أمّ الروبابيكا، تاريخ الغائب في ثوب امرأة:
روضة سليمان، هند المضيئة دهشة


المسرحيّة: أمّ الروبابيكا                                                                         
                                                                                                         
الأداء المسرحي: روضة سليمان
عن: مسرحيّة الراحل إميل حبيبي، أمّ الروبابيكا
إخراج: يوسف أبو وردة


وثيقة على خشبة

    
على تساؤلات الّذين بقيوا في وادي النّسناس تنثر مسرحيديّة أمّ الروبابيكا أضواءها. وبمثل ما يرتعب المشهد على وجه من يتذكّر يرتعب وجهها حين تتذكّر. روضة سليمان في عمل مسرح الميدان الجديد ترسم بالصّوت والسّوط، بالضوضاء والضّوء، بالسّكتة والحركة وجه النّكبة. تسوّغ عودة غيابها برعدة العين مرّة ونحيب الحنجرة مرّة أخرى. وحين تهرول أقدامها كي تلحق بالأماكن أو تستوقفها تعثر أنت فجأة على الأماكن الخربة في ذاكرة أيّامك. وتحسّ ربّما للحظة أنّ إميل حبيبي حين كتب ضياع هند، (أمّ الروبابيكا)، كتب معه بنفس القدر من الإصرار بقاءها.
لماذا إذن تبكي أماكن رعشك وأنت تهرول خلف هذه المرأة المخبولة، المجبولة من الهواجس وفيض من الجرائم الجميلة، وأنت متأكّد أنّك ماض إلى أماكن فقدت ذاكرتها، أو انفقدت مع ذاكرتها.
ولست أعرض إلى هذه التصوّرات الحزينة كي أفشي عدوى الحنين بقدر ما أحرّض على العدو إليه. في مسرحيديّة "أمّ الروبابيكا" لا تعثر على الحنين الحالم إنّما تتعثّر بحنين يزاحم الفسحة الضيّقة المتبقية من مقعدك كي يطيّرك إلى طرقات الوادي الضيّقة، أسواقها، حيطانها، خيطانها، أبوابها ونوافذها، مخابزها وأناس خبزها. ويبدو أنّ انهيارك وعدم تماسكك أمام الصّور المتلاحقة على صفحة وجهها الغائم، بطلة المسرحيديّة، روضة سليمان لا يمكن أن تسجّله غير امرأة انهارت بها أشياء قبل أن تنهار عليك.

ذاكرة الضّوع، مكان الأمكنة

في هذا الظرف الحالك بالذّات، بين محرّضات الإرباك والإنثناء نحتاج إلى الذّاكرة. نعم، لا وقت أصلح لنا منها. ولا يهمّ من يأخذ الواحد إلى الإخر، فلقد أَخَذنا إميل حبيبي من قبل كرا وفرا، غربة ووجدا، توقا وكرها، وإذا كنّا نحتار، ونحن نتابع اختلاف الأمكنة على المكان الواحد، وادي النّسناس، في أيّها الأجمل فذلك لأنّنا كباقين ومبعدين لا نزال متَنازَعين فكريا وحسّيا بشأنها، ولأنّ أحدا غيرنا يفوّض جراب عقله المسمومة بالتّقرير عنّا. هذا التّنازع الفكري- حسّي يؤدّي الى الإصطراع في شخصيّة البطلة هند، روضة سليمان، على نحو غريب ومدهش في آن، حتّى أنّه ينتقل بالعدوى إلى المشاهِد معبّأ بأزمة مكانها الخانقة، ويقيم فيه. وكأنّه يهمس لنا جميعا حينذاك، "راجعون.. راجعون" بمنطق الواثق من رجوعه.
ولعلّه من فروض الإحالات الدّرامية الإشارة إلى أنّ هذا التّزاحم الحسّي في شخصيّة البطلة ينتثر على شكل هواجس مستدعاة يخالط الحلم فيها الواقع على طول المسرحيديّة. ويريد أن يصير إلى تعبير تقريري عن وضعيّة أو حالة تؤطّر المشهد بمرجعيّاته، وتحيله إلى لوحة متزاحمة بالألوان والأبعاد. ولعلّه من المهمّ أن نؤكّد أنّ فداحة ارتطام الشّخصيات داخل اللّوحة الحاضرة بقوّة، والغائبة بقوّة أيضا تؤدّي بها إلى التلاشي. والإرتطام في هذا العمل تكتيك مفصلي في مبنى التّداعيات الّتي تفيض بها البطلة.
بعد امّحاء اللّون يمتلىء المشهد بالكراسي الفارغة، وبالأقدام المكسورة، والطاولات المقلوبة رأسا على عقب، المتراكبة والمتراكمة فوق بعضها بألوان باهتة تبعث على القشعريرة والخواء. وربّما لأجل ذلك يقرّران عنك حينها قلبك وعينك. تبكي بحرقة وبشدّة، عنك وعنهم. عن الكراسي والطاولات المكسورة والسّليمة بتكتّم شديد، كأنّك خائف أن تقول لهم: لازلت أحنّ، ولا زلت أريد أن يكون لي بلد. ولعلّ اللّوحة الممزّقة بأقدام الكراسي حينئذ فقط تلمحك وتهتزّ بين قلبك وقلبك، ثمّ في عمق رأسك، ومعها رقصات المرأة الّتي لا تكفّ عن النّواح، هند أو روضة. هذا الإهتزاز المتموّج مع صول البطلة وجولها يحرّض اليقظة على البحث عن أيّامها، وأن تبدأ بالعد، الأولاد الغائبين، أبناء الجيران، عبدالله، الحبيب الّذي تزوّج عليها وذهب خصوصا لأنّه الثّابت الوحيد في متغيّرات الأمكنة.
ولا  بدّ لي في هذه المقاربة العجلة أن أعرض إلى المرافقة الإيقاعيّة الّتي فنّنها يوسف حبيش بحسيّة عالية، بفلسفة روحيّة، وتشرّب فكري ذاتي بمضامين النّص وأبعاده. لقد منح حبيش صرعة جديدة للإيقاع، هي صرعة الإنتشاء باللّحظات المعاشة، وزخمها برائحة المواسميّة . إيقاعاته تحتضن بقدر ما تبعثر أزمة البطلة. تقرّبها وتبعدها، وحين يتداخل القرب بالبعد يرميها في خندق ذاتها. الإيقاع المنسوج بعناية في تحوير مزاجيّة البطلة استطاع إلى حد بعيد أن يدفعها إلى تجاوز حالاتها، بل والتنقّل بمرونة فيما بينها. لقد ساندها حدّ الإسترسال، وحيث يجب حجّمها حدّ الإنقماع.
لقد توزّعت روضة في مسرحيديّتها تحت الأضّوء فبهرت قلب النّكبة وحلكة العتمة. بموجودات مكانها الخرب المعبّأ بالدّواشك، ومخلّفات الحياة أيقظت عالما وأحيت فيه النّبض. حضورها جسور، ومونولوجها إذ يقصر أو يطول شفّاف وغائم، لكنّ السّبق للقوّة عندها على الشّفافيّة فوق الخشبة، ولعلّ هذا بالتّحديد ما يميّز انتماء الإيقاع الدّرامي الّذي خرجت به على الخشبة، لونه الحاد، العميق والصّارخ. هو بصمة حضورها للموسم المسرحي الجديد.

عند فاصلة النّهاية

سأشير إلى قضيّة هامّة تتعلّق بمستوى الدّيناميكيّة العالية الّتي تستشف من أجواء العمل بين النّص والمخرج يوسف أبو وردة، الّتي انعكست إيجابيا على مؤدّية الدّور ومرافقها على إيقاعات الزّمن، حبيش. ولعلّه من المناسب أن نضيف إلى أنّها ليست المرّة الأولى الّتي يجسّد فيها أبو وردة هواجس أمّ الرّوبابيكا على الخشبة. يحسب لإنجازاته أنّها المرّة الثّانية بعد أداء الفنّانة المسرحيّة الراحلة بشرى قرمان. ولكنّه اليوم ينجح في تفنين تكوين امرأة جديدة حسا وفكرا وتجربة، ولن أضيف، وإلباسها النّص، بل وتطريز كينونتها على مقاس النّص. صوته، نبضه على مقاس نبضها وانفلاتات عالمها بضوئه وعتمه.
فهنيئا لكم، لنا ولمسرح الميدان سحره الجديد.                             
            

 

ساضحك ملء قلبي الان.. فرحاً يا مسرح الميدان
مش قصة بريق الزيت.. لا!
زاهد عزت حرش

بصوت مسموع

يا ايها الذين كنتم، ولا زلتم تمتهنون اللغو على هوامش ايامكم، اتذكرون؟! يا ايها اللذين استماتوا كي لا تسقط الغنيمة "مسرح الميدان" من بين ايديكم، فتفقدون بذلك تعريفكم النسبي واستمرار علاقتكم بالحيا. ولا يزال مشهد ارتجاج الايدي ماثل امام العيون.. اتذكرون؟!
اتذكرون جميعاً يوم وقفت اصرخ فيكم، اناشدكم.. ان تسألوا "الى اين تبحر السفينة؟"  قبل ان يسقط مسرحنا في الهاوية! فصممتم اذانكم "ورقصتم كالدببة" ولم تسمعوا النداء.
على كل الاحوال، للحقيقة وجه واحد، هو الحقيقة! ومن عادة الحقيقة ان تصل متأخرة دوماً.. الا انها تصل. "الحقيقة امرأة عجوز تدب على ثلاث تسير ببطء.. الا انها في النهاية هي وحدها التي تصل" - مخائيل نعيمة.
على الرغم من كل شيء .. فانا لا اريد ان يضيع فرحي بعودة الحياة اليك يا مسرح الميدان.
فؤاد عوض، لك يا صديقي ان تفرح الان، وان تكون مشبعاً حد الاكتفاء والاتزان. لك يا صديقي ان تثبت خطاك وتمضي لترسيخ مسرح الميدان، ليكون المسرح الوطني العربي الفلسطيني في اسرائيل! فلا تفسد عزمك. ولن افسد فرحي.

العرض الاول لمسرحية ام الروبابيكا

الكاتب طيب الذكر اميل حبيبي: ايها الـ "باقٍ في حيفا" .. انت هو الذي ليس بحاجة الى تعريف. فشبابيك بيوت وادي النسناس تسلم عليك. وشارع الحريري هناك يسلم عليك.. وصفحات "الاتحاد" ما زالت تقبل راحتي يديك. والاصدقاء والمعارف والرفاق و"المشارف" كلهم يقبلون وجنتيك. فحسبك انك "المتشائل".. العائد بعد كبوة الينا.. فبرغم كل شيء نحبك نحن.. نحبك جداً.. فلا عليك!
لقد قرأَت صورة مستقبلنا - حاضرنا اليوم - بمنظارك الماركسي العتيق.. واطلقت صرختك بواسطة"هند" التي احببتها منذ عهد النعمان ابن المنذر. لتصرخ في وجه الحاضرين، الغائبين خلف الحدود من الاشقاء العرب "انا خاينه.. خاينه مع مين يا بقر.. تتشحططوا في بلاد البَعر، وتقولوا عن هند خاينه؟". هذه صرختنا نحن البقية الباقية في هذا الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه. صرختنا في وجه رجعية عربية ساهمت في ذبح شعبنا ولم تزل. وباقية على استرخائها ممتدة " من البحر الى البحر سجون متلاصقة .. سجان يمسك سجانا ".. فلا عليك!


المخرج: يوسف ابو وردة. أعذرني، فلن أتطرق لما قمت به من عمل هنا. لان بيننا خلاف واختلاف! فلا اريد ان اكون مزاجياً في الكتابة عنك. لانني ربما لن اكون موضوعياً بما فيه الكفاية.

الممثلة: تألقي يا روضة الزمان .. بالصوت بالإداء بالدوران .. تألقي يا رسالة العطاء..  كتألق الازهار في نيسان.. للوعد ميعاد، وهذا وعدك .. آتٍ يجلجل في صدى الميدان!
برغم توترك، الذي احسسته انا على الاقل، الا انك كنت رائعة وجميلة حقاً. برغم انعدام المسافة الفاصية ما بين منصة العرض وصالة الجمهور. الا انك كنت جميلة حقاً بالرغم من هذا اللقاء المباشر ما بين صوتك وعبقرية اللحن المنبعث من خلف الستار.. الا انك كنت جميلة حقاً. جاءت لحظات اجتاحني صوتك كما تجتاحني لحظات الصمت في اجواء الحنين والشجن.. بعطائك هذا، تبشرنا الحقول بمواسم جديدة. وها هي الايام الآتيات تنتظر. فليس لك سوى ان تتألقي وتتحدي كل يوم من جديد.
فالى هناك.. الى حيث كنت تنظرين من شباك "هند بنت الفران" الى الافق البعيد، افق الشمس والضوء والحرية. اتمنى ان نثبت الخطى على الطريق. ونتخطى مرحلتنا المحاصرة بالافيون "بس والدي حشاش .. احسن واحسن ، يربي دقنه ويحمّل ربنا جميله". 
ملاحظة فقط.. لم احس برتياح لغناء مقطع "ابو جميله" حيث لفظت الجيم باللهجة المصرية. وان تكن الاهزوجة مصرية الاصل، فقد احسست ان اللفظة دخيلة على المشهد برمته.

الموسيقى: يا كوثر اللحن المنسكب ضوءا، من اعماق عطاءنا الانساني العريق.. يا وجع البكاء يا طعم الحريق.. تسلل كما الغيمة تشق عبر السماء طريق.. تغلغل في مشاعرنا وهزنا من سباتنا العتيق.. اعد الينا النور والامل وحنين الذكريات.. اعد الينا بعضاً مما فقدناه، فكلنا في الصب غريق.
سمعت عنك ما اعجبني، قبل ان اسمع موسيقاك يا يوسف حبيش. الا ان خشوعي في معبد صلوات موسيقاك قد ادهشني. وثبت ايماني باننا اقوى من الموت. واننا حضارة لها امتداد الى الغد الآتي. ما دمت انت بيننا، وامثالك القليلون فهذا هو العطاء المبشر ببقاءنا بقاء الدهر.
هذه موسيقاك ما هي الا سيمفونية شرقية تصويرية لمسرحية "ام الروبابيكا". تعادلها حقاً. فهنيئا لك بها وهنيئا لنا بك وقدماً على درب العطاء والابداع الخلاق. الى ان تأتي الايام العظيمة، التي تتيح لنا، نثر الفرح في كل ارجاء هذا الوطن المثخن بالجراح.
اخي، ربما تخبئ لنا الايام في جعبتها اكثر من لقاء. فالى ان نلتقي ثانية لك مني الف تحية وسلام.
الطاقم الفني: الاضاءه . الديكور. تصميم الملابس. المكياج.. اقول لكم جميعاً يعطيكم العافيه واكثر. فقد جاء ما قمتم به ليتمم الصورة بمجمل اجزائها، برغم محدودية المكان! الا ان كل شيء بدا مهنياً ونفذ بموجب برنامج مدروس، وله الحق ولكم ايضاً. كل التقدير والاحترام. فمن يدعي ان ليس لدينا من الطاقات ما يعطينا ميزة شعب كما الشعوب الاخرى ليأت الى هنا وينظر بكلتا عينيه. ماذا تستطيعون! فهكذا تسجل الشعوب بقاءها. وباعتقادي انه معكم ومع العديد من امثالكم ستستمر المسيرة، كما الايام والسنين.

الحضور: كان الحضور مميزاً  راقياً بالصمت والاصغاء. جاءوا من كل ارجاء هذا الوطن. من الناصرة. وجاءوا من المثلث ومن اعالي الجليل. من كل مكان. كلهم عادوا الى مسرح الميدان مبشرين بعودة الحياة اليه. فاهلا بكم على هذا الدعم المعنوي الكبير. اهلا بكم.
اما انتم ايها الأحبة. يا آباء هذا المسرح المهيء للشموخ وانتصاب القامة من جديد. انتم يا ابناء شعبنا الابي. يا عمادنا المعنوي والروحي. نريدكم دائماً هنا. فهذا البيت لكم. ومن خلالكم للاجيال القادمة. نرسخ بقاءه مع بقائنا. كهذه الارض. الى ابد الابدين. قولوا انشالله..

رجاء بكرية
السبت 11/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع