ياسر عرفات الثوري المتميز وواضع حجر الاساس للدولة العتيدة:
خالد للابد

الرئيس ياسر عرفات، قائد مسيرة التحرر القومي الكفاحية للشعب العربي الفلسطيني خلال اكثر من نصف قرن، من القادة التاريخيين المميزين عالميا الذين تحولوا الى رمز في نظر شعوبهم، والى شخصيات مثيرة للاهتمام والاحترام والتقدير بين اوساط الرأي العام العالمي ومختلف انظمة الدول والشعوب كونيا.

فلم يكن من وليد الصدفة ان موضوع الحالة الصحية الصعبة للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات منذ لحظة دخوله غرفة العلاج المكثف في المستشفى الفرنسي في باريس وخلال ايام علاجه وحتى كتابة هذه السطور صباح الحادي عشر من نوفمبر حيث أعلن الخبر المشؤوم عن مماته، حيث يجري الحديث عن التجهيزات الجارية لوداع ودفن القائد الرمز، كان الحدث الاهم والخبر المركزي الذي يشغل بال وقلوب الشعب الفلسطيني في مختلف اماكن وجوده، والذي يتصدر نشرات اخبار وسائل الاعلام العالمية والعربية والاسرائيلية، المقروءة والمسموعة والمرئية، ويشغل بال الدنيا كلها. وهذا ان دل على شيء، فانه يدل على المكانة الرفيعة المتميزة والهامة التي يحظى بها الرئيس الفلسطيني ابو عمار وقضية شعبه العادلة بين مختلف الاوساط العالمية والانظمة المختلفة المناصرة للحقوق الوطنية الشرعية الفلسطينية بالتحرر والاستقلال الوطني، وحتى بين اعداء الشعب الفلسطيني من المجرمين بحقه وبحقوقه الشرعية امثال حكومة الاحتلال والمجازر والدماء اليمينية الشارونية او ادارة عولمة ارهاب الدولة المنظم الامريكية، الذين اعتبروا عرفات صاحب الشأن الفلسطيني بانه ليس بذي شأن.
سيسجل التاريخ بأحرف من ذهب ونور ان ياسر عرفات الوطني الثوري بتاريخه الكفاحي المشرّف اتصف بعدة سمات مميزة جعلته بحق وبجدارة يسكن في قلوب وعقول شعبه الفلسطيني كوالد الثورة الفلسطينية الحنون والقائد الرمز للكفاح الفلسطيني العادل من اجل التحرر والاستقلال الوطني، من اجل الدولة والقدس والعودة. كواحد من جيل المؤسسين لحركة التحرير الفلسطينية (فتح) وللثورة الفلسطينية، سيذكر الشعب الفلسطيني على مر الاجيال ومعه جميع انصار الحق الفلسطيني الوطني المشروع المساهمة المتميزة والسمات المميزة للقائد عرفات على طريق درب الآلام الطويلة، للنضال الفلسطيني التحرري العادل. فمن السمات والمساهمات المميزة للرئيس ياسر عرفات، التي تعتبر ذخرا لشعبه ونموذجا يحتذى للثوريين التقدميين وزوادة لمواصلة الطريق حتى انجاز الحق المسلوب بالتحرر والدولة السيادية، نود التركيز على ما يلي:
* أولا: ان الرئيس ياسر عرفات كان طيلة حياته الانسان النموذجي في مسلكه ونهجه القيادي والثوري الذي كرس كل حياته في خدمة الثورة وقضيتها العادلة. لم تكن لياسر عرفات حياته الخاصة المفصولة عن حياته العامة، فالعمل الثوري في خدمة القضية الفلسطينية كانت كل حياته الخاصة والعامة. لم يملك حتى بيتا خاصا يأوى اليه، لم يبن لنفسه القصور ولم ينهج طريق البذخ والتبذير على نفسه، كما يفعل العديد من قادة انظمة العفن العربي ومن متقمصي جلباب الثورية والوطنية، عاش حياة متواضعة، الثورة بيته وملابس الثورة ملابسه وطعام الثورة والثوار طعامه، اصبح عرفات مثلا يحتذى لمن يكرس حياته للعمل الوطني الثوري، ويضرب به المثل "متزوج القضية مثل ابو عمار".
* ثانيا: للرئيس ياسر عرفات وزملائه في قيادة الثورة الفضل الكبير في بلورة الهوية الفلسطينية المستقلة واستلالها من أيدي (الاوصياء) السماسرة وتجار الوطنية من الانظمة العربية. فبعد ان كانت القضية الفلسطينية سلعة يتاجر بها العديد من الانظمة العربية للتغطية على طابع هويتها السياسية والاجتماعية المتعفنة، وبعد ان كان كل نظام عربي يدجّن فصيلا فلسطينيا، سياسيا وعسكريا، يضرب بسيف هذا النظام، فان لياسر عرفات الدور الهام في بلورة الهوية المستقلة لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب العربي الفلسطيني وانها العنوان الوحيد للشعب الفلسطيني ولا عناوين له بعد، لا في دمشق ولا عمان ولا القاهرة ولا بيروت.
* ثالثا: للرئيس ياسر عرفات، بدرايته وحكمته ومكانته المحترمة، الفضل في الحفاظ على الوحدة الوطنية حتى بمستوى الحد الادنى منها، رغم التعددية الفصائلية، وكثرة القوى الناشطة على الساحة السياسية الفلسطينية بهوياتها السياسية العقائدية المختلفة من "فتح" الى الجبهتين الدمقراطية والشعبية وحزب الشعب الفلسطيني، وفدا وحماس والجهاد الاسلامي. بحكمته ودرايته كان السد المنيع في وجه اقتتال الاخوة، رغم الاختلافات الصارخة في وجهات النظر القائمة بين الفصائل الوطنية والاسلامية الفلسطينية. بحكمته ودرايته اعطى المثل للدمقراطية الفلسطينية بحل الخلاف عن طريق الحوار والتفاهم والابتعاد عن لغة "التفاهم" بالسلاح وزرع الفتن المسلحة في وقت يواجه فيه الشعب الفلسطيني وجميع فصائله العدو المشترك، الاحتلال الغاشم على صدر الشعب الفلسطيني وارضه المحتلة. أبو عمار كان الرجل المقبول وكلمته محترمة من قبل كل الفصائل.
* رابعا: بقيادته لمسيرة الكفاح الوطني التحرري الفلسطيني حوّل الرئيس ياسر عرفات القضية الفلسطينية من قضية عامة ومجردة يطغى عليها طابع الحنين والتغني بالماضي سياسة وشعرا ونثرًا الى قضية عينية نقلت الحلم الفلسطيني الى ارض الواقع على حلبة الصراع.  نقلها من وضع كانت تتساءل فيه رئيسة حكومة اسرائيل السابقة غولدا مئير "اين هو الشعب الفلسطيني" وكأنه مجهول الاقامة والهوية الى وضع يجري فيه الصراع حول تحديد مساحة وحدود وطابع الدولة الفلسطينية المستقلة، وبعقله المتفتح وبعد نظره تعامل مع الواقع بمعطياته ومتغيراته. فسريعًا ما ادرك ان طابع حل القضية الفلسطينية مرهون ايضا بموازنات الصراع دوليا ومنطقيا وما تواجه من متغيرات يجب اخذها بالاعتبار لبلورة الموقف الفلسطيني الاستراتيجي والتكتيكي. سريعا ما ادرك انه من غير الواقعي ابدا مواصلة التمسك بموقف وبمقولة "ارض فلسطين الكبرى"  كوطن ودولة للشعب الفلسطيني، كما انه من غير الواقعي ابدا ان تكون مقولة الصهيونية "ارض اسرائيل الكبرى" وطنا ودولة للشعب اليهودي. ادرك سريعا انه في الظروف القائمة لا توجد عدالة مطلقة تنصف الشعب الفلسطيني كامل حقه التاريخي وتخلص الشعب الفلسطيني من حياة المعاناة التي تفوق طاقة البشر ومن التشرد في مواطن اللجوء القسري خارج حدود وطنهم المستباح. ادرك ان مصلحة الشعب الفلسطيني ومستقبل تطوره الحضاري يستدعيان تقسيم فلسطين التاريخية الى دولتين، دولة اسرائيل القائمة ودولة فلسطينية مستقلة تقام الى جانبها. وفي الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر في تشرين الثاني 1988 قفزت القيادة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات قفزة سياسية نوعية رفعت من مكانة القضية الفلسطينية والتضامن معها عالميا. فقد اقر المجلس الوطني الفلسطيني اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، استنادا الى قرارات الشرعية الدولية (242)، (338)، (194).
وحدد البرنامج السياسي لهذا القرار اقامة الدولة المستقلة على كامل الاراضي الفلسطينية المحتلة منذ حزيران السبعة والستين، في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفقا لقرارات الشرعية الدولية. لقد توج المجلس الوطني الفلسطيني بقراره هذا الانتفاضة الفلسطينية الاولى التي كانت حاضنته. وسريعا ما انجب هذا القرار السياسي الحكيم اعترافا دوليا واسعا، اذ بلغ عدد الدول التي تعترف بحق اقامة دولة فلسطينية مستقلة كما جاء في القرار، اكثر من عدد الدول التي تعترف بدولة اسرائيل وتقيم معها علاقات دبلوماسية. وكان هذا القرار الصائب رافعة هامة لتجنيد ضغط دولي على حكومة الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية لمصافحة اليد الفلسطينية الممدودة للسلام العادل والتفاوض مع قيادة الشعب الفلسطيني الشرعية، منظمة التحرير الفلسطينية، لانجاز التسوية السياسية العادلة نسبيا التي تزيل الاحتلال الاستيطاني وتنصف الشعب الفلسطيني بحقه في اقامة الدولة المستقلة. وقد اثمرت هذه الجهود وبفضل الانتفاضة وقرار المجلس الوطني ونتائج حرب العراق العدوانية الاولى، بجر حكومة شمير اليمينية الى مؤتمر السلام في مدريد عام 1991 بمشاركة مختلف اطراف الصراع وبرئاسة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في حينه. وقد تمخض عن هذا المؤتمر عدة مبادىء هامة للتسوية السياسية، اهمها ان يكون السلام العادل، الثابت والشامل، وانهاء الصراع الاسرائيلي – العربي، مبنيا على قرارات الشرعية الدولية (242) و (338)، أي عودة المحتل الاسرائيلي الى حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان حق الفلسطينيين بالدولة المستقلة. ولكن حكومة شمير اليمينية جمدت العملية وخلقت اوضاع حالة من اللاحرب واللاسلم انتهت بسقوط هذه الحكومة في العام 1992 واعتلاء حكومة "العمل" برئاسة يتسحاق رابين وشمعون بيرس ودعم "الجسم المانع" المكون  من كتلتي الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة والحزب الدمقراطي العربي من خارج الائتلاف. ولم تمض سنة على قيام هذه الحكومة حتى تم الاتفاق والتوقيع على اتفاقات اوسلو المرحلية بين حكومة اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية برئاسة عرفات والتي بموجبها اعترفت حكومة اسرائيل بـ (م. ت. ف.) بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، بالوحدة الاقليمية لجميع المناطق الفلسطينية المحتلة وبتسوية مبنية على قرارات الشرعية الدولية.
ووفقا لاتفاقات اوسلو عاد الرئيس عرفات ورفاقه الى ارض الوطن لبناء حجر الاساس للدولة الفلسطينية المستقلة، حيث اقيمت السلطة الفلسطينية على جزء من الارض المحتلة وجرت الانتخابات حيث انتخب عرفات رئيسا كما انتخب المجلس التشريعي الفلسطيني، وجرى بناء البنية التحتية المدنية والعسكرية ووضعت اللبنات الاولى لدولة المؤسسات. وفي محادثات كامب ديفيد بمشاركة الرئيس الامريكي، بيل كلينتون، وبراك الاسرائيلي وعرفات الفلسطيني تمترس الرئيس عرفات بموقفه المتمسك بثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف وعدم التفريط باي منها راكلا بارجله مكابس الضغط الامريكية والاسرائيلية وحتى من بعض الانظمة العربية. وكان رد حكومة براك على فشل كسر ارادة عرفات وموقفه وفشل المفاوضات التآمر مع جنرال المجازر والاستيطان، ارئيل شارون، بتنظيم زيارة شارون الاستفزازية الى الحرم القدسي الشريف وارتكاب مجزرة القدس والاقصى التي فجرت نيران الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وبعد سقوط حكومة براك وصعود قوى اليمين المغامر والمتطرف والفاشية العنصرية برئاسة شارون الى السلطة مارست حكومة الاحتلال والدماء الشارونية ما يشبه حرب الابادة ضد شعب الانتفاضة وممتلكاته حيث دمرت البنية التحتية المدنية والعسكرية للسلطة الفلسطينية وحاصرت الرئيس الفلسطيني المنتخب من شعبه، اعتقلته عمليا داخل مقر الرئاسة (المقاطعة) واعتبرته "ليس بذي شأن" ودفنت أي احتمال للمفاوضات السياسية تحت يافطة انه لا يوجد ند للتفاوض معه، وعرفات "ارهابي" ومقاومة الاحتلال "ارهابية" ! وجرائم هولاكو المجازر والتدمير لم تستطع لَيّ ذراع ياسر عرفات او كسر ارادته المتمسكة بثوابت الحق الفلسطيني بالحرية والدولة والقدس والعودة.
اعداء الشعب الفلسطيني وحقوقه الشرعية من حكام اسرائيل الى ادارة الشر الامريكية وحكومة بلير البريطانية يتحدثون اليوم ان موت الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عبارة عن "نهاية عهد"، عهد عرفات، عهد التمسك بثوابث الحقوق الوطنية، ويبنون على رمال متحركة على بديل قيادي "اكثر مرونة" من عرفات، قيادة مستعدة للتنازل عن بعض الثوابت الوطنية الشرعية. وليسبحوا طويلا في سراب اوهامهم. فموت عرفات لا يعني ابدا موت القضية او الحقوق الشرعية التي مهرها الشعب الفلسطيني باغلى الثمن من دماء مئات الوف شهدائه وجرحاه ومعاناة ثكلاه، فعرفات الموقف المتمسك بثوابت الحقوق الوطنية راية لن تنكس بعد ممات عرفات، فهي راية شعب سيواصل حملها ورفعها رفاق درب عرفات وابناء ثورته، ثورتهم حتى رفع راية الحرية والاستقلال الوطني. فعرفات كان ولا يزال وسيبقى علم الثورة المشرع وباني حجر الاساس للدولة الفلسطينية العتيدة التي ستقوم حتمًا وترتفع اعلامها مرفرفة بألوانها الاربعة فوق القدس الشرقية عاصمة الدولة المستقلة.
هل نقول وداعا، لا يودع من حضوره محفور الى ابد الآبدين في القلب والذاكرة.


د. أحمد سعد
السبت 13/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع