أنقِذوا أُمَّة تغرق في بحرِ "الغناء"!

 الإعلام العربي الفضائي المستقل شكلاً، والذي غدا عدده يزاحم عدد نجوم السَّماء، غزا بيوتنا واعتدى كليّاً على خصوصيّاتنا الفردية، إذ لم يترك للمواطن العربي المجال في أن يحلم بمناقشة موضوع مثيرٍ، إلاّ وأثاره له على جميع عواهنه، سواء  سياسياً أو طبياً أو اجتماعياً. فالإعلام الفضائي العربي لم يترُك المواطن العربي ينزعج أو يتضايق من ظاهرةٍ عربية أو اجتماعية، إلا وناقشها بتفاصيلها المملة، حتى ولو "من قاع الدست". ولكن في العامين الأخيرين، أحبَ الإعلام العربي تغيير سياسة اقتحام الحرّيات من خلال خلق وسيلة لهو جديدة مستوردة من الخارج، بإنتاج برامجٍ للهواة العرب المطموسين، في كافة المجالات... عفواً في مجال الغناء، على وجه التحديد وليس في مجال الموسيقى، لأن لها عدَّة تخصصات، كالتلحين والتوزيع. وبما أن الأمة العربية "تهيم" بالغناء والطَّرب إلى حد الجنون، فقد أخذت الفضائيّات العربية بإغراقنا ببرامج مسابقات الهواة في مجال الغناء. وكان "تلفزيون المستقبل" الفضائي أول من بادر إلى إنتاج برنامج  إنجليزي الأصل وهو "سوبَّر ستار" في العام الماضي، وكان نجاحه منقطع النَّظير، مما شجعه على تنظيمه للسنة الثانية على التوالي.

    قلت في نفسي: ما هو الشيء المغري حقاً في هذا البرنامج، حتى أصبح المسبَحَة اليومية التي يُسبِّحونَ بها في مجالسهم وفي أعمالهم ومكاتبهم؟!  بالفعل، قررت متابعته منذ بداياته، منذ أن كانت اللجنة تصول وتجول في الأقطار العربية، بحثاً عن الصَّوت الذي يتمتع بقدرات صوتية تؤهله دخول المسابقة، لتختار المتسابقين بمعاييرها الموسيقية الشديدة، إلى أن ينطق الموسيقار إلياس الرَّحباني "الجوهرة": "بنشوفَك ببيروت"، ليفتح له بوّابة الدّخول إلى لبنان التي عادت لتكون من جديد "منارة الفن". ومع وصول المتسابقين إلى لبنان، وتحديداً إلى أستوديو "تلفزيون المستقبل"، للبدء بتصوير البرنامج رسمياً، تتحوَّل هذه اللجنة الكريمة "بقدرة قادر" إلى لجنة هامشية جداً، لا توجد لها أي قيمة فنِّيَّة، أو كيان فني ناقد تستحق عليه التقدير. وأنا قد أطلقت عليها لجنة "الإطراء والمديح"، لأن "كل همَّها" هو توزيع المديح المبالغ به في بعض الأحيان على المتسابقين. يعني كانت "زينة مَملكات" مثلما يقول المثل العربي، وخصوصاً من قِبَل الموسيقار إلياس الرَّحباني، الذي "أغنى" مكتبة الموسيقى العربية بعبارات ذات معانٍ موسيقية رائعة، حسب قول صحفيَّة تلفزيون المستقبل التي حاورته، لفترةٍ قصيرةٍ، خلال يوم الحلقة الأخيرة من البرنامج!!...
   
    ... اللجنة الكريمة التي اختارتها إدارة تلفزيون المستقبل، قامت في بداياتها بعملها على أتم وجه. ولكن حسب شروط المسابقة، فإن الكلمة الأخيرة هي لأصحاب "المشورة والرأي السديد" ـ لجنة الأمة العربية المؤلَّفة من مواطني العالم العربي، للتصويت من أجل اختيار المتسابق الأفضل، بطريقتين، الأولى: عن طريق الإنترنت، والثّانية: عن طريق إرسال رسالة قصيرة، أو حسب لغة الفضائيّات العربية الدّارجة رسالة S.M.S، عبر هواتفهم الجوّالة. طريقة التصويت هذه، هي أحد أسباب نجاح جميع برامج مسابقات الهواة ولربما أهمها، لأن المواطن العربي محروم من حق التصويت حول ما يتعلَّق بشؤون حياته، دائماً يكون تصويته مفروضاً عليه فرضاً من قِبَل الأنظمة العربية القمعية.
   
    جاءت نسبة التصويت في برنامج "سوبَّر ستار" عالية جداً، لأن المواطن العربي شعر ولأول مرَّة بقيمته الذّاتية ولبّى حاجةً معنوية، أو حاجته لأن يثبت أن لرأيه قيمةً وتأثيراً على أرض الواقع. شعر لأول مرّة بحرِّية التصويت كيفما شاء ولمن يشاء، لا أكثر ولا أقل. ونتيجةً لذلك فاز المتسابق الليبي أيمن الأعتر، بلقب "سوبَّر ستار العرب"، لأنه حتى أبسط مواطن ليبي محروم "كأشقائه العرب" من حق التصويت، وجد وسيلة الإنترنت متنفسّاً له. (على فكرة، حسب الإحصائيّات يبلغ عدد الموصولين بالإنترنت حتى عام 2003، مليون مواطن ليبي، في دولة لا يزيد عدد سكّانها عن ستة ملايين).
   
    لا يقبل لبنان أن يفوز أي متسابق فلسطيني بلقب "سوبَّر ستار" على أرضه، لأنه بنظره لاجئ لا غير، قادم من مخيم للاجئين. فخسارة عمّار حسن لم تكن قرار المواطن العربي فقط، بل قرار سياسة الدول العربية التي أهملت بشكل مفرط القضية الفلسطينية تماماً، تجاهلت معاناة هذا الشعب، تجاهلت حتى أدنى حقِ له، وهو أن يفرحَ قليلاً بفوز عمّار حسن، حتى ينسى آلامه وجراحه مؤقتاً حتى. ولكنه أثبت للعالم بأن الفلسطيني ليس "إرهابياً"، بل فنّاناً من الطراز الأول. إن برنامج "سوبَّر ستار" الشهير جداً، طمس وجعل جميع الهوايات الأخرى التي يعرفها المواطن العربي لا تساوي شيئاً، مقابل حب الظهور التلفزيوني، وما يلحق المتسابق من تغطية وترويجٍ إعلاميين غير مسبوقيَن، بالإضافة إلى رعاية تلفزيون المستقبل له. لذلك حصر موهبته في الغناء فقط، إذ جعل الغرب يتعرف إليه، من خلال الغناء والمبارزة حول من يملُك طبقات صوتية أعلى، تعرَّف إليه من خلال حبِّه للرقص والتصفيق لنجومه الكبار. لم يتعرَّف إليه من خلال الهوايات الأخرى التي يُجيدها مثل، فن الرَّسم، كتابة الشعر وارتجاله، فن النَّحت، فن التقليد، رقص الصّالونات أقصد الرَّقصات العالمية، مثل التانجو، الفالس والفلامنكو، وما شابه ذلك، وليس الرَّقص الشرقي فقط!
   
    ... جميع هذه الهوايات حواها فقط برنامج واحد ووحيد في العالم العربي، وهو "ستوديو الفن"، بالإضافة أيضاً إلى العزف والغناء. وقد حظيَ بشهرةٍ كبيرةٍ خلال سنوات السبعين حتى آخر مرَّة أُنتِج فيها، رغم أنه دار حديث عن نقل برنامج "ستوديو الفن" إلى مصر، ليتسنى لجميع الموهوبين في العالم العربي المشاركة فيه، ولكن لم يتحقق شيئ من هذا القبيل، وكان هذا البرنامج يُبَث كل أربع سنوات فقط، وكان أعضاء اللجنة مُلِمّين  بكافة المجالات، ولكن آنذاك لم يستطِع العالم العربي مشاهدته لانعدام ظاهرة الفضائيات العربية. أنا أقول بأن اهتمام الإعلام الغربي ببرنامج "سوبَّر ستار" لم يكن لانبهاره بالبرنامج والمتسابقين، بل حاول نقل صورة العربي الذي يطرب ويفرح بشرهٍ بشع... نقل سخافة صورة الإعلام العربي الذي يستخف بعقول هذه الأمة... نقل الصّورة الحقيقية التي تريدها أمريكا لها، فلذلك أقول: أنقِذوها من غرقها في بحرِ "الغناء" الذي يُغرق معه حتى طوق الثقافة العربية المنقذ!!

(شفاعمرو)


بقلم: مارون سامي عزّام
الثلاثاء 14/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع