لا مكان لتقوقع العرب


*عالم الاجتماع باريخ كيمرلينغ يتحدث في مقابلة لـ "الاتحاد" عن جذور هبة أكتوبر* يقول: دور المواطنين العرب هو النضال المشترك مع القوى التقدمية اليهودية، دون التقوقع نتيجة اليأس من اليهود* وأيضًا: هنالك علاقة عضوية بين حصول المواطنين العرب على حقوقهم في اسرائيل وبين حل الصراع حلا مقبولا، لكن توجد امكانية لتحسين وضع العرب حتى قبل ايجاد حل "ينهي الصراع"، وذلك بالنضال المشترك بين العرب والقوى اليهودية الدمقراطية*   

"الحدث العابر" الذي حصل منذ اربع سنوات، والمتمثل بالهبة الشعبية للعرب الفلسطينيين في اسرائيل، هو امر بحاجة لبحث ودراسة، وتنظيم!
في السنوات الاربع الاخيرة حصل تمزّق في العلاقة بين الجماهير العربية وبين مؤسسات الدولة، وبالتالي بين الجماهير العربية وبين الاكثرية اليهودية، التي قبلت بالتعريف الذي فرضته الحركة الصهيونية على هذه الاكثرية، دون نقاش داخلي، بل حتى فاخرت به، وهو تعريف "الدولة اليهودية"!
يخرج من هذا الاجماع الصهيوني، اليهود التقدميون الذين رفضوا هذا التعريف، او على الاقل ناقشوه بعمق، وقالوا ان هذا التعريف يخرج الاقلية العربية خارج دائرة الانتماء، وبالتالي يكرس الانفصال عن الدولة وعن الاكثرية اليهودية.
الحزب الشيوعي نظر الى تعريف "الدولة اليهودية" على انها دولة تحقق حق تقرير المصير للشعب اليهودي، وان اتمام هذا الحق يحصل فقط بتحقيق الشق الثاني للمعادلة وهو حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة. هذا التحليل والموقف كان الافضل في ظل المؤامرة التي تشابكت خيوطها ضد الشعب الفلسطيني، والتي نظر اليها الحزب ببعد نظر ميّزه عن كافة القوى الاخرى التي رفضت قبول التقسيم، ولو لحين، حتى تسقط المؤامرة التي تستهدف الشعب الفلسطيني.
 خلال ست وخمسين سنة، هي عمر نكبة الشعب الفلسطيني، وعمر دولة اسرائيل، مرّ الجزء الذي بقي في ارضه من الشعب الفلسطيني، بعدة مراحل صقلت هويته. وكان القائد في غالبية هذه المراحل الحزب الشيوعي، والجبهة منذ اقامتها. هذه المراحل شملت مواجهات مع المؤسسة الرسمية، ومع اجهزتها القمعية، الامر الذي ادّى الى سقوط العديد من الشهداء دفاعا عن الموقف والقضية، دفاعا عن حقنا في المساواة على ارض وطننا ودفاعا عن حق بقية ابناء شعبنا في الحرية في دولة مستقلة. هذا الجزء الذي بقي في وطنه هو نحن، ونحن نختلف عن الاقليات المعرّفة في علوم الاجتماع والسياسة، بانّنا اصحاب هذا الوطن الاصليين، اي اننا اقلية في وطنها، ولسنا اقلية مهاجرة.
خلال السنوات، اصبحت هذه الاقلية جزءا من المجتمع الاسرائيلي، تعمل على التأثير في قضايا السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية، وحليفا وثيقا للقوى الدمقراطية في الشعب اليهودي.
الأزمة التي بدأت في يوم اقامة الدولة، والتي تمثلت بتهجير غالبية ابناء الشعب الفلسطيني من وطنهم، وبإقامة الدولة على انقاض احلام شعب آخر، ولّدت ازمة في الدولة ادت الى انقسام المجتمع الاسرائيلي الى عدة اقسام، وجاء الاحتلال الاسرائيلي عام 1967 ليزيد الانقسام، ولتزداد القوى الفاشية في اسرائيل، التي تؤيد الحرب والاستعمار، وترفض الحل السلمي المبني على الاحترام المتبادل بين الشعبين، قوة ونفوذا.
لكن الاحتلال لم يولّد الشر فقط، وانّما قامت في الدولة ايضا قوى سلامية، من داخل الاجماع الصهيوني ومن خارجه، ترفض الاحتلال وترفض الاستيطان، وتؤيد اقامة دولة فلسطينية تعيش بأمن وسلام الى جانب دولة اسرائيل، وتكون علاقة الدولتين ببعضهما مبنية على الاحترام والعدل.
ومن بين القوى الدمقراطية اليهودية التي افرزها الانقسام والنقاش حول الاحتلال داخل المجتمع اليهودي، الذي جاء نتيجة للاحتلال، برز الطلاب والاكاديميون والفنانون، ومن بين هؤلاء كان المحاضر الجامعي والباحث الاكاديمي في علم الاجتماع، باروخ كيمرلينغ، الذي يحاضر في الجامعة العبرية في القدس، والذي قضى جل حياته الاكاديمية في تحليل الانقسامات في المجتمع الاسرائيلي، وفي خوض غمار الصراع الى العمق، وفي محاولة وضع حلول لهذا الصراع. غالبية الحلول التي يطرحها كيمرلينغ خارجة عن الاجماع الصهيوني، وغير مقبولة حتى على اليسار داخل هذا الاجماع.
باروخ كيمرلنغ هو انسان مقعد والطاقات الكامنة داخله ضخمة جدا، وبنّاءة جدا. كيمرلنغ اصدر العديد من كتب البحث الاكاديمي. وقد التقته "الاتحاد" للاطلاع على مواقفه في عدة امور، خاصة في موضوع الصراع وفي موضوع رؤيته للحل.

(ملاحظة: هذا الحوار اجري عبر البريد الالكتروني، ولذلك فان الاسئلة جهزت مسبقا).

"الاتحاد": ليكن سؤالنا الاول عن "هبة اكتوبر"، فذكرى الهبة والشهداء حلّت قبل ايام. ما الذي سبب برأيك هذه الهبة وهذا الغضب في اوساط الفلسطينيين مواطني اسرائيل؟

*كيمرلينغ: الجواب المقبول في هذه الحالة هو ان نقول ان السبب لهذه الهبة هو الشعور بالظلم النابع من التمييز المستمر منذ اقامة الدولة ضد مواطنيها العرب، بالاضافة الى فشل عملية التفاوض السياسية بين اسرائيل والقيادة الفلسطينية. المواطنون الفلسطينيون في اسرائيل علّقوا آمالا كبيرة على ايهود براك، وجاءت خيبة الامل بمقدار كبر الآمال.
لكن.. وهذه الـ "لكن" كبيرة.. هنالك سبب اضافي هو عدم وجود قيادة حقيقية ومقبولة للفلسطينيين في اسرائيل. القيادة الحالية "تنجر" خلف الجماهير، بدلا من ان تقود هذه الجماهير! ولهذه الاسباب يجب اضافة التعامل غير المقبول والمثير للغضب (اقل ما يمكن ان يقال عن هذا التصرف) للشرطة ولقياداتها، الذين لم يترددوا في الاستعمال المفرط وغير المقبول للقوة ضد متظاهرين عرب. انا متأكد انه لو كان المتظاهرون يهودا، لم تكن الشرطة لتستعمل هذه القوة. مع ذلك فكل هذه الاسباب لا يمكن ان تفسّر وتعبّر عن الشق الحاصل بين العرب واليهود في هذه الدولة، والذي سوف نعاني منه جميعا!

 "الاتحاد": ما السبب برأيك في هذا الشق الحاصل بين العرب مواطني الدولة، وبين المؤسسة الرسمية والمجموعة الاثنية المسيطرة، الا وهي اليهود؟

*كيمرلينغ: في سؤالك هنالك قسم من الجواب. المسيطر يعمل على تكريس سيطرته وشرعنتها، والمسيطَر عليه، يرفض بالطبع ان يبقى واقعا تحت سيطرة الآخرين!

"الاتحاد": هل هنالك علاقة بين يهودية الدولة وبين هبة المواطنين العرب الاخيرة (هبة اكتوبر)؟

*كيمرلنغ: يهودية الدولة هي معطى ثابت منذ اقامتها عام 1948، وهي جزء من السيطرة الرمزية على الفلسطينيين. من هنا نرى ان هذا المعطى لا يفسر توقيت الهبة، ولكنه يشكل جزءا من الخلفية، وأحد التفسيرات لصعوبة شعور العرب بالتماهي مع وبالانتماء للدولة واهدافها وهويتها ورموزهاّ!

"الاتحاد": في كتابك، "نهاية حكم الاحوساليم" (احوساليم هو مصطلح مركب من الاحرف الاولى لعدة كلمات بالعبرية هي: اشكنازي، علماني، مواطن اصلي او غير مهاجر، اشتراكي، قومي - المحرر)، اشرت الى الحق في الاختلاف وفي انتهاج الحكم الذاتي الثقافي. كيف يمكن لهذا الاختلاف ان "يعيش"، وكيف تفسر مصطلح "الحكم الذاتي الثقافي"، وكيف يمكن لهذه الامور ان تحسّن علاقة المواطن بالدولة، خاصة علاقة المواطن العربي بدولة اليهود؟

*كيمرلنغ: اسئلة كثيرة..  قبل فترة قصيرة عدت من كندا، حيث قضيت هناك عامين من البحث الاكاديمي. انا لم أختر كندا بالصدفة، وانما اردت ان اتعلم كيف تعمل الدولة متعددة الثقافات الحقيقية. وبالفعل وجدت ان هذه الدولة تعمل بشكل جيد جدا. مثل كل دولة هنالك حضارة مركزية من ناحية اللغة والقوانين المدنية، هي الحضارة الانجليزية. لكن العشرات من المجموعات القومية والاثنية تعيش وتستعمل حضارتها وثقافتها بمعزل عن الدولة. حتى انهم غيروا العلم المقدس، حتى لا يكون معرفا مع اية مجموعة اثنية معينة. برأيي لا نستطيع نقل كل امر متبع في كندا الى اسرائيل بشكل اوتوماتيكي، لكن المبدأ واحد وواضح. بنظري فإن كل ما يتعلق بالحكم الذاتي الحضاري او الثقافي يوجب التفاوض والاتفاق بين كافة المجموعات في الدولة، من خلال كسر الامر المتبع حتى الآن وهو ان المجموعة الرابحة تترك خلفها مجموعة خاسرة. في حالة الدولة متعددة الثقافات الكل رابح، لكن تنفيذ هذا البرنامج يتطلب تنازلات من كل مجموعة.

"الاتحاد": في نفس الفصل في الكتاب، كتبت ان حقوق الفرد المواطن تكون في مركز الاتفاق الاجتماعي الذي تطمح اليه. ماذا بشأن حقوق المجموعات؟ واين تراها في هذا الاتفاق الاجتماعي؟

*كيمرلينغ: لا يوجد اي تناقض بين الامرين، بل ان الواحد يكمل الآخر. لكل فرد هنالك حقوق كمواطن وكأنسان، وفي الوقت ذاته حقوق خاصة كجزء من مجموعة قومية او اثنية او ثقافية معينة. في الواقع الذي نعيشه من الصعب علينا، اليهود والعرب، تخيّل وضع كهذا!

"الاتحاد": ما هو قصدك عندما تتحدث عن "دمقراطية الاتفاق" في كتابك سابق الذكر؟ وكيف يضمن هذا النوع من الدمقراطية حق تقرير المصير لليهود؟ وما هو الدور الذي يلعبه الفلسطينيون مواطنو الدولة في هذا النوع من الدمقراطية؟

*كيمرلينغ: "دمقراطية الاتفاق" هي وضع تتفق فيه القيادات على قوانين اللعبة، وعلى تقسيم المقدرات المادية والرمزية بين كافة المجموعات الاثنية والقومية في الدولة. حق تقرير المصير لليهود نابع من كونهم جزءا من دولة تتبع هذا النوع من الدمقراطية، لكنها تحقق ايضا حق تقرير المصير للفلسطينيين فيها.

"الاتحاد": بخصوص القضية الفلسطينية. ما هو الحل باعتقادك، وما هو دور المواطنين العرب في اسرائيل في هذا الحل؟ هل حصول المواطنين العرب على حقوقهم القومية والمدنية مرتبط بحل القضية الفلسطينية؟

*كيمرلينغ: برأيي، فان خيوط الحل الاساسية قد بدأت بالتوضح لجميعنا، مثل اتفاقية جنيف (التي وقعت عليها شخصيات فلسطينية واسرائيلية امثال ياسر عبد ربه ويوسي بيلين- خ.ح.)، لكن سيمر وقت طويل حتى تنضج هذه الخيوط وتصبح اتفاقا متكامل التفاصيل، يدعمه غالبية المواطنين من الطرفين. برأيي فإن دور المواطنين العرب هو النضال المشترك مع القوى التقدمية اليهودية، دون التقوقع نتيجة اليأس من اليهود. هنالك علاقة عضوية بين حصول المواطنين العرب على حقوقهم في اسرائيل وبين حل الصراع حلا مقبولا، لكن توجد امكانية لتحسين وضع العرب حتى قبل ايجاد حل "ينهي الصراع"، وذلك بالنضال المشترك بين العرب والقوى اليهودية الدمقراطية.


خليل حداد
السبت 9/10/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع