خبر عاجل - " نأسف لا نستطيع اعلامكم عن موت عرفات اليوم ، ربما غدا !! "

تكرر المشهد السياسي المتردد  خلال الفترة التي سبقت الاعلان عن موت ياسر عرفات وانساب مرافقا  المشهد الاعلامي الذي ظل يواكب شاشات الفضائيات العربية حتى بعد الاعلان عن موته . لا بد من القول ان السياق الاعلامي لم يبد واضحا للوهلة الاولى مما حدا بالبعض الى الاستناد على اجتهادات شخصية لا ترتبط بالواقع في المراحل الاولية لمرض الرئيس ياسر عرفات .

 مما لا يبعث على الشك هو ان  الاعلان الحصري ولو لاحدى القنوات الفرنسية  عن وفاة عرفات بقي غير ساري المفعول في الدولة الفرنسية ، في ساحة مستشفى بيرسي العسكري الذي اكتظ بالصحفيين المتوترين  والمتحرقين لمعرفة الحالة الصحية للرئيس ياسر عرفات .  فالمشهد السياسي صار تاريخا قبل ان يرسم خطابه هو الآخر ولذا جاء ضعيفا بعض الشيء ، حتما عند قبوع الناطق باسم بيرسي في نفس الجمل المتكررة والنصوص التي تفهم على اكثر من معنى ، فتارة مؤديا ذلك الى اقتياد الصحفيين في عدم الجزم والتحليل الصحفي الخلاق وتارة اخرى في الانجرار وراء الخيالات في سرد الخبر الاعلامي التي افرزت انكارا للواقع الذي الف المشهد السياسي العام   . وبالتالي نتج واقع  مغاير تماما للواقع الذي سبق رحلة العلاج لعرفات الرئيس في فرنسا .
 بعض الصحفيين  آثروا انتاج التحليلات والتأويلات حول موت الرئيس التي صارت في النهاية تفسيرات حول سبب الوفاة وليس خبر الوفاة المرتقب وكأن النص الفضائي جهز صحونه ليبث شيئا لا يعلم ما هو . هذه العملية تولدت في اعقاب التنافس الاعلامي الشرس مما اظهر لنا حتمية " الايرونيا" في النص غير الملزم وليس على غرار النص الملتزم في الزمان والمكان واصبحت حصيلة خبر المرض انتظار موت عرفات  .
ربما كان التراكم المشاعري والعاطفي  لدى الصحفيين العرب سببا مباشرا للبلبلة في صورة وطريقة السرد فتحول الواقع الاعلامي الى رواية تعبر اولا واخيرا عبر رواية تقريرية مرتبطة بمصير شعب صار قائده في عزلة تامة لازمته منذ خروجه من رام الله .وعليه كان لا بد من خلق مشهد اعلامي آخر مفاجيء في مضامينه نوعا ما  ومعبأ في رسالته للشعبين العربي والفلسطيني في محاولة جادة لكسر الجمود الذي طغى على الاعلام العربي حول القضية الفلسطينية منذ ان شنت الحرب على العراق.
 ولهذا الامر  اسباب متعددة وهذه بعضها :
1- فرنسا وفلسطين ام فرنسا من اجل فلسطين ؟؟ – مما لا يبعث للشك ان الفرنسيين كانوا الاوائل في خطف الانظار الاعلامية  في ايام الوجود الاعلامي المكثف على ارضها، فالسرد الروائي الذي اعقبه  نزول الرئيس عرفات من الطائرة في اول محطاته مع الموت  له انعكاساته السياسية التي وردت لنا اولاً باول خلال الفترة القادمة .
 علينا القول ان رفع اعلام فرنسا في جنازة رام الله قد اْبرزت كل عناصر الدعم الفرنسي للرمز او للقائد او للاب خصوصا عند اقران الجنازة الشعبية في رام الله بحفل التاْبين في فرنسا وسماع النشيدين الوطنيين الفرنسي والفلسطيني مما ثنى حتى الجنازة المصرية الدبلوماسية الى اطراف النقاش الاعلامي ووضع الجنازة الشعبية في مركز المصداقية للنص الصحفي .
 عودة الى القرن الثامن عشر ابان الثورة الفرنسية ووصولا الى الالفية الثالثة نجد ان التسطيح في التعامل مع الاحداث ما لبث ان تحول الى تعمق الرمزية في سلسلة الاحداث المتعاقبة ولذا دخل الى القاموس الاعلامي من جديد قائد الثورة او قائد الانتفاضة  كترجمة منطقية خلال فترة اسبوعين الى طرق التعامل مع الحريات الشخصية ، منها ما يتعلق بالفرد وبعضها ما يتعلق بخصوصية العائلة .
 الا ان الامر الذي يبعث على التساؤل هل كان التعامل مع الكاميرات المنصوبة  تعاملا مع الحدث المجرد وفقط المجرد ام انه تعامل ناتج من "سايكولوجيا" التاريخ خلال الثورة الفرنسية التي نادت بالحريات على انواعها واصبحت الشعوب الاخرى تغرف مما وضعته لها فرنسا ، فصارت المعلم لمثل هذه النصوص ؟ . نعم لفرنسا مكاسب سياسية وحتى اقتصادية في نهجها هذا ولكن لن تدع احدا ينافسها في مذاهب الحريات واعتناق رومانطيقيات  الادب والفلسفة والشعر  ليصبح هتاف الجماهير لياسر عرفات مقترناً بالمشهد السياسي الفرنسي .
2- الرئيس بوش يخطيء كعادته – ان زلة اللسان التي خرجت من فيه الرئيس بوش كانت غير مدروسة او مقصودة عندما ترّحم على الرئيس عرفات خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده وكاْنّه درس الجملة وتعبير الوجه والوجنتين  وفق خطة وضعت في الجارور مع مستشاريه ، فكان متسرعا في ابدائها ليصير هذا المشهد قمة في العبثية في الخطاب السياسي الامريكي .
 عندها كانت ردة الفعل الاعلامية  اقوى واعمق حتى عند الصحفيين الاجانب من محطات التلفزة الاجنبية BBC،SKY،CNN  . فملامح الرئيس من على عدسات التلفاز أعطت النص التلفزيوني تدريجا اعلى من المستوى حسب تسارع الاحداث في اسبوعين وظهر عندها التناقض شبه التام بين الملامح الفرنسية والملامح الامريكية ، بين بلد الحريات والبلد الذي ينادي بالحريات مما سبب احراجا للناطقين باسم وزارة الخارجية الامريكية في اليوم الثاني لتصريح الرئيس بوش .
3- الرئيس حسني مبارك خاف من عرفات حتى في مماته – لو اعطي الخيار المطلق للرئيس المصري لفضل اجراء مراسيم الجنازة على احد الجزر البعيدة ، ولكي لايقع في مطب سياسي لا تحمد عقباه اختار الحل الافضل من مجموعة الحلول الموضوعة على طاولة الرئاسة وقرر عدم اجراء جنازة شعبية في طرق القاهرة المكتظة وبالتالي لاحظنا المراسلين المصريين في انهماكاتهم المتناهية وصف الرئيس عرفات ابن القاهرة ، المصري ، الفلسطيني لمنع الانتقادات الصحفية الاخرى التي خرجت عبر قناتي الجزيرة والعربية ، فانجر مراسلو القناتين وراء عدم انتقاد القرار الجمهوري وفضلوا عدم اظهار الرأي العام العربي  تجاه هذا القرار وربطوه باعتبارات امنية غير منطقية . يمكن القول ان الخطوة التي اتخذها الرئيس المصري اضعفته محليا وحتى عالميا بعد ان كانت مصر المحطة الثانية في سلسلة مراسم التأبين التي جرت لعرفات الرئيس ، فاقران النص المصري بالفرنسي اضعف الاول مجارة للثاني ولو على حساب القوميات المختلفة ، فابن العشيرة حظي بتراثه في حدود المراسيم الرئاسية في المنفى وصارت الدولة الاخرى بلا حدود  سوى الوهمية منها والتي اختلطت معالمها خاصة بالتصريحات الضعيفة التي خرجت من بعض الدبلوماسيين ، فبالتدقيق العميق فيها يمكن ان نلحظ عدم الاقتناع بما تخطط له سابقا .
4- الرأي ولا شيء غير الرأي ولا رأي آخر – ان موت عرفات ساهم بشكل كبير في وضوح المفارقة بين النصين او الروايتين الفلسطينية والاسرائيلية . فالاولى اعتمدت  وتعبت في وصف الرئيس عرفات بالرمز والاب والقائد والزعيم والاسطورة اما الثانية فوقفت حائرة في عدم وضوحها.
 فتارة انتهاء حقبة عرفات او عرفات في القبر ، او عرفات ينازع او في حياته كما في مماته او عرفات اكبر الارهابيين الخ.. . هذه هي حقيقة المفارقة التاريخية التي تتبعثر مكوناتها محدثة لنا بعضا من التامل الفكري فمراسلو القناتين الثانية والعاشرة الاسرائيليتين كانوا اكثر اعتدالا في  اخراج النعوت المتباينة من القاموس الاعلامي الاسرائيلي ،  علىعكس القناة الاولى التي تسرعت في اعطاء صورة غير حقيقية للمشاهد الاسرائيلي . هذا لان الحدث الزم الاقلية الفلسطينية في البلاد مواكبته عبر القنوات الفضائية العربية وصار لزاما على القناة الاسرائيلية ان تجزم مواقفها للمشاهد اليهودي في ظل قراءتها المسبقة لجميع العوامل السياسية التي هي الاخرى قيدت جوهر النص الموضوعي في اسلوبها الانتقائي وفي اطار المحقق والمرصد للاحداث تباعا .
 ان هذه العملية قادت الصحافة الاسرائيلية الى نوع من الارتباك في طرق تعاملها مع الاحداث  فمضمون الصورة المبثوثة من رام الله كان مناقضا تماما للتحليلات التي صدرت من الاستوديو مثيلة تلك التي صدرت من المحلل للتراث العربي والتقاليد العربية والعربي ايهود يعاري .
في اعتقادي انه ساهم في تغليط المجتمع اليهودي لا بل تمويهه . ان للاعلام والصحافة جبهة خلفية كما للسياسة والدولة فاذا كانت الدولة رقيبة نفسها من خلال خطابها وديناميكيتها السياسية فالصحافة رقيبة نفسها بالتلاؤم مع الاحداث التاريخية التي حدثت مع ترتيبها وتنظيمها في ارشيف المكتبة التلفزيونية لتصير فيما بعد مرجعا ومصدرا للعديد من الاحداث الاعلامية ولكن وللاسف لم يلاحظ بعض الاعلاميين الاسرائيليين حقيقة ان للمستقبل فاهاً يتكلم وكاميرا تصور كما لو انه يعيش حاضرنا .

(سخنين)

(* الكاتب : حاصل على ماجستير في الاعلام والصحافة من الجامعة العبرية في القدس ويحضر حاليا لرسالة الدكتوراة) .


* بلال شلاعطة*
الخميس 18/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع