لعبة متقنة جدًا


* لعبة المستوطنين متقنة جدا، ومتوقعة جدا، لا بل أنها "مشروعة" بمفاهيم الدمقراطية المعمول بها في اسرائيل، لكنها لم تكن لتنجح لولا إفلاس الأحزاب الصهيونية التي تسمّى بالـ"يسارية"،  فقد ساهم "اليسار" الصهيوني، وبوعي تام، في خلق أجواء وتعزيز قيم تكرّس أفضلية "السلام الداخلي" على "السلام الخارجي"، وهذه المفاضلة تعني إجهاض أية تسوية سياسية يعارضها اليمين. ومن هنا مركزية شعار "الإنفصال يمزّق الشعب"*

مع بداية الحملة الجماهيرية والإعلامية التي يقودها غلاة المستوطنين واليمين المتطرف ضد "خطة الانفصال" وضد صاحبها، رئيس حكومة اليمين اريئيل شارون، يتوجب الوقوف عند بعض الحقائق، وعند ما في إمكاننا فهمه بين سطورها من خبايا، وبالتالي واجبنا إزاءها.

إن الفرضية التي ننطلق منها، والتي سنحاول إثباتها تباعا، هي أنّ تحركات اليمين المتطرف والمستوطنين لن تكون علائقية في سياق "خطة الإنفصال" فقط، وإنما هي تؤسس البنية التحتية لما قد نراه في مراحل وتطورات لاحقة على ساحة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، هذا أولا. وثانيا أنّ هذه التحركات تستثمر التناقضات السياسية الإسرائيلية البنيوية، السابقة والراهنة، لإجهاض إمكانية التسوية السياسية العادلة التي تضمن للشعب العربي الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة، ومقدّمتها كنس الإحتلال وإزالة سرطان الإستيطان من الأراضي التي احتلت عام 1967.


الصدمة والثمن

لعلّ أكثر ما يثير الفضول في هذا المشهد، هو توظيف اليمين الإستيطاني لما يمكن تسميته بـ"صدمة اغتيال رابين" لدى غالبية الجمهور اليهودي، في سبيل تكريس موضعة أنفسهم وقضيتهم (الإستيطان) في صلب الإجماع الصهيوني.

لم تفهم غالبية الجمهور اليهودي اغتيال رابين على أنه خطر الفاشية على الدمقراطية بقدر ما فهمه على أنه خطر الدمقراطية والحسم الدمقراطي على "وحدة الشعب". لذا يخاطب المستوطنون هذه الغالبية بالتلويح بـ"خطر التدهور نحو حرب أهلية" وبشعارات مثل "الإنفصال يمزق الشعب"، و"حكومة شارون حكومة خراب"، ومصطلح "الخراب" يحمل دلالات أسطورية (كخراب الهيكل مثلا)، يوظفها اليمين المتطرف في خدمة مشروعه الإستيطاني.

إن حملة المستوطنين هي حملة ذكية جدا، وليس من قبيل الصدفة أن يتم التنازل (ظاهريا وإعلاميا وليس فعليا بالطبع) عن شعار أيديولوجي مركزي مثل "أرض اسرائيل الكبرى"، أو حتى رسالة مفادها أن إخلاء المستوطنات هو "جائزة وانتصار للإرهاب الفلسطيني"، وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يكون جميع متحدثي المظاهرة الإستيطانية (الأحد، 12 أيلول) من غير منتخبي الجمهور والسياسيين، فالرسالة المنشودة هي وجود خطر على "وحدة الشعب"، وليس من قبيل الصدفة أن يرسل اليمين المتطرف مستوطنات إناثا للتحدث في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، حتى يصبح تعاطف المستمعين و/أو المشاهدين أقوى.

صحيح أنه في واقع الأمر ولدى أجزاء معينة من المستوطنين، فإن شارون ورابين سيّان من حيث خيانتهما لمبدأ "أرض إسرائيل الكبرى"، وربما تزداد الحدّة في حالة شارون لكونه الأب الروحي التاريخي للإستيطان والمستوطنين، ولكن قيادة المستوطنين تعمل بشكل عقلاني ومدروس وتراهن في نهاية المطاف على نجاح "صدمة اغتيال رابين" في إرجاء الحسم على قضية الإستيطان. ومرة أخرى: ليس في غزة، حيث معركتهم خاسرة، وإنما في الضفة الغربية.

علينا عدم أخذ التهديدات الموجّهة الى شارون على محمل الجد، لأن قادة اليمين المتطرف يدركون أنه لن يكون أي رئيس حكومة أفضل من شارون (بما في هذا نتنياهو) لتكريس الإستيطان في الضفة الغربية. ولا نستبعد أن تكون كل هذه "الزيطة" مجرد "بروفا" للصراع على مستوطنات الضفة. ولكن هذا لا يعني عدم وجود أفراد وجماعات قد يصل بها التطرف إلى الإقدام على شيء من ذاك القبيل في غمرة التحريض على شارون ونعته بالنازية وما الى ذلك من المسلسل الذي سبق اغتيال رابين، وفي حال حدوث هذا فستكون هذه نقطة مثيرة جدا.

إن لعبة المستوطنين هذه هي لعبة متقنة جدا، ومتوقعة جدا، لا بل أنها "مشروعة" بمفاهيم الدمقراطية المعمول بها في اسرائيل، لكنها لم تكن لتنجح لولا إفلاس الأحزاب الصهيونية التي تسمّى بالـ"يسارية"، وحزب "العمل" في مقدمتها، وعجزها عن طرح بديل سياسي لشارون، لأن قمة طموح "العمل" لم تعد الحلول مكان الحكومة وإنما الحلول مكان اليمين المتطرف داخل حكومة شارون، بدليل تصريحات شمعون بيرس المتكررة بأنه سيوفـّر "شبكة أمان" للحكومة ولن يسقطها، وبدليل زحف بيرس الإئتلافي وتقويته لشارون بالقول أنه ليس ثمة خلاف حول القضايا السياسية-الأمنية، وبدليل أن حزب "العمل" لم يدخل الحكومة ليس بسببه بل بسبب المعارضة الداخلية في "الليكود".

وخطايا هذا "اليسار" ليست قصرا على "العمل" وحده، ولا على الأشهر الأخيرة فقط، ولا حتى على السنوات الأربع الأخيرة، بل إنها – في هذا الخصوص – اتخذت منحًى خطيرا في العقد الأخير، وبعد اغتيال رابين تحديدا. فلقد كثفت حكومة براك (1999-2001) الإستيطان مثلا أكثر مما كثفته حكومة نتنياهو (1996-1999)، وكذلك الأمر بالنسبة لتواطؤ أطراف أخرى في "اليسار" الصهيوني، كحركة "سلام الآن" وسواها، في الحملات الإعلامية الرامية الى "تعزيز أواصر وحدة الشعب"، لا سيما حملة "أمر المصالحة" وما لفّ لفـّها.

لقد ساهم هذا "اليسار"، وبوعي تام، في خلق أجواء وتعزيز قيم تكرّس أفضلية "السلام الداخلي" على "السلام الخارجي"، وهذه المفاضلة تعني إجهاض أية تسوية سياسية يعارضها اليمين. لذا فالملايين التي أنفقت على حملات "المصالحة" و"الوحدة" وما الى ذلك لم تنفق سدًى، ومن هنا مركزية شعار "الإنفصال يمزّق الشعب".

ورغم أنـّي غالبا ما لا أتفق مع مواقفه السياسية، فرأيي هو أن النائب عزمي بشارة كان موفقا (في مقالةٍ له قبل بضعة شهور، كان حلـّل فيها تعامل الرأي العام الإسرائيلي مع أسير الذرة، مردخاي فعنونو، وبالمقابل مع قاتل يستحاق رابين، يغئال عمير)، في تحليله لتركيبة التفاهمات الضمنية الفاعلة في تعامل الإجماع الصهيوني مع عمير. حيث أن نبذ عمير - إذا صحّ التعبير - يوّظف لنبذ الصراع السياسي الذي أنتج اغتيال رابين، وهكذا يدفع ثمن الإجماع على "إدانة" فعلة عمير عدًا ونقدًا في بورصة جـُبن "اليسار" الصهيوني وعقمه السياسي. ويقتضى التنويه هنا الى تصريحات بيرس الأخيرة التي عبر فيها عن "قلقه" من "التحريض على شارون"، والتي ليست إلاّ واحدا من إفرازات هذه التفاهمات الضمنية.

مؤامرة حقيقية

في إمكان شارون تمرير "خطة الإنفصال"، سواء بواسطة حزب "العمل" أو "شاس" أو "يهدوت هتوراه"، فالحجم السياسي الفعلي لليمين الإستيطاني أقل بكثير من حجم نفوذه. ومربط الفرس ليس هنا، أو بالأحرى ليس في غزة.

حين يستخدم اليمين الإستيطاني في خطابه السياسي رسائل تقول أن إخلاء المستوطنين هو تهجير (ترانسفير)، أو جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية وما إليه، فهو لا يفعل ذلك فقط كي يقنع من توصلوا إلى قناعة سلـّمت بأن "أرض إسرائيل الكبرى" هو شعار متآكل ومتناقض مع المصالح الحقيقية للجمهور اليهودي ذاته، بل أيضا كي يعبـّد الطريق أمام ما يخطط له شارون نفسه، ليس في غزة، وإنما في الضفة الغربية.

وعند بلوغ اليوم الذي سيخرج فيه شارون مخططه الإجرامي القديم-الجديد الى حيز التنفيذ، بنهب قرابة الـ(60%) من أراضي الضفة المحتلة و(90%) من مصادر المياه، على ما يعنيه هذا من من تكريس الإستيطان في الضفة بواسطة الجدار التوسعي، وبالتالي تهجير قسري أو طوعي للشعب الفلسطيني. عندها سيصرخ الشعب الفلسطيني وأنصار قضيته: هذه جريمة حرب! هذا تهجير! وسيردّ المستوطنون على من يجرؤ معارضة هذا المخطط داخل إسرائيل: آن أوان الفلسطينيين الحين، لقد "هجّرنا" شارون وارتكب ضدنا "جريمة حرب"، والنتيجة بمفاهيم الإجماع الصهيوني ستكون أنه إذا كان شارون يملك الحق التاريخي والأخلاقي لتمرير "جريمة حرب" ضد مستوطنيه، فلما لا يملك هذا الحق بالنسبة لتمرير هذا المخطط الأسود ضد الشعب الفلسطيني، وهذا ما سيتم تسويقه الى جمهور الإجماع الصهيوني وإلى العالم أيضا. ولن يكون في إمكان بيرس وسائر مفلسي "العمل" المعارضة من منطلق "وحدة الشعب" المقدّس، وستكون مكانة محكمة العدل العليا أكثر تآكلا، وسيكون الوضع الإقتصادي-الإجتماعي داخل اسرائيل أكثر سوءا، عندها ستتوافر كل مقوّمات تحوّل رياح الفاشية التي نحذّر من مغبتها الى عاصفة هوريكانية تلتهم الأخضر واليابس. وعندها.. لن يكون على شارون سوى صرف شيك التعهد الأمريكي الذي أعطاه إياه بوش يوم 12 نيسان 2004، والذي بدأ الجدار بتنفيذه على أرض الواقع.

إننا بصدد مؤامرة كبرى، ليست من نسق تلك المؤامرات التي تغسل الأنظمة العربية أدمغة شعوبها بها، نتحدث عن مؤامرة حقيقية سيكون لها إسقاطات إقليمية، خصوصا بالنسبة للأردن الذي أبدى قلقه من هذا المخطط، وبالنسبة لمصر التي تقول أنها لا ترى القضية الفلسطينية في معزل عن أمنها القومي، وطبيعة علاقة أنظمة هاتين الدولتين بالولايات المتحدة معروفة.
 

كيف نتمرد على بلادتنا؟

ليس هذه نبوءة غضب، ونجاح هذه المؤامرة ليس قضاءً وقدرا، بل مرهون بعدة عوامل، تتعلق أيضا بتطورات النضال ضد الإحتلال في العراق ونتائج الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، ولكن بالنسبة لنا نحن الجماهير العربية الفلسطينية داخل إسرائيل وحلفاءنا من القوى التقدمية اليهودية، فإنها تتعلق - أكثر من أي شيء – بالتوازن السياسي في إسرائيل والرأي العام في كل مرحلة من المراحل، إذ يتوجب علينا السعي نحو إفشال هذا المخطط الشاروني، من خلال المواجهة المباشرة مع الفاشية ومسبّباتها، وتوجيه التناقضات في إتجاه إسقاط حكومة شارون. وثمة أسباب للتفاؤل، ولنتذكر كيف وصل شارون الى الحكم: تحت شعارات الحل العسكري و"دعوا الجيش ينتصر"، أما اليوم، وعلى الرغم من الفروقات الشاسعة في القوة بين اسرائيل والشعب الفلسطيني، فإن غالبية الجمهور اليهودي تقر بأنه لا مفر من الحل السياسي (أو كما يتذاكى البعض: "الأفق السياسي")، ودعونا لا ننسى أن جزء كبير جدا من هذا الجمهور أيد "تفاهمات جنيف" التي قد تشكـّل، من حيث قضيتي الإحتلال والإستيطان، أرضية جيّدة لبدء المفاوضات السياسية.

قد يقال إن الهامش ضيّق، وهذا صحيح، وإن هناك بعض من أضاع البوصلة وبعض من نصـّب ذاتيّته بوصلةً للعمل السياسي، وهذا صحيح أيضا، ولكننا قادرون على هذه المهمة، ومواجهة الفاشية لا يتم فقط على صعيد مواجهة التصعيد العنصري ضد الجماهير العربية، وإنما على صعيد المواجهة مع الإرهاب المعمول به ضد الشبّان اليهود من رافضي الخدمة في جيش الإحتلال، وضد ناشطي السلام اليهود والأجانب، وضد الصحافيين التي يطالهم القمع البوليسي، وضد غمط حقوق الطبقات المستضعفة وعاملي السلطات المحلية، وضد استشراء الفساد الإداري والسياسي.

يخطىء من يعتقد أننا حين نخوض نضالا عمّاليا مثلا نضع القضية السياسية جانبا، أو تلك التي تعتقد أن الوقوف أمام قاعة المحكمة التي يحاكم فيها الشيخ رائد صلاح أو أبو أسعد كناعنة أهم من الوقوف أمام محاكمة طالي فحيمه، أو ذاك الذي لا يؤشر على الصلة بين تصاعد وتائر العنف في المجتمع الإسرائيلي والإحتلال.

إن أخطر ما قد يحدث لنا هو أن نعتاد على قول ما لا نفعله، وأن نعتاد على التكيّف مع ما نرفضه..
لذا، في المرة القادمة التي يخلص اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أو سكرتارية الجبهة القطرية أو أي هيئة قيادية أخرى إلى ضرورة تصعيد المعركة على حقوق العاملين أو ضد العنصرية أو من أجل تعزيز النضال المشترك العربي-اليهودي، نرجو ألا تقتصر ردّة الفعل على جملة سمجة مثل "شبعانين تصعيدات كلامية"، لأن التاريخ والأجيال القادمة سيحاسبوننا في يوم من الأيام على ما نفعله اليوم.. وعلى ما لا نفعله أيضا.


رجا زعاترة
السبت 25/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع