صيفيّات (9)
(4) مواسم: "لن يفهمني غيرك أيها الزيتون"


"لو يذكر الزيتون غارسه
لصار الزيت دمعًا!"(1)

هذه الشجرة... الزيتونة..
المباركة... الخضراء.. المورقة.. العريقة.. الشامخة.. الصلبة..
القدسية.. المتوهجة.. الباقية.. الصامدة..
تُحضّر فينا النصر، وتحرضنا على الثورة:
"من غابة الزيتون
جاء الصدى..
وكنت مصلوبًا على النار"(2)
وسنبقى وستبقى لنا الرمز والحياة، والدرع الواقي من غزوات الطامعين المحتلين:
"سنظل في الزيتون خُضرته
وحول الارض درعًا(3)
انتَ أغنيتنا الاولى، ونغماتنا الاولى.
"لمغنيك، على الزيتون، خمسون وتر"(4)
فبرغم ضياعنا في الدنيا الواسعة، وبين جنبات الاخوة الذين لم يستفيقوا بعد من هزيمتهم الاولى، ولم يصحوا بعد على صرخاتنا واستغاثاتنا، وندامات عودتنا:

"غصن زيتون بكى
في المنافي عن حجر
باحثًا عن أصوله
وعن الشمس والمطر"(5)
أو تبقى لنا رمزًا للسلام، وللأيام البيضاء، وللزنابق البيضاء
المورقة على صدور حبيباتنا في المساء:
"يحلم بالزنابق البيضاء
بغصن زيتون..
بصدرها المورق في المساء"(6)
ام للمستقبل الاخضر.. وللتجدد الأخضر:
"ودعني، لأنه.. يبحث عن زنابق بيضاء
عن طائر يستقبل الصباح
فوق غصن زيتون"(7)
أتثور الأسئلة في ذهني، ويحترق دمي، وانا أراك تتقطع، وتتفجر، وتُقلع، وتُدمر، وتتمزع..
"يا أبي! هل غابة الزيتون: تحمينا إذا جاء المطر؟
وهل الأشجار تُغنينا عن النار وهل ضوء القمر
سيذيب الثلج، او يحرق أشباح الليالي
إنني اسأل مليون سؤال
وبعينيك أرى صمت الحجر
فاجبني يا أبي، أنت أبي
أم تراني صرت ابنًا للصليب الأحمر؟(8)
ايها الواضح المنتشر في جسدي وفوق شراييني، وفوق تلالي وجبالي، وسهولي.. وعلى أرضي:
"نامي هنا البوليس منتشر
هنا البوليس، كالزيتون منتشر"(9)
أيها المتجدد، كما يتجدد شعبي كل نهار، يموت فلسطينيون
ويولد فلسطينيون:
"تنتشر الأغاني
يسترجع الزيتون خضرته..
يمر البرق في وطني علانية"(10)
فمتى ينفجر الغضب العربي فـ:
"اورشليم! التي أخذت شكل زيتونةٍ
داميهْ"(11)
متى ينفجر الغضب العربي فـَ:
"بطاقة التشريد في قبضتي
زيتونة سوداء
وهذا الوطن
"مقصلة أعبد سكينها"(12)
أيها الزيتون..
من يحميك، ومن أقوى منك، فانضج مبكرًا.. وأنمُ مبكرًا.. فإذا احرقوك نضيعُ، ويضيع تعب البسطاء ورأسمالهم كله، فلقد نصبوا لك جدارًا فاصلاً عازلاً، يخافونك وانت واقف شامخ كالصفصاف، لم يعزلوك عن  حنيننا لك، ولم يفصلوك عن جراحنا وعطر أغصانك فسنجني حباتك فرحًا، ونشم عبقك ونتسربل بعطرك الزيتي. ففي "زيتا" سيكون زيتك انقى واصفى..
ومن "بير زيت" سنرسل الزيت والصتير الى جباليا الصامدة ففي "عين الزيتون" لنا الكروم العالية المنتظرة، وفي "وادي الزيتون" تنتظر الصبايا "الجوالات"، و"الجدادون" أي "الكتاتون".
أيها الزيتون..
زدني زيتًا، فقد شفعت لك أخطار آذار فبشرني بالخير، وامطرت لك دموعي الحانية قبل الخريف المكفهر فزدني بهاء ونورًا. والثلج الابيض الناصع كما يُبيض حياتنا رغم سوداويتها وقساوتها وحزنها يُبيض أيضًا برعمك الغزير القادم الواعد، وثلجنا الأبيض يطرد عنك الجراد والذباب ويحميك كما نحمي بؤبؤ أعيننا.
أيها الزيتون..
الصوري، والنبالي، والمليص (الصري)، التلياني، الشامي، شامي دير الغصون، شامي الرامة، شامي قباعة، شامي جبع. والذكارى الكبير قليل الحمل.. أفي ايلول يدور زيتك؟ وندى وسموم عند عقدك يا زيتون، أيها المبارك، التأتي ومعك الفرح والأهازيج:
"يا زيتونة بو مُري               هريلي بلح هري
يا زيتونة بوعرموش             هريلي ذهب وقروش".
و: "زيتونتي يا حبها بلح بلح   لو يدري بها القاضي سرح"
"زيتونتي يا حبها جرجير       بخص لو يدري بها الخنزير"
وتبقى الزيتونة أحسن عروس:
"زيتونتي اطيب عروس      ما بتثمن بالفلوس"
"تحميني الفقر والبوس        ومن شر يوم عبوس"
وغنى الناس لك وقالوا:
"يا زيتون الحواري         صبح جدادك ساري"
"يا زيتون أقلب ليمون       اقلب مسخن بالطابون"(13)
أيها الزيتون
كم أحب "رصيصك"، و"الملّحْ"، ودفء خشبك في شتائي القاسي الطويل، وطيب صابونك، وتطبيب زيتك الذي مسح جبين الأنبياء، وشفى المرضى، واذاب الحجر، "فأنت ملك العاجز"، و"عماد البيت"، و"مسامير العصب" رغم "أيام الزيت أصبحت امسيت"، ورغم المليسي "زيته طيب واما لقاطه بشيب" و"النباتي زيته سيال واما لقاطه عجال في عجال" "والبري زيته مري".
أيها الزيتون..
أعرفك ليس كالتين كتت الورق وانت قلبك احترق حزنًا على الذين رحلوا، وتركوك على عجل، رحّلوهم عنوةً عنك، ولكنهم لم ينسوا شكلك وخيرك وعطرك ورمزك. يا أسطورتنا الباقية الى الأبد.
نعدك ان نتطلع الى السماء دون خجل، في دخان العالم المشتعل، فمعنا قصائدنا المقاتلة، وقوافي الحراب الصلبة، زاحفين نحو السلام الذي نريد، البعيد، بثقة، ومعنا غُصنك الحاني ونور زيتك المقدس، وفأسك الخشبي القاسي.
أيها الزيتون..
يا رمزنا التاريخي، يا مُنزرعًا فينا آلاف السنين، يا أعرق من وطني، فوطني عُرف بك، أيها المحصول العربي، أتبدلت الازمان وأصبحت محصول الغرباء الأغراب الواردين من أصقاع الدنيا.. التي لا زيتون فيها، وليس لهم مطرح في الأسطورة..
انت ابن الدولة الآتية حتمًا، لا ابن الدولة المشوهة الحدود والعنوان سارقة الكوشان من عيونك، وجذوعك وجذورك الممتدة حتى قاع الحقيقة والتاريخ.
 يا اولى صرخات الحياة الخالدة، يا أقوى من كل الحروب والمدافع، وأصلب من الحجر وانقى من كل ينابيع وامطار الدنيا، فتغاوى فينا وانتصب كالسنبلة، عظيمًا، مقدسًا، أيها العظيم كالكون..
أيها الزيتون..
لا نخشى الموت، ولا الرصاص، ولن نهون لو بقينا بدون مأوى
ونعدك ان لا نبقى وحدنا الى الأبد،
لسنا وحدنا فمعنا الزيتون..
"والغيم فولاذٌ. وهذا النجم جارحْ
وعليك أن تحيا وأن نحيا
وان تعطي مقابل حبّة الزيتون جلدك
كم كنت وحدك"(14)
لست وحدي.. معي كل بساتين و"موارس" الزيتون، وهنا سنبقى وسأبقى: "هنا سنموت، هنا في الممر الاخير، هنا او هنا سوف يغرس زيتونة – دمنا"(15)
فدمنا الفلسطيني – له زيتون. وفيه خصائص ودلالات الزيتون القدم، الاضاءة، التنوير، الاخضرار الدائم، الشموخ، العراقة، الصلابة، المنفعة، البركة، القدسية، التوهج والبقاء.
ولأننا لنسا وحدنا، ولأننا لا ننكسر مثل الزيتون الصامد..
ففي هذه الدنيا الصعبة والشاقة لن يفهمني غيرك ايها الزيتون.
الحواشي:
(1) محمود درويش – اوراق الزيتون – الديوان – ص 40
(2) محمود درويش – عاشق من فلسطين – الديوان – ص 112
(3) محمود درويش – أوراق الزيتون – الديوان – ص 41
(4) محمود درويش – آخر الليل – الديوان – ص 203
(5) محمود درويش – آخر الليل – الديوان – ص 188
(6) محمود درويش – آخر الليل – الديوان – ص 195
(7) محمود درويش – آخر الليل – الديوان - ص 200
(8) محمود درويش – آخر الليل – الديوان – ص 202
(9) محمود درويش – العصافير تموت في الجليل – الديوان – ص 274
(10) محمود درويش – العصافير تموت في الجليل – الديوان – ص 280
(11) محمود درويش – العصافير تموت في الجليل – الديوان – ص 294
(12) محمود درويش – حبيبتي تنهض من نومها – الديوان – ص 314
(13) مجلة التراث والمجتمع – فصلية جمعية انعاش الأسرة – البيرة (المجلد الاول) ص 21 – 26 عدد 4 كانون الثاني 1975
(14) محمود درويش – حصار لمدائح البحر – ص 125 (منشورات الأسوار – طبعة اولى)
(15) محمود درويش – حصار لمدائح البحر – ص 209 (منشورات الاسوار – طبعة اولى)


* يوسف حيدر *
الخميس 21/10/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع