نابلس، بين العصا والقصبة..


هي..

مسنة في خريف العمر. نال منها الحاجز وأيلول ما لم تنله الايام. تواصل ملاحقتك. (ليتني ما كنت القاها!!) تتوقف. تقع أرضا. أنت واقف. تصيح ابنتها بوجهك "معك سيارة". لا. تركض تحت جلبابها الى سيارة اجرة. تتأخر. الاطباء يهرعون الى الام المسنة. تقول انها جاءت من القرية. تقول ان الشمس في "بيت ايبا" حارقة. نقول، يا حجة اركبي الامبلنس،عِدها جاي. تقول، انتظر ابنتي ولا أتزحزح دونها.
هي، بلا شك، عنيدة.
هي بلا شك، مخلصة حتى الموت.
هي حتما من هذا العالم.
وهي من هذا الزمن، عجبا!

هو..

في منتصف العمر. يفرح لرؤيتنا. أطباء ويهود، معا؟ عصفوران بحجر. جاء يعاتب "اليهود" على ما قام الاحتلال به. هو قلع عين ابنه. ابنه اليوم عريس ولكنه نصف ضرير. اليوم بعد عشر سنوات لا زال يبحث عن السبب. ما لهم وللشبكية؟. الدمع يخالط العرق. المستمعون محرجون، محرجون حتى العظم.
المهم، يريد ان يبيع كل اغنامه لشفاء ابنه. طز في كل العقار والزيتون. يريد عين ابنه.
الأهم، لماذا انتخبتم شارون؟ صاح.
أكرهه، اجابته بنينا الممرضة..
اليهود انتخبوه، أجابها..
هي لم توفر:
لكنني شيوعية..

هما..

طالبان جامعيان. جمعهما الحاجز ولم يلتقيا.
الأول. فرح جدا. يومه الاول في جامعة النجاح. يحمل الاوراق الثبوتية. في طريقه لاصدار "بطاقة الطالب"، اعاده المحتلون. البطاقة ليست معك. أنا ذاهب لاحضارها. فقط حين تحضرها عد الينا. ولكن كيف؟ علي ان امر من هنا لأحضرها؟. هذا ليس شغلنا، نهره الجنود!
استغاث بنا، هنا لا دور للاطباء. رافقته الى الحاجز، كارميلا منشيه، المراسلة العسكرية لإذاعة "صوت اسرائيل". قالت نفس كلامه. فجأة اصبح الأمر لدى العساكر "شغلنا". مرّ!
الثاني، أقل فرحا، فهذا عامه الثاني. هو أيضا اقل نصيبا. المحتل اتهمه بتزوير البطاقة. صادر البطاقة. لم ينفعه حتى المراسلين العسكريين. هي محكمة ميدانية اذن. الجندي فحص، وهو قرر وهو أيضا راجع!
لم تبق خيارات كثيرة امام محمد عبد الهادي:
اما ان يعيد اليه المحتل البطاقة فيعود بالحافلة الى سبسطيا، قريته. واما الا تعاد البطاقة فيضطر الى العودة عن طريق الجبال..
"بهالحم أمشي ساعتين، ليش؟" صمت.
وتذكّر: أكيد المستوطنين رح يمسكوني ويضروني.
أيا كان الخيار الاخير، شيء واحد أكيد: ضيع محمد فرصة تعديل برنامجه الدراسي!

وأنتم؟

ثلاثة وعشرون. منكم الأطباء والممرضون. الصيادلة والمتطوعون. يرافقكم سبعة صحافيين. ليسوا سواسية. الأقرب الى الجيش، أرفع مرتبة. لم لا نقول ان صفة المراسلة العسكرية هنا، اهم من كل شهاداتكم؟ ليس كونها مراسلة. كونها عسكرية!
هاتفها لا يصمت. اما ان يلعلع او تلعلع. ما الدافع لاحتجازهم ساعتين ونصف في الحاجز، هم أطباء. عيب. هي بلا شك خجلة.حذرت الطرف الاخر من الهاتف ان الكاميرات قد تفضحه (ـهما؟!) .
الأطباء ليسوا أقل عنادا. يوقعون ورقة. يقولون فيها انهم يدخلون على عاتقهم، الى منطقة "قد تحدث فيها عمليات عسكرية". والاهم في الامر، انهم يتنازلون عن مقاضاة الدولة ومطالبتها بالتعويض في حال اصابتهم.
من أين أنت؟ سأل الجندي صلاح. من كفار سابا. أين في كفار سابا؟ في شارع فايتسمان. الا تخاف أن يأكلوك؟ .أين؟. هناك في الداخل،في شخيم؟. لماذا؟ أهم حيوانات؟.
الى الخلف. ينهر ذات الجندي فلاحا آخر، هربا من السؤال الاخير!!
(شايفـُه قبل هالمرة، تقول لنفسك.
حين تتذكر جيدا، ستعتذر لجدته النعامة!).

**

ضياع القصة خلف الحاجز

الشمس تقلي ذنب العصفور.
فرحتك باجتياز الحاجز صوب جبل النار لم تكتمل. تعكرها الحقيقة: الوف الطلاب خلفك، بانتظار دخول جامعتهم. اليوم هو الاول في الجامعة. كم هو ظريف ذاك الحمار يجر عربة تحمل حاسوبا (عبقريا؟!!).
هاتفك يرن. في الطرف الاخر مراسل عربي لموقع اخباري عبري. تبشره بالنصر، تبشره بفتح نابلس. ضاعت القصة. قال أو كاد. ضاعت القصة اذن.هنا ألوف القصص والمآسي، ولكن ليس هنالك دم. (تستدرك: الان على الاقل).
عذرا اذن. فالجيش لم يطردنا. اذن، ضيع عندنا القصة. والثمن: لن نحلم بتسلق العناوين الرئيسية. ولا حتى تلك "الفيرتوالية".
نابلس تسرقك.
تسرقك الجبال والبنايات الحديثة.
هنا، تسرقك الحياة!

وطرزان ايضا يستحق الحياة!!

من الغريب حقا هذا المزيج من المشاعر. انت في نابلس، في جبل النار. سرقتك المدينة، لكنك تنهمك بالبحث عن ذاك الجندي النعامة. ستعتذر له. هو لا يستحق احتقارك. كل ما لديك مجرد شفقة. هكذا أقنعوه.. قالوا له ان ما خلف الجدار والحصار وباء. خلف هذا الجدار أدغال فيها الواويات والذئاب، وأكلها المفضل لحم اليهود ودم الابرياء. قالوا له ان الدخول هناك ممنوع، وان كان فعلى ظهر دبابة، خلف قذيفة وتحت اسطول من طائرات التحرير والدفاع.
وقالوا لنا..
هاتف المراسلة العسكرية يرن. اتركوا المكان سريعا، انتم مهددون. حدثها "الاصدقاء"، ثم حدثوا صلاح حاج يحيى، منسق أعمال رابطة الاطباء لحقوق الانسان. هي خافت. هو لم يخف. لانه يعرف مع أي ناس يتعامل. مضيفوكم من لجنة الاغاثة الفلسطينية يتصلون بكافة الفصائل. الفصائل تستنكر، هي تحترم الرابطة ونشاطاتها. السلطة الوطنية كذلك، وللتأكيد بعثت قواتها الخاصة لحراسة المكان.
أنت تضحك من هذه الدراماتيكية المبتذلة الحزينة. هواتف "الاصدقاء" تنبح والاطباء (الطرازنة، جمع طرزان)  يسيرون إرضاء للنعامة!!

الناطور الذي صار استاذا

سيبك يا رجل، ففي السلطة الوطنية ما لذ وطاب من دهاء. هم ادعوا احضار قوات امنية لحراستكم. هم أحضروا أساتذة في السياسة والتكتيك، والحديث اللبق، والقيم كذلك.
سامر أسامة داود، ملازم أول في عامه الثاني والثلاثين، ظهر فريسة سهلة للصحافيين التواقين الى مقابلة النابلسيين بعد سنوات من الانقطاع. سامر كان طعما سهلا للصحافيين، اتقن - ببراعة الاسير الامني السابق، وابن الانتفاضة الاولى- طرح الاسئلة كما هي: عارية معرية، متألمة مؤلمة.
لم يتأتئ بترحيب "اليهود"، الذين -بحسبه- لن يفلتوا من قبضة الغد، ذاك الغد الذي سيرغمهم على مقاسمة سامر وشعبه الحياة، حبا وطواعية.
سألوه ان كانت قواته حقا تسيطر على نابلس. نعم، قال دون تردد. واستأنف "وان فشلنا فالاحتلال هو العائق. كيف لنا ان نخرج لحفظ الامن وهدير الطائرات يخرق الاذان."
يسترسل بالحديث عن تصوره لمستقبل أجمل وعن زحف الكراهية غداة كل عملية احتلالية. على حساب المستقبل.
حديثه عن ظروف القوى الامنية مستفز. كيف لشرطي مرور، مخلص جدا، ان يحرر مخالفة لسيارة خرقت انظمة السير بوقفتها، وسائقها في جنازة ابنه الشهيد، مثلا..أو ربما في جنازته نفسه؟!!

القصبة، عن بعد!!

اذن، مشت أحابيل "الأصدقاء" من مكاتب الارتباط والجيش والمخابرات وما جاء من ذلك (وما انقلع). لا بأس. ستحاول الخروج. جامعة النجاح على مرمى حجر من مكانك في مقر لجنة الاغاثة. ماذا يحدث لو خرجت خلسة. تحاول ببله. يتلقفك احد ذوي القمصان السوداء. هو من الوحدات الخاصة. شكله بلا شك مرعب. توجهه الحاسم المانع قطعا لطيف. تتعهد بعدم الخروج.
هكذا اذن، انت في نابلس منعزل عن نابلس جبل النار والانتفاضة. نابلس القصبة والنجاح. نابلس الكنافة والصابون. وفجأة..
 تلوح في الجدار طاقة. تتعرف الى نمر مفيد الداري. ابن حي الياسمينة في البلدة القديمة، في القصبة. هو منسق عمل اللجنة الشعبية في حيه. حدثني. تتوسل اليه. آخر اجتياح طال البلدة القديمة قبل عشرة ايام. هي ومخيم بلاطة المستهدفتان رقم واحد. يعيش في الياسمينة 450 عائلة، ربع عائلات البلدة القديمة. في اجتياح نيسان الكبير (طز!) هدم 50 منزلا. البلدة القديمة اليوم مستهدفة. هي المستهدفة رقم واحد. لذا غادرها الناس. غادروها الى بيوت الاقارب في الضواحي. حتى مصانع الصابون العريقة بدأت تُترك.
مريض؟ تسأله تهربا من قتامة المشهد. بل صديق! يفاجئك بانه متبرع بطابق من منزله للجنة الاغاثة كمشفى متنقل، لكثرة الاجتياحات والمرضى.
مشفى منذ نصف عام، ولا زال "متنقلا"..
(اه يا سلاح اللغة.
يا بلسم التفاؤل.
اه، يا ارضا تورث كاللغة) .. 
 

هي لا تجوع

اذن، ها هم متطوعو رابطة الاطباء لحقوق الانسان في نابلس، بعد منع دام أربع سنوات. ها هم مئات المرضى يتجمهرون في مقر لجنة الاغاثة الطبية في نابلس.
 نصف الناس يئسوا وعادوا. قال أحدهم.
الاحتلال اعاقنا، اجابه أحدكم.
في بلد جبل النار مستشفيان حكوميان، واربعة خاصة. لا ينقص نابلس الأطباء ولا الدواء و.. ولا الداء.
هي كفيلة بكل داء وما على المحتل الا كف شره.
العلاج في المشافي الخاصة مكلف. العلاج في المشافي الحكومية معقول. يقول الدكتور صابر رجب، من لجنة الاغاثة. لكن الحكومية كثرما تعاني من الازدحام والنقص.
الكارثة الحقيقية في القرى. تلك التي تعد نابلس المدينة بالنسبة لها وريد الحياة ورئتها.
هنا المشكلة الاكبر هي الفقر. نابلس لا تجوع لكن ابناءها قد يجوعون. وفي المقابل؟ تعمل عشرات اللجان والمؤسسات لاحتواء الوضع. هنا مثلا في لجنة الاغاثة مشاريع عملاقة. الكشفية والدواء معا، يكلفان المريض خمسة شواقل. الحديث لـ د. صابر.
ما دامت المدينة بخير. وما دامت القرى اكثر احتياجا، فما الذي يصنعه المتطوعون هنا، ماذا يصنعون؟!

شبيبة عاملة ومتعلمة (؟!)

الستر، او الفيستات، كما يسمونها، تسهل مهمة تمييزهم. عشرات الشبان والصبايا ينتشرون في كافة ارجاء المقر وينظمون حركة المرضى. هذا يسجل القادمون الجدد. تلك تساعد الاطباء، واخرى تحفظ الدور عند الصيدلية.. نحن هنا نتطوع، نتطوع بكل المهام، فاليوم نساعد المرضى، يقول المتطوع محمد ابراهيم عرباس. وفي حال قصف، لا سمح الله، نسارع للعمل الميداني، منا من يقوم بالابحاث حول الاضرار واخرون قد يعالجون الحالات المرضية والانسانية. في اللجنة هنا يقدمون لنا الدورات، في الحاسوب واللغات والاسعاف الاولي (أهي احتياجات الفلسطيني المتوسط؟!).
د. صابر يقدر عدد الشباب المتطوعين في اللجنة من محافظة نابلس وحدها باكثر من 400 شاب وصبية. وعن نشاطات الجمعية يضيف. فرع نابلس يدير برامج مختلفة للاغاثة الطبية، منها برامج العيادة المتنقلة، صحة الطفل، صحة المرأة، الطوارئ والاسعاف الاولي، وعيادات الامراض الجلدية. في هذه العجالة سيتحدث عن المشروعين الاولين. في مشروع العيادة المتنقلة نقوم بتوفير الخدمات الصحية يومين في الاسبوع في القرى المجاورة. وزارة الصحة ايضا تقوم بنفس البرنامج، كذلك مؤسسات اخرى. نحاول ان نكون وقت لا يكونون، وهم كذلك لضمان تواجد اطول ومجد أكثر. تظل المشكلة بنقل الحالات المستعصية الى المشافي ونقل الادوية.
عن برنامج صحة الطفل، فنقوم بالاشراف على 23 روضة في المحافظة (أقل من الربع بقليل) ونقوم بفحوصات دورية للاطفال. نركز على صحة الفم والاسنان.
(الاسنان..ما احوجنا الى جيل "مسنّن"!).

ماذا نصنع هنا، تبا؟!!

عن سؤالك الفج، آخر الفقرة قبل السابقة عما يصنعه المتطوعون، يجيبك صلاح دون ان تجاهر.عالجنا 325 حالة، وهنالك عشرات الحالات بحاجة الى العلاج في اسرائيل. وجودنا اليوم هو الوسيلة الوحيدة لافساح فرصة العلاج في اسرائيل. هنالك عشرات الحالات بحاجة لعمليات القلب المفتوح، العظام والاعصاب.
الا يجوز تحويل هذه الحالات عن طريق المشافي الفلسطينية؟.
بلى، ولكن عن طريقنا اسهل، فمثلا ان كشف عن احدى الحالات في مشفى نابلس يتعين على ادارته الاتصال بدائرة العلاج التخصصي في رام الله التي تهتم بالموضوع. الحصول على الموافقة الاسرائيلية مرهق وصعب.
هو أيضا يجيبك عن تساؤل اخر، لماذا طلب منك رقم الهوية قبل اسابيع طويلة ما دام يعلم ان الجيش لن يصدر تصريحا بالدخول؟ منذ اسابيع احاول الاتصال والحصول على تصريح دخول عن طريق مكتب الارتباط في نابلس. المشكلة في انعدام سياسة واضحة للجيش في هذا الخصوص. بشكل عام يناورون ويمتنعون عن اصدار التصاريح الا في صباح يوم الزيارة ذاته. وذلك ليحفظوا لانفسهم حق القيام بعمليات عسكرية دون التعهد بحفظ سلامة أحد.
نحن هنا للوقوف عند حق المريض بالتقاء طبيبه والعكس.
عن سؤالك الفج ذاته، تواصل الاجابة ممرضة يهودية، تحبذ عدم ذكر اسمها. لا تثق بالصحافيين ولا بالصحافة.
السلام ليس مجرد توقيع، هو مسار كامل. هنا نحن نعمل معا، ومعا نرهق ثم نتناول الغداء. يقاسموننا اكلهم في هذه الظروف العصيبة. طالبناهم باعفاء انفسهم فرفضوا. نحن هنا نقدم املا لبعض المرضى بعلاج متطور حقيقي. نحن هنا، قدمنا اليوم من خلال ثلاث ساعات نموذجا اخر من العلاقات، بعض هؤلاء الناس لم اتول لتلقي العلاج، جاءوا للمس هذا النموذج الانساني. علاجنا ليس للجسد فقط، انما للروح، للنفس وللمعنويات. وقبل ان ترسم ابتسامتها الحميمة ايذانا بانهاء الكلام، تؤكد: دعني انحني لهؤلاء الناس لاحترامهم لنا وتحملهم مشاق الحياة.

**

ماذا لو توقفت عن الاسئلة الفجة الان عند الحاجز؟
ماذا لو تساءلت اين اختفى محمد عبد الهادي؟!


أمجد شبيطة
السبت 11/9/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع