفكر فذ متزن ورحالّة مغامر ومتعدد الاهتمامات ايضا. كما ان انتماءه الحزبي لم يجعله انسانا "مشلولا ومقعدا" فكريا، بل كان دائم التحفّز للحفاظ على صدقه مع نفسه ومع الآخرين. ربما لكل هذا، كان نجاتي صدقي سابقا لاوانه مثل السكاكيني وغيره من العمالقة الفلسطينيين الذين يجب ان يعاد نشر تراثهم. ان تكون سابقا لاوانك امر جيد لا تختاره اختيارا كما انه في الغالب ليس نعمة بالمرة... على العكس، قد يكون متعبا وشاقا ومضنيا في احيان كثيرة، كما نرى ذلك واضحا في هذه المذكرات. لكن اجمل واروع ما في هذه المذكرات، هو انه رغم ان الكاتب كان سابقا لاوانه ورؤيويا ولهذا ناله الكثير من العذاب والتعب والمشقات، الا اننا لا نشعر للحظة واحدة – وعلى امتداد كل صفحات المذكرات – ان الكاتب يتذمر او يتمرمر او يتبرّم او يحمّل الدنيا او من حواليه مليون جميلة، بل يتقبّل حلو الحياة ومرّها بصمود وثبات وتواضع وفي كثير من الاحيان بقليل من السخرية الطيبة او الفكاهة. هذه المذكرات من اغنى المذكرات الفلسطينية واجملها وتقرأ اكثر من مرة بكثير من الشوق واللهفة.


رياض بيدس
السبت 20/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع