<أمّ الروبابيكيا>:
التمزّق بين الماضي والآنيّ


*رائعة الكاتب الكبير اميل حبيبي التي يقدمها "الميدان"، هي عمل فني متميز نابض محمل بالكثير من الطروحات والاسئلة المفتوحة. وهل كانت وظيفة المسرح على مر التاريخ غير ذلك! نشد على ايديكم ونطمح الى المزيد*

مسرح الميدان ينفض عنه الاستكانة التي طالت، وينطلق من جديد بخطى ثابتة، وذلك من خلال تقديمه مسرحية "ام الروبابيكيا، للكاتب الكبير "إميل حبيبي". لن اتحدث هنا عن "اميل حبيبي" الكاتب الذي تجاوز محليته الى العالمية، والذي كسر بأدبه وبمفاهيمه الخاص لينطلق الى العام، الذي اخترق الخصوصية ليعانق الرحابة والشمولية ليصير ادبه انسانيا. "اميل حبيبي" الذي ابتكر في ادبه لغة فتحا، هي ذاك المزيج الحلو بين الفصحى الراقية التراثية الموروثة والشعبية المؤثثة بالكثير من السخرية المرة اللاذعة الكامنة في حنايا النص وثناياه. كما انني هنا لن اتحدث عن ادب "اميل حبيبي" الذي غمرته الدراسات النقدية والتحليلية واللغوية الاكاديمية، وانما سيرتكز الحديث على التجربة الجريئة والمتميزة التي خاضها مسرح الميدان مؤخرا وتقحّمها غير هياب، اعني تقديمه لمسرحية "ام الروبابيكيا".
"ام الروبابيكيا" لوحة قصصية رائعة، كان قد مسرحها "اميل حبيبي" مضيفا اليها شيئا ما من لوحة قصصية اخرى هي "النورية". قوامها نحن، اعني نحن الذين بقوا على ارض الوطن وتشبثوا بترابه. تمثلنا في القصة بنت الفران، ملكة وادي "النسناس" غير المتوجة، "هند"، وهند في المسرحية تكشف لنا من خلال حديث النفس عما كان من ايام حزيران النكسة، من تمزقات واشواق وآمال وخيبات واحزان. "هند" تقوم برحلة جوانية عمرها عشرون عاما – من النكبة الى النكسة – "هند" هي انعكاس هذه الاحداث جميعها في اغوارنا وفي تصرفاتنا وفي تجلي الشعور الحاد بالتمزق الداخلي والعائلي والانساني الذي عانيناه. وهي بالتالي تمثل الصمود بكل معانيه وابعاده وتشظياته: الصمود امام الاسرائيلي، الصمود امام المجتمع، والصمود امام الذين تركوها وراءهم. وهي بذلك تصبح المعادل الموضوعي لافكار خالقها، عن الفرقة والبقاء أي عن الامرين اللذين ارّقاه وارقا شعبه طويلا.
ان صمود "هند" هو بداية لبناء اساس للنضال فيما بعد.
وحكاية المسرحية لا تباشر على هذه المعاني والابعاد، انما توحي بها، وتشير اليها وتلمح وترمز. وهذا الامر بالذات، اعني قضية عدم المباشرة والايحاء والتلميح والترميز، يشي بما كنا قد زعمناه سابقا ودائما، من ان الموضوع الجيد يفرض عملا فنيا جيدا. وهذا حقيقة ما شاهدناه على خشبة مسرح الميدان من خلال العرض الافتتاحي لمسرحية "ام الروبابيكيا".
اقول هذا لاننا اعتدنا، وخاصة حين يقدم لنا عمل يعالج قضايانا، على ان يتعرى النص امامنا، وعلى ان يباشر مضمونه زاعقا صارخا نازفا قضيته التي فيها الكثير من التكرار الممجوج والمحور الثيمي الواحد.
في مسرحية "ام الروبابيكيا" نجد العكس، نجد نصا محكما معروضا من الداخل، من الجوّاني، فشخصية "هند" يتغوّرها الكاتب ليكشف صراعاتها الداخلية، ليكشف احزانها، وافراحها، ومخبوء نفسها. وكل ذلك من خلال التمزق بين الماضي والآنيّ.
فالمسرحية تستحضر عن طريق "هند" المواجهة الازلية حكاية "ابريق الزيت" العبثية وحكاية "الشاطر حسن" القصة التي لا تعرف لها بداية ولا نهاية كما تقول. الماضي والآني والمراوحة بينهما يرفعان سؤالا عبثيا: من الملوم؟ نحن ام هم؟! عشرون عاما، وماذا بعد؟ وبطلة المسرحية من خلال انثيال ذكرياتها واستحضار الاماكن والوقائع والشخصيات التي تستمدها من المواعين القديمة التي تبيعها والتي تتفحص محتوياتها قبل بيعها، تلك المحتويات التي هي "كنوزها" والتي تؤثر على ما كان من نسيج اجتماعي انساني مزقته النكبة.
"هند" بطلة المسرحية من خلال كل ذلك لا تقف ذليلة، بل نراها قوية ثابتة مواجهة متحدية، لها كبرياؤها وعنفوانها وأنفتَها واصرارها. فهي تواجه واقعها بقوة، وهي تجري الحساب مع من تستحضره من ذكرياتها مع زوجها، مع جيرانها، مع من احبتهم، مع من اتهموها بالخيانة لانها بقيت، ومع من اتهموها بعلاقة حب. هذه المواجهة تجعلنا نندمج معها ونتساءل هل الذين بقوا خوَنة؟ هل الذين حافظوا على الارض والكوشان والهوية خونة؟ هل الذين دفعوا الثمن وما تراجعوا او تنازلوا خونة؟ انه السؤال الكبير، انه الجرح النازف انه النقد الجارح، والسوط الذي يجلد به الفلسطيني نفسه. انها ثيمة اساسية في مجمل ما طرحه ادبنا الفلسطيني محليا وفي الشتات، ولا ينسى "اميل حبيبي" ان يجعل لهند استمرارا هناك زوجا وابناء وخاصة ذاك الابن الطبيب الذي يعتقل ويزج في السجون بتهمة امنية، وهي لا تبخل بزيارته كما كانت تزور كل واحد من امثاله لتعوضه عن الاهل والوطن. وفي انتظار الغيّاب بعد النكسة "الاشباح الهائمة" الذين يأتون ليتفقدوا بيوتهم ولا يدخلون دارها رغم الانتظار المر، يكون الحوار الذاتي الموجع الدافق المفعم بالصراعات الداخلية والمحمل بالكثير من النقد اللاذع الساخر الجارح.
ولان العملية عملية استحضار للماضي وعملية مواجهة للآني، يدفق البوح هادئا حينا وثائرا حينا آخر، لينا حينا وقاسيا حينا آخر، متعاطفا حينا ولائما حينا آخر، راضيا حينا وناقدا حينا آخر. فالماضي حنين ونشيج حزين ونوسطالجيا، لذلك فهو غناء هادىء رزين ورجوعيات، اما الآتي فنقد صارخ لاذع لما كان ولما نحن فيه. وما نحن فيه من تزييف للواقع وتحريف له عن مساره الصحيح، هو اضافة ذات نكهة اثرت العمل، "التدين المزيف"، و "النفاق الاجتماعي" و "المفاهيم المتخلفة".
ولان المسرحية مواجهة بين ماضٍ وحاضر ونفس بشرية تتمزق بينهما، تتفوّر "هند" بالمتناقضات وبالضدية وبالازدواجية وبالثنوية: بين الذات والآخر، بين التخوين والمحافظة فهي قانعة وثائرة، عاشقة وكارهة، صامتة وصارخة، هادئة وفائرة، ومن هنا يكون التمزق الجواني الذي تمنح منه المسرحية وعليه تشيد. ومن هنا ايضا تكمن صعوبة اداء مثل هذا الدور المثقل بالصراعات الداخلية. ولكن روضة سليمان هذه الفنانة القديرة، المتعددة المواهب، استطاعت ان تجسد كل ذلك من خلال الحركة ولغة الجسد وتلوين الصوت، والغناء الحنون المؤثث ببحة حزينة تختصر الجرح. لقد نجحت روضة نجاحا كبيرا في استبار شخصية هند وتقمصها بالكامل، بحيث اندغمتا سوية وصار يصعب علينا كمشاهدين التفريق بين الوقع والوهم، بين الايديولوجي والمتخيل، وكأن الدور خلق خصيصا لها.
ولان النص يزاوج بين ماضٍ وحاضر، ولانه غرف من الذات، من ذات متعبة بالماضي منفتحة على الآني والآتي، عرف المخرج الفنان يوسف ابو وردة كيف يستغله، وذلك عن طريق عملية الاستمزاج لعدد من العناصر: الفصحى والمحكية، الشعر والنثر، السرد العادي والغناء، وكذلك عرف كيف يستغل خشبة المسرح ويتيح للممثلة التحرك وخاصة عملية التنقل بين الداخل والخارج الموحية بوضعنا الفلسطيني. كما عرف كيف يوظف الموسيقى الموحية المعبرة عن خلجات النفس. الموسيقى التي وضعها الموسيقي الفنان القدير يوسف حبيش، والتي مزج فيها بين النفخ والايقاع والوتر، فجاءت مؤثرات صوتية عبرت، بشكل رائع عن التمزق بين الماضي والحاضر، وعن مكنون النفس، من خلال الايقاع الخافت والصادح، وكذلك من خلال النفخ المعبر عن الزفرات الانسانية الحارة.
وقد تضافرت، الاضاءة - يعقوب سليب والديكور البسيط والمعبر، خاصة الشبابيك والابواب المخلوعة وايحاءات ذلك وعلاقته بالنص - هيفاء مويس بدران، وكذلك الملابس والمكياج - نجدية ابراهيم، تضافرت جميعها لتخلق عملا فنيا متميزا نابضا محملا بالكثير من الطروحات والاسئلة المفتوحة. وهل كانت وظيفة المسرح على مر التاريخ غير ذلك!
نشد على ايدي المسؤولين ونطمح الى المزيد.

د. حبيب بولس
السبت 25/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع