أبو عمارنا

على مقربة اربعة ايام من عيد يوم الاستقلال، ترجل ياسر عرفات عن خمسة وسبعين عاما، وهو عمر غير قليل للانسان العادي. ولكن حين يتعلق الامر بقائد تحول حضوره في وجدان شعبه الى نوع من الكيمياء، فان الفاجعة اشد وطأة منها بغياب الشباب في مقتبل العمر.

أتأمل احدى صوري الملتقطة وانا في ظل ابي عمار، فأتساءل: "ومن هو الذي لم يأخذ صورة معه من أبناء شعبنا؟".. وهل في التاريخ المتاح شخصية شبيهة بهذا الرجل الذي دخل في جينات الفلسطينيين؟ فالفلسطينيون يختلفون معه ويتفقون لكنهم لا يتخيلون حياتهم الا ممهورة بحضوره وهي من المرات النادرة التي يعزي الناس بعضهم بعضا برجل اقرب اليهم من حبل الوريد، ولا يملكون في حضرة المناسبة الا تبادل الذهول والحيرة والاحساس المر بالفقدان.
لقد شاهدت، كملايين غيري، ذلك الشاب الذي وقف مدهوشا امام احدى الكاميرات وهو يهذي: لقد اصبحت يتيما.. وربما كان هذا مفهوما في كل حالة مشابهة. لكن ما يحتاج الى فهم استثنائي، منظر ذلك الشيخ المهدم الذي سقط من طوله، حتى اذا تداركه الحاضرون وجد نفسه يقول: لقد اصبحت يتيما!!
احاول ان اتوغل واتشعب في وجدان ذلك الشيخ وذاكرته: كيف يشعر باليتم، ومن اين جاءه الفقدان؟ كم كان عمره عندما سمع بانطلاقة الثورة؟ ماذا رأى في صورة المهندس الشاب ياسر عرفات وقد وصفته فتح ناطقا رسميا باسمها؟ وما هو شعوره عندما سمع ان اصحاب هذا الرجل الاربعيني يسمونه الختيار؟ فالختيار كبير القوم وحكيمهم.. وها هو قائدهم ايضا. يخرج من حصار ليدخل في دوامة لينفذ الى معترك وينجو من مجزرة ليبدأ في محنو جديدة.. وكل رفع هذا الشيخ يديه الى السماء داعيا للختيار بالسلامة؟ كيف تسلل ابو عمار – ومن اسمائه الوالد – الى روح هذا الشعب فاصبح جزءا منه؟
احاول ان ازيح اثر الصدمة جانبا، ولو قليلا، فأشغل نفسي بالسؤال: من أي منجم صبر كان يستمد طول باله على النقد الذي يبلغ حد التجريح؟ وهل كان يصفح عن الحاكم الذي خذله ويسامح الحاكم الذي تآمر عليه ويغفر للحاكم الذي حاول تصفيته حقا؟ ام انه كان يرى ما لا نرى، فيغض الطرف ويغضي حياء تاركا لمكر التاريخ ان يقول الكلمة التي يجب ان تقال؟ اتساءل عن علاقته بالقدس؟ وهل تلك علاقة انسان بمدينة ام هو رباط العمر المنذور لأمل عنيد؟ وكيف اصبحت حطته وعقاله من رموزنا وهو ابن المدينة؟ كيف طوع لهجته المصرية لتصبح مدار تقليد كل من تماهى معه؟
رجل هذا أم أعجوبة؟
وهذا الذي أطفأ قلوب خصومه تباعا، من أي حجر صوان كان يقدح زناد المبادرة؟ فهو المستجيب لكل طارىء. السباق الى كل فكرة لماحة.. وهذه القدرة على الصمت من اين واتته وكيف تسلح بها وهو الذي سمع الافتراء تلو الافتراء، ورأى الضغينة وقد تحولت الى ادعاء او تمظهرت بمظهر الشهادة؟.
ربما كانت تلك سمات القادة. لكننا ما عرفناه قائدا عاديا..
فقد تجرأنا عليه حيث لا موجب للجرأة حينا. وسمحت لنا انانيتنا ان نظهر بمظهر امان تقول انه ابو عمار.. واسع القلب. لكن ابا عمار هذا نفسه هو الذي يقود الجموع في المعارك، حتى ليمكن القول ان السنوات الثلاثين الاخيرة من عمره كانت زيادة، بمقاييس احتمال الخطر.. وهو ذو الهيبة التي تزعزع الجبابرة عند اللزوم.. وياسر عرفات، الشهيد الحي على امتداد اربعين عاما، هو الشهيد الحقيقي منذ ان ضربوا حوله الحصار، تنفس الغبار الاسود. وسمع التهديدات اليومية، وتناول شريحة الخبز مع قطعة الجبن المقسومة بين مقاتليه، ولم يلن، لم يساوم، لم يتنازل.
دوخنا بما وقع عليه في اوسلو، ولكنهم لم يأخذوا منه الا ما يمكن استعادته. كان العدو مشغولا بالنهب والربح، وكان ياسر عرفات يلعب مع التاريخ.. هو المدرك لمكر التاريخ.. كان شريك حياتنا اليومية. فغافلنا واصبح جزءا من التاريخ، فما الذي نفعل في حضرة غياب رجل تاريخي؟؟ ومن قال انه غياب؟ انظروا اليه مرابطا في المقاطعة، بانتظار ان يثب الى القدس.. حلم عمره وعمرنا. انه ابو عمارنا بامتياز.


أحمد دحبور
السبت 13/11/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع