عند اللسان الآخر للكماشة..


*هنا لا حد للاذلال او الاهانة. الوقوف ممنوع. الجلوس على الحافة ممنوع. القرفصة هي الملاذ الوحيد. تقرفص الى ان يقوم الشاباك بتبرئتهم، بعد فحوصات امنية مشددة قد تأخذ أربع ساعات. حتى العامل الذي بات مألوفا للجنود لن يفلت من هذه المهانة. أحدهم اختار ان يقف. ربما مشاكسة وربما آلمته مفاصله من ظروف القعدة. الضابط يغضب. يغضب حد الهسترة..* مع نشيطات "محسوم ووتش" عند حاجز الاحتلال عند حوارة*

في الطريق

أنت هذا الأسبوع في الطرف الآخر من نابلس. عند اللسان الآخر للكماشة، كماشة الاحتلال. تكتب هواجسك هذه عند حاجز حوارة. الحاجز هذه المرة هو هدفك. ترافق اليوم مجموعة من عضوات حركة "محسوم ووتش". هن يواظبن منذ أربع سنوات على الوصول يوميا، بالتناوب، الى الحواجز المقامة في المناطق المحتلة. هدفهن هو الاحتجاج على وجود هذه الحواجز. هي حواجز تقترب من الجرم، تقول نوعا. وهن أيضا يساعدن الكثير من الفلسطينيين على المرور عن طريق الاتصال بمكاتب الارتباط وجهات اخرى.
هنا تنعدم اللغة المشتركة، تتألم نعومي لالو.
من هن اولئك النساء؟ تتساءل أول المشوار! الساعة الان الثانية الا ثلث. هن سبع. يدور في السيارة نقاش عميق، كل واحدة تدلو بدلوها. يحتد النقاش، فيفتر، فيحتد وفق معايير محددة . احداهن تحدثت عن فيلم "اولاد ارنا". قالت انه عرض في الامس وان جوليانو مير خميس، مخرج الفيلم يقول ان بث فيلمه هو ورقة التوت التي تستغلها الحكومة. أجابتها ثانية: تماما مثلما يحاولون استغلالنا نحن كورقة توت.
(تتعلم: هن اذن شكاكات صلبات من فصيلة آرنا ونجلها).
النقاش متواصل، وكذا السير.
يافطة تشير الى مستوطنة كرني شومرون. اولئك من سيجلبون اخرتنا، صاحت احداهن. تنظر أنت نحو المستوطنة، فتشير هي الى رأس الجبل..
تبا، ما سر هذه القلعة الحديثة؟!

جملة اعتراضية أولى

يقول محدثك السائق ان تلك البناية العملاقة عند راس الجبل، تعود الى موشيه زار. وموشيه هذا من طلائعيي الاستيطان. اذن كل هذه البناية الاشبه بوزارة الامن، هي ملك شخصي. عشرات الدونمات حول المبنى محاطة باسلاك شائكة. ويل من يقترب، من رعاة فلسطينيين او اطفال او حتى مجرد تائهين. الغثيان سيد الموقف، تود لو تعود بك الذاكرة الى عصور الاقطاع البائدة. تتوقف بك الذاكرة سنوات قليلة الى الخلف. تتذكر جولتك العائلية تلك في الشمال. هنا قلعة النمرود، قال أبوك، والنمرود هذا كان جشعا متمردا. جمع كل مال الدنيا ورفع قلعته قدر ما استطاع. اراد لو يقاتل الرب. قاتله الرب. مات النمرود ولم يلق الرب.
ولكن ماذا عن الرب، تسأل أنت المرة (أو تكاد) ألقي الرب النمرود؟!

في ذلك الحيز الرمادي..

حوارة. أربع نشيطات يبقين هنا وثلاث يتجهن الى حاجز بيت ايبا، المدخل الاخر لنابلس.
حوارة، اثنتان عند الحاجز الجنوبي للداخلين الى نابلس، واخريان عند الشمالي للخارجين منها.
بمجرد الاقتراب يطل جندي. في كفه عشرات بطاقات الهوية، ينادي على اصحابها ويغادرون. يغادرون ويقول معظمهم "بس لإنكو جيتو مرّقونا..صارلنا من الصبح هون".
أإلى هذا الحد اوصلك الملل، يسألك شوري، ضابط الحاجز. أتعتقد انك واولئك النساء تقدمون حقا شيئا للفلسطينيين؟ لا تعتقد انني قد امرر احدهم لوجودكم، او استغل غيابكم فأظلم أحدا. أنا هكذا (تشق كفه الهواء بحركة مستقيمة). ولكن ما العمل، دائما تقع احداث في المنطقة الرمادية. تلك أحداث مركبة.
بعد قليل ستدرك كم هي عويصة ومنبطحة تلك الرمادية.

الجورة

هي من "أهم تضاريس" الحاجز. أنت الان عند الحاجز الجنوبي برفقة نعومي لالو ونوعا بيريسلون. هي مرصوفة بالباطون، مساحتها خمسة عشر مترا مربعا على الأكثر، يحيطها جدار سميك بارتفاع متر واحد. تخرقه فتحة واحدة ضيقة. يسقف الجورة شيء من الأسبست أو ما شابهه.
هي واقعة بلا شك في تلك المساحة الرمادية. يقبع فيها كل الشباب ممن لم  يتنازلوا عن حقهم بدخول نابلس المدينة رغما عن أعمارهم التي لم تدخل عقدها الثالث. عد بعد اربع سنوات، قال احدهم لصديقه الممنوع من دخول المدينة، بتهمة سنواته الست وعشرين.
هنا لا حد للاذلال او الاهانة. الوقوف ممنوع. الجلوس على الحافة ممنوع. المقاعد المحطمة تحيط نصف الجورة. القرفصة هي الملاذ الوحيد. تقرفص الى ان يقوم الشاباك بتبرئتهم، بعد فحوصات امنية مشددة قد تأخذ من الوقت أربع ساعات. حتى العامل الذي بات مألوفا للجنود لن يفلت من هذه المهانة.
أحدهم اختار ان يقف. ربما مشاكسة وربما آلمته مفاصله من ظروف القعدة. الضابط يغضب. يغضب حد الهسترة. ينقذف نحو باب أزرق، يقرعه بقوة ويسأل الشاب ذاته: اتجلس عندك ام تقف هنا؟!
اذن هي خلية عقاب وانتقام. لا تتعدى مساحتها المتر المربع الواحد. بين الارض والباب فتحة بارتفاع عشر سنتيمترات. الجلوس هنا غير ممكن.
المشاكس ذاته يتراجع. يقعد مكرها. تبدو على شفتيه ابتسامة صفراء مغتصبة.
أتكون لمسح ما تجرعه هو من مهانة؟!

بوابة لولبية

لن تكون الجورة أول المطاف ولا هي اخره. يرافقها سيل من الاهانات. البوابة اللولبية هي اخر تقليعات العقلية العسكرية. الناس يقفون في طابورين طويلين، واحد للرجال واخر للنساء. يقابلهم في الطرف الاخر من الممر جنود هم غالبا في اعمار اولادهم او احفادهم. اولئك الجنود هم الرب القابض على مصائر اولئك الناس في هذا اليوم شبه الخريفي. هم يقررون من يعود الى ابنائه ومن لا، هم يقررون أي جرعة من الاهانه يصبون في وجه هذا او تلك.
يفصل الطابورين عن الجنود بوابة لولبية، على بعد عشرة امتار من موقع تمترسهم، تحت الخوذة وخلف البندقية المستندة الى الاكياس الاسمنتية. البنادق موجهه دوما الى وجوه المارة وقلوبهم.
وضعت تلك البوابة لارغام الفلسطينيين على العبور واحدا واحدا (تماما كما في أوروبا والدول المتأدمة). تسجل ان هذه البوابة هي اضيق ما شادته من هذا الصنف اللولبي، هي بالكاد تتسع لمرور شخص واحد.
سيدة وثلاثة أطفال أحدهم رضيع وحقيبتان. يرفض الاطفال ان يسبقوا امهم الى اللولبية (ايخافون ان تبتلعهم؟!) ويرفضون ان تسبقهم الوالدة (ايخافون ان تبتلعها؟). لا مفر اذن، هي وابناؤها الثلاثة والحقيبتان سيمرون عبر خزق الابرة معا. راس الطفلة علق بين القضبان، الام المذعورة صفعتها. نجت وعلق راس الرضيع. نعومي تهرع فورا لانقاذه، تتناوله وتنتظر امه عند الطرف الاخر.
فلسطينية اخرى تجاوزت الخمسين من عمرها، علق ثوبها بالقضيب على ما يبدو فوقعت.
ان تنقذ نعومي حياة طفل، كأن تتناول حبة سكر في بحر من المرارة. ولكن كيف سنتصرف ان علق رأسه بعد تحويل هذه البوابة الى كهربائية، يتحكم بها الجندي عن بعد. هو لن يرى ما يحدث هنا على بعد عشرة امتار منه. تقول هي مذعورة.
(تفكر انت:هو بالكاد يرى أفق انفه!).

لغة استعلائية

لو كنت اكثر جرأة لقرعت الخوذة فوق رأسه وطالبته بالاعتذار. هن ست مسنات او سبع، في خريف عمرهن. يدخلن المدينة معا ليغادرنها معا. يخفن الفراق، فيعبرن عبر اللولبية بكثافة تمس مشاعر الجندي.
هو ينهرهن بالعربية المكسرة "لورا بنات لورا.."
هنا انت تنكسر، يتدافعن الى الوراء استجابة له.. وهن، هن في اعمار جدته.
تبصق قرفا. 
(الم تحدثك الجدة عما صنعه بها جدودك (البيولوجيون وغيرهم) اوائل القرن المنصرم؟!!)
هنا لا مكان للغة المشتركة، من هنا تنبع كافة المشاكل.
أحد الشباب ممنوع من الدخول لأنه لا يحمل بطاقة طالب. في الغد ساتقدم لامتحان قبول، فكيف احمل البطاقة قبل الامتحان؟ هذا ليس شغل الجنود. نعومي تبادر لحل المشكلة، هو ببساطة يملك بطاقة التسجيل للكلية. هي كافية لمروره فمر! لكن الجنود لم يعملوا شيئا لحل مشاكل الناس، فبعضهم ينتظر ساعات طويلة بينما يكفي هاتف واحد لمكاتب الارتباط، تقوم به احدى عضوات "محسوم ووتش" وغالبا ما كانت تكفي محادثة واحدة قصيرة ولكن باحترام متبادل.
العشرات احتُجزوا دونما سبب. لا مجال لسرد كل القصص. تكفي قصة ميخائيل، ذلك الفتى المريض ابن السبعة عشر عاما. يعاني من مشاكل في القلب. حولوه من رام الله الى نابلس، اخوه الكبير يرافقه. المكتوب الطبي الرسمي لا يكفي الجنود، عليه اقناعهم منذ متى يوجه المرضى من رام الله الى نابلس. الوضع في رام الله افضل. أصر احد الجنود. لكن الدكتور ضرغام مشهور في كل فلسطين، اجابه ميخائيل. شقيق ميخائيل عبر الحاجز ببطاقة الطالب، ولم يعبره ميخائيل الا بعد وقت طويل. كان يستغيث ساذجا " شكلهم تخربطو، انا المريض فوتوه ودشروني".. ثم يضحك ببله "شوف الهبايل"..
(تقول: واللي ما بدري بقول، كفة عدس)!

جرعة من المهانة

"كلب عربي وقذر"، صاح بك احد المستوطنين من حملة مفاتيح الجنة. لم تعد اذن مجرد شاهد على مهانة بلغت حد العظم منك. أردت لو ترد عليه. مرافقاتك اليهوديات نصحنك بالا تفعل. هن أيضا نلن الكثير من لسانه القذر، "خنزيرات، نازيات زانيات".. قال لهن وصلى للرب ان يعاقبهن في رأس السنة. يفصلك عنه الجنود. الجنود يحمونه وهو يهاجم الجميع دون أن يهاب. أخذت له صورة فهددك بتحطيم رأسك.(يفرحك هذا الخوف من الكاميرات). "ليست القضية ان أكون عربيا، فانا عربي فخور، التحدي اليوم أن تكون انسانا، آدميا على الأقل"، انفجرت في وجهه بعد ساعة من تجرع الاهانات. 
احد الجنود حذرك من مواصلة استفزاز المستوطن. استفزك، فهمت اليوم أي حلف بين الجنود والمستوطنين. الجندي يهم بطردك من الحاجز، تذكره بانك تعرف شيئا من القوانين.
والان.. طعنة في ظهرك، هذه المرة يهاجمك ابناء شعبك من الجورة.
تفهم الان افضل: كل ما يضمنه لك القانون، يحرمهم منه. كل حساب لن يتمكن الجنود من تصفيته معك سيصفونه معهم.. الان تتجرع هذه المهانة منخرسا.

السادسة والنصف مساء

شمس الاسراء والمعراج تغيب والريح تقص المسمار. هي الان السادسة والنصف وبضعة دقائق. الان تشاهد المشهد الاقذر بالبث الحي والمباشر. الان يدمج الحاجزان الجنوبي والشمالي في حوارة، يتم نقل المحتجزين في الجنوبي الى الشمالي.
ثمانية عشر شابا، سواعدهم تطحن الحائط، يساقون في سرب واحد. تفصل الواحد عن الاخر مساحة متر. جندي في اول السرب، اخر في اخره واثنان عند الجوانب. البنادق مصوبة نحو من هم ليسوا محاربين، ولا اسرى حرب، نحو العائدين الى بيوتهم، هكذا اذن ينضم شباب الجورة الشمالية الى شباب الجورة الجنوبية. الكثافة ترتفع، وكذا عصبية الجنود.
أحد المحتجزين يدعي ان عينه تؤلمه بسبب عملية فيها. يا اخي بتحرق، لازم احطلها قطرة. مش مصدق؟.. ها شوف القطب شوف. يخلع نظارته السوداء ويلح. تساعده عضوات محسوم واتش على المرور سريعا.
يقول بعضهم انه كذاب..
(تقول، وما العار بالكذب ان ضمن قبلة على خد الولد قبل النوم؟!).

لا للحواجز

نعومي لالو، عضوة حركة "محسوم ووتش"، تتحدث عن عمل حركتها. بدأنا المشوار قبل اربع سنوات. النواة كانت مجموعة من النساء المقدسيات. هناك يعشن مأساة الحواجز في الحياة اليومية العادية. وبدأت حركتنا بالتوسع، وهي تضم الان ما بين 400-500 متطوعة. نعمل في أربع مجموعات وفق التقسيمة الجغرافية. مجموعة من الشمال تناوب عند حواجز جنين. مجموعة من وسط البلاد تناوب عند نابلس وطوكرم، واخرى من الجنوب تناوب في حواجز الخليل، بينما تعمل المقدسيات في القدس.

"الاتحاد": أتهدفن بنشاطكن هذا الى تحويل الحواجز الى أكثر انسانية ورحمة؟!

- ابدا، فوقفتنا هي احتجاجية، نحن نعتقد ان هذه الحواجز المقامة في داخل الاراضي المحتلة وليس على الخط الاخضر هي حواجز تفصل الانسان عن حياته، وزائدة لا بد من التنازل عنها.

"الاتحاد": أليس من الضروري ان تحكين ما تشاهدنه هنا للمجتمع الاسرائيلي؟

- المجتمع الاسرائيلي مقتنع، بارادته هو، ان هذه الحواجز توفر له الامن بينما  هذا الاعتقاد خاطئ. نحن نوثق كل ما يواجهنا، ونعد على فترات متقاربة تقريرا شاملا نسميه "تقريرا تحذيريا" ونرسله الى كل الجهات المعنية والمختصة بما فيها قيادة الجيش كما ننشرها كاملة في موقعنا الالكتروني.
نعومي تؤكد ان الحواجز والمعاناة عليها بدأت تحظى بالاهتمام الاسرائيلي بفضل ننشاطات الحركة.

جملة اعتراضية ثانية

الساعة الان السابعة والربع تقريبا، الشمس تممت غيابها، والبرد استشرس. انت تواق الى العودة. خائف من ملاحظات الاعزاء: اليس في موضوعاتك الجافة شيء من التكرار، يسألونك فتجيبهم ان اجترار الورق أهون من اجترار المأساة ذاتها، واننا اذ ادركنا استخداما اخر لورق قد نستفيد أكثر. الان وانت تخوض هذا النقاش تستوقفك فتاتان وسيدة تبدو امهن. يخرجن عبر البوابة اللولبية باتقان وصبر متناهيان، اجسام عملاقة. هو بلا شك جهاز عروس.
دقائق طويلة وتنجح العروس بتمرير جهازها. كانت فرحة بلا شك، وانت كذلك. انت كدت تزغرد. ولكن على مهل، ستؤجلها للبيت.

هناك، عندما تصل ستنكب على المكتبة. ستقرأ ثانية "على هذه الارض ما يستحق الحياة..".


أمجد شبيطة
السبت 25/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع