ياسر عرفات ومؤدلجو الترّهات

يغيب ياسر عرفات.
يرحل قائد مسيرة وضع الشعب الفلسطيني وقضيته في أدفأ نقطة من الضمير العالمي، بينما تروح تبحث عما تبقى من سيول بدت جارفة. سيول ألّفها حتى يوم أمس كلامٌ مطهّمٌ عاجيّ باردٌ، ومغرور. كلام طالما أطلقته بعض النخب منـّّا، تذمرًا منه، من أبو عمّار. لم نمتلك الوقت الكافي، بعد، للغربلة وتنقية القمح من الزؤان. لكن سيكون حينٌ، بعد حينٍ من التفكير المتأني، ليظل فيه كلّ النقد المشروع - بل الواجب قوله، بينما تغيب سيول ذلك النوع من الكلام المتذمّر النظيف من المسؤولية ومن معايير النقد (ومن بعض اللياقة المطلوبة، تواضعًا وأدبًا، ومصداقية لأصحابها أيضًا).

بعضٌ من حملة الألقاب.
بعضٌ من حائزي الشهادات.
بعضٌ ممن يمسخون السياسة، بكل خطورتها، لغوًا انفعاليًا وهرجًا ومرجًا.
بعضٌ من هواة خوض السياسة "النظيفة" فقط، بالـ ريموت كونترول.
بعضٌ ممن يؤلفون المخزون الاحتياطي الوطني لإحدى ظواهر السلوك الاستحواذي، ممن يعون بشكل حاذق، (ولضرورات الريزوميه) ضرورة الكلام الاستعراضي بالسياسة (في الوساع)، كجزء من الرّتوش والاستعدادات الأخيرة للقفز صُعدًا في السلالم الاجتماعية المتبرجزة نحو التربّع على لقب أو منصب أو صفة اعتبارية تقتصر حقيقتها على ما يؤلفه لمعان النيون.
فمنهم من رمى الرجل بحركة إلغائية من طرف خنصره وهو يتمتم "هو المسؤول عن وضعنا المأساوي". وكانوا حينها يتبرّعون، مشكورين، بالنّطق باسم شعب بأكمله دون تخويل، أو حياء.
وفيهم من اعتبره مفرّطًا، مهادنًا، مستسهلا، متساهلا، بل بائعًا لقضية شعبه.. ثم أتبع جواهره اللفظية القاطعة بمجّة طويلة من سيجاره المستورد أو وقفة ناعسة على ضفاف غليونه.
وهناك من جعله هدفًا، بل مهدافًا، كي يتحدث عنه بما يقترب من الشتم، ظنًا منه أنه بهذا التكتيك يزيد شخصه الذاتي الكريم التماعًا وعصرنة (وأمركة أيضًا).
وقد حظينا أيضًا بأن نرى بالبصر والبصيرة جُحيفلات قوم المنظّرين على أبو عمار فيما هم يستلّون شذرات لطيفة تسقط حلوة على الآذان الموسيقية، من نظريات علم النفس/الاجتماع/السياسة، وكل تفرّعاتها الانترديسبلينية المهجّنة في عواصم البرد، ليصبّوها استعلاء على عرفات، وأسلوبه الـ باسيه في إدارة الأزمات..
يا سِـيـدي.. ما علينا..
تتذكّر معرفتك القليلة لمسيرة ذلك الطالب الجامعي الذي أقام ورفاقه، من قلب حطام النكبة، أول منظمة حديثة جامعة تمثّل شعبهم، وتضع بمحاذاتها كل نماذج الشتم المؤدلج، وتصمت.
تستعيد فقرة أو قصة أو توثيقًا لليالي الصمود الفلسطيني بكامل حضور هذا الراحل فيها، من بيروت الى رام الله، وتضع كل ذلك في فضاءات عبارات قوم التذمّر المتأمرك الفصيح البارد العاجز، وتصمت.
تستخرج من ذاكرتك ما علق بها من فذلكات قصفها بها مراهقو السياسة، وتضعها في ظل العيون الدامعة في غزة وجنين والبقعة وبرج البراجنة والناصرة، وتصمت.
ماذا تقول؟ ليتك يا أبو عمّار كنت وسيمًا مثل بيل كلينتون أو نجمًا في حفلات الكوكتيل، فعندها كنت على الأقل ستجعل متأمركي الشعب الفلسطيني قادرين على أن يهضموك.
لا تملك ما يُسعف. لا أنت ولا غيرك. أصلا، فها هو التاريخ يقول. وفيه، هذا الرهيب الغامض الحاكم الحكم القاضي الحاسم الحازم، في هذا التاريخ متّسع للكثير. فيه المواقع الرفيعة لعظماء التضحيات وبينهم يجلس مرتاحًا ياسر عرفات، وفيه أيضًا زوايا تلائم مقامات مؤدلجي الترّهات.
ماذا قالوا في مخيم البقعة للاجئين، أمس؟ - "لقد ارتبط بالتاريخ الفلسطيني المعاصر.. هو قريب من الفلسطينيين، فلا عاش في قصور ولا في بيوت فارهة. عاش ومات وفيًا لمبادئه ومبادئنا كشعب فلسطيني."
هذه الشهادة تكفينا، وتكفيه.




هشام نفاع
السبت 13/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع