ياسر عرفات.. القائد الذي خسرناه

مات ياسر عرفات بشكل مفاجئ على نحو ما.

     لم أكن أتوقع موته بمثل هذه السرعة، وما زلت أذكر صورته التي ظهرت على التلفاز وهو يصعد نحو الطائرة التي ستنقله للعلاج، يبتسم كعادته ويرسل القبل إلى مودعيه الذين احتشدوا قريباً من الطائرة.

     وبدا لي أن ياسر عرفات عصي على الموت، قلت لنفسي: سيجدون له علاجاً مناسباً وسيعود إلى وطنه، ولم أصدق أنه سيموت بمثل هذا الاستعجال. فالرجل تعرض للموت مرات غير قليلة، ونجا كل مرة بأعجوبة أو بالصدفة المحضة من الموت. لكنه مات أخيراً، ومهما بدا أن موته طبيعي، مهما بدت مستبعدة فكرة المؤامرة التي وردت على ألسنة مسؤولين وشخصيات سياسية من مواقع شتى، فإن ثمة حقيقة لا يمكن الاستهانة بها، وهي أن الظروف التي أحاطت بعرفات منذ فرض عليه الإسرائيليون حصارهم البغيض، مسؤولة بشكل أو بآخر عن التأثير السلبي البطيء على صحته، ما أدى أخيراً إلى موته.
     وثمة حقيقة ممعنة في البساطة والوضوح، وهي أن عرفات عاش شريفاً ومات شريفاً. فهو على غير عادة الزعماء من قادة الدول والمسؤولين فيها، لم ينظر إلى متع الدنيا ولم يكترث لكي ينال حظه منها، لقد أمضى سنوات عمره وهو يحيا حياة بسيطة، لا تعرف البذخ ولا الرغبة في جني المكاسب المادية ومظاهر الترف. ياسر عرفات كرس حياته لقضية شعبه، وظلت فلسطين هي حلمه المتجدد وهي زاده اليومي وهدف نضاله ووجوده.
     لذلك، استحق ياسر عرفات صفة الرمز بجدارة واقتدار. كان رمزاً للشعب الفلسطيني، من شعبه  استمد قدرته على الصمود الطويل، ومن الرمز تعمقت في نفوس أبناء الشعب عناصر الهوية الوطنية، ومكونات الشخصية الوطنية الفلسطينية، التي تعرضت بعد النكبة الفلسطينية العام 1948 إلى محاولات منهجية للتبديد والتذويب، فلما انبعثت الثورة الفلسطينية المعاصرة التي كان لياسر عرفات الدور الأبرز في بعثها، عادت عناصر الهوية إلى الظهور من جديد، وبدأ انبعاث الشخصية الوطنية الفلسطينية بالتدريج، حتى اكتسب حضوره البارز في كل مكان هذه الأيام.
     ويمكن القول إن ياسر عرفات يعتبر أهم قائد فلسطيني منذ تبلور الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة أوائل القرن الماضي وحتى اليوم. وبغض النظر عما يمكن أن نسوقه من نقد لبعض تجارب عرفات في قيادة الثورة وفي بناء نواة الدولة على الأرض الفلسطينية، فإن عرفات يبقى الأهم على أكثر من صعيد. ففي حين شهدت القضية الفلسطينية منذ أربعين عاماً وحتى اليوم أسوأ المنعطفات والتقلبات، وفي حين أحاطت بهذه القضية في تلك السنوات بالذات، أكثر الأوضاع سوءاً وتعقيداً، فقد استطاع عرفات بقيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية، أن يجتاز المآزق الكثيرة التي نصبها له الأعداء وبعض الأشقاء، واستطاع بما اتصف به من شجاعة، أن يصمد في أصعب الظروف، كما استطاع بما تميز به من براغماتية ومرونة وقدرة على المناورة، أن يحافظ على حيوية القضية الفلسطينية وعلى استمرار حضورها في وجدان شعبها، وفي ضمير الشعوب العربية والشرفاء في العالم.
     ومن دون شك، فإن عرفات ما كان له أن يظهر قائداً متميزاً جديراً بالتقدير، لولا البطولات التي اجترحها شعبه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وفي الدفاع عن حقوقه الوطنية الثابتة. لقد استمد القائد من صمود شعبه وبطولاته قدرته على الصمود والمواجهة، كما استمد الشعب من حنكة قائده ومن شجاعته، قدرته على مواصلة النضال دون يأس أو تردد أو استنكاف.
     كان ياسر عرفات واقعياً في السياسة، وعلى رغم أنه مع مرور السنين تحول إلى رمز للشعب الفلسطيني، إلا أن صفته الرمزية لم تحجب عن ناظريه دوره باعتباره قائداً يتعين عليه أن يتخذ قرارات صعبة في اللحظات المصيرية الحاسمة، وقد تكون هذه القرارات مفتقرة إلى تأييد قطاعات من الشعب، قد تكون قرارات لا تحظى بالشعبية المطلوبة، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني الذي تعرض لعدوان ظالم استمر قرابة مائة عام، ومع ذلك فقد أقدم ياسر عرفات على اتخاذ قرارات حاسمة مستعيناً بواقعيته السياسية التي ترى ما يحيط بالقضية الفلسطينية من ظروف وتعقيدات، ومن زاوية حرصه على تجنيب شعبه مزيداً من الويلات، ولهذا السبب في اعتقادي، كان التوقيع على اتفاقيات أوسلو التي أوجدت فرصة لحل تاريخي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة إلى جانب دولة إسرائيل.
     غير أن الحقائق الدامغة، تشير إلى أن حكام إسرائيل بتطلعاتهم التوسعية، هم الذين أفشلوا وما زالوا يفشلون حتى هذه اللحظة، أية فرصة للتوصل إلى تسوية سلمية عادلة وثابتة لهذا الصراع. وحينما يتهم الإسرائيليون عرفات بأنه ليس شريكاً في المفاوضات، بسبب مواقفه الصلبة التي ترفض التفريط بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية التي أقرتها لنا الشرعية الدولية، فإنهم يفعلون ذلك من زاوية رغبتهم في العثور على "لحد" فلسطيني، يوقع لهم على ما يرغبون فيه من تصفية لحقوق الشعب الفلسطيني. هذا الأمر لم يفعله عرفات، وقد تحمل من أجل ذلك الكثير من العنت، وتحمل كذلك الحصار الذي طال.
     تميز ياسر عرفات بسمات شخصية جعلته محبوباً من الناس، فهو متواضع بامتياز، قريب من قلوب الذين عرفوه أو كانوا قريبين منه، ميال إلى استخدام الدعابة في مجالسه وأثناء اجتماعاته الخاصة والعامة.
     كان له حضوره الفذ خلال السنوات الخمسين الماضية، وقد ظل مخلصاً لشعبه ولقضيته حتى اللحظة الأخيرة، ولهذا استحق كل هذا الحزن على رحيله، الذي جاء في أصعب الظروف وأشدها قساوة، فله المجد والخلود، ولشعبه البقاء والنصر وتحقيق هدف التحرر من الاحتلال وبناء الحياة الحرة الكريمة.


محمود شقير
الأحد 14/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع