الحق في التعليم ومكانته في ساحة المحكمة


*توجه المحكمة الذي ينعكس في مجمل قراراتها في مجال التعليم والتمييز اللاحق بالأقلية العربية، ينبع أساساً من ضعف المكانة القانونية للحق في التعليم* تغيير الوضع القائم يتطلّب تغييرًا في التعامل مع موضوع التعليم، بحيث تكون نقطة إنطلاق أن الحق في التعليم هو حق أساسي دستوري، ومن غير الممكن إتخاذ مسارات "التسوية" في التعامل معه*

لا يرد الحق في التعليم ضمن الحقوق الدستورية المعترف بها في دولة إسرائيل، والواردة تحديداً في قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته. عدم الإعتراف بالحق في التعليم كحق دستوري، يضعف من دون شك من مكانة هذا الحق، ويؤثر بالتالي على قرارات المحكمة العليا في القضايا المتعلقة بمجال الحق في التعليم، كما ستتناول القضية مقالتي هذه.
تميز تعامل المحكمة العليا، في أهم القضايا والإلتماسات التي قدمت بخصوص التمييز اللاحق بالأقلية العربية في هذا المجال، في السنوات الأخيرة، بنوع من "المرونة السلبية"، حيث كان الدور الذي لعبته المحكمة في هذا المضمار كدور الـ "محكّم" ، الذي يتفهم مدى الغبن والتمييز اللاحق بالأقلية في مجال التعليم وتحديداً في تخصيص الميزانيات في هذا المجال، ولكن من جهة أخرى يقبل بإدعاءات الدولة والتي تمحورت بالأساس حول شحة الميزانيات، وأن سد الفجوات بين الطلاب العرب من جهة وبين الطلاب اليهود من جهة أخرى، يتطلب وقتًا، وأن التوصل للمساواة في تخصيص الميزانيات ممكن فقط بشكل تدريجي.

من أبرز الأمثلة على ذلك كان قرار المحكمة في الإلتماس الذي قدمه مركز عدالة – المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، في أيار 1997، بإسم لجنة متابعة قضايا التعليم العربي ومجموعة من لجان أولياء الأمور في النقب، ضد وزارة المعارف، والذي طالب فيه بتطبيق برامج قسم "شاحر" للإثراء التربوي في المدارس العربية بشكل متساوٍ مع ما هو معمول به في المدارس اليهودية (م.ع. 97/2814). وكان قد بدأ تطبيق برامج قسم "شاحر" منذ السبعينيات بهدف مساعدة الطلاب الضعفاء الذين يعانون من خلفية إجتماعية- إقتصادية صعبة، في تحسين تحصيلهم الدراسي والنهوض بهم إلى مستوى سائر الطلاب في الدولة. فحتى موعد تقديم الإلتماس لم تقم وزارة التعليم بتطبيق أي من برامج "شاحر" في المدارس العربية، وهذا على الرغم من أن الطالب العربي في أمسّ الحاجة لمثل هذه البرامج، وذلك لسوء الوضع الإقتصادي- الإجتماعي السائد في الوسط العربي ولسوء نتائجه وتحصيله الدراسي. وقد اعترفت الدولة في ردها على الإلتماس بسياسة التمييز الفعلي ضد الطلاب العرب، لكنها ادعت أنها بحاجة إلى خمس سنوات من أجل تطبيق هذه البرامج بشكل تدريجي في المدارس العربية. في تموز 2000، وبعد ثلاث سنوات على تقديم الإلتماس، أصدرت المحكمة العليا قرارها والذي قبلت من خلالة إقتراح الدولة، بالتطبيق التدريجي، رغم معارضة الملتمسين، هذا مع التأكيد في قرارها على التمييز اللاحق بالأقلية العربية في مجال التعليم.

حق العربي ليس مستقلا، بل منوط بحق اليهودي

توجه المحكمة هذا، والذي ينعكس في مجمل قراراتها في مجال التعليم، والتمييز اللاحق بالأقلية العربية في هذا المجال، ينبع أساساً من ضعف المكانة القانونية للحق في التعليم. فرغم أن هذا الحق آخذ بالتطور في الفترة الأخيرة، وجرى، من خلال إلتماسات عديدة قدمت للمحكمة العليا، تمكين وتقوية مكانته كجزء من حقوق الإنسان الأساسية، إلا أنه ما زال غير كافٍ، أيضاً نتيجة لإنعدام الصبغة الدستورية، بحيث يتم التغلب على إدعاءات الدولة بخصوص شحة الميزانيات وعدم قدرة الدولة على سد الفجوات بشكل فوري.

كما نجد ان هذه المكانة القانونية للحق في التعليم تضعف من قدرة المحاكم على إصدار قرارات تلزم الدولة في هذا المجال، على سبيل المثال، الزامها باتباع سياسة تفضيل إيجابي لسد الفجوات. كما وتضعف من قدرتها على التدخل في ادعاءات الدولة بخصوص الميزانيات، والتي لو كان للحق في التعليم المكانة القانونية اللائقة، لكانت دحرت هذه الإدعاءات واعتبرتها في مكانة ثانوية - إن لم يكن هامشية - مقارنة بمكانة الحق في التعليم، والذي هو من الحقوق الأساسية بل الدستورية لكل إنسان.

تأكيد آخر لضعف المكانة القانونية للحق في التعليم، هو أن المحكمة العليا في غالبية قراراتها بهذا الخصوص، لم تعتمد فقط على الحق في التعليم ولم يكن هو اللبنة الأساسية التي إعتمدتها، بل أن الحق في المساواة أخذ المساحة الرئيسية في القرار، وكان إدعاء المحكمة الأساسي في قراراتها أنه لا يمكن التمييز بين المجموعات في مجال الحق في التعليم. نتيجة لهذه الوضعية، أصبح الحق في التعليم للأقلية العربية، على سبيل المثال، منوط بالحق في التعليم كما هو متوفر لدى الأكثرية اليهودية. أي أنه حتى يحصل الطالب العربي على حقه في التعليم وفي البرامج المختلفة التي توفرها وزارة المعارف، فعليه أن يأتي بمعلومات حول ما يحصل عليه الطالب اليهودي من أجل المقارنة.

ضعف مكانة ومفهوم الحق في التعليم، ينعكس أيضاً في نوعية الإلتماسات التي يمكن تقديمها في هذا المجال. فنجد أن الإلتماسات التي تقدّم في هذا المجال تتعلق في جانب واحد فقط من الحق في التعليم، وهو الحق في المساواة في التعليم، ولكن جوانب أخرى، والتي لا تقل أهمية عن الأول، مثل الحق في إختيار التعليم أو التأثير على مضامين التعليم والمناهج الدراسية التي تقرها وتحددها وزارة المعارف، غير متوفرة تقريباً.

تقوية وتعزيز المكانة القانونية الحقوقية للحق في التعليم، من شأنها توسيع مفهوم الحق في التعليم بحيث يشمل أيضاً حق الإختيار وحق التأثير على مضامين التعليم والمناهج الدراسية في المدارس، والتي هي من الضمانات الأساسية والمركزية لأي مجتمع (خاصة لأقلية قومية في الدولة) لحماية ثقافته، تاريخه والحفاظ على تطوره.

خصوصية قرار المحكمة حول الطلاب ذوي الإحتياجات الخاصة

كما ذكرت سابقاً، رغم ضعف مكانة الحق في التعليم، إلا ان هذه المكانة آخذه في التطور. مثال على ذلك هو قرار المحكمة العليا الأخير (م.ع. 03/6973) حول حق الطلاب ذوي الإحتياجات الخاصة في التعليم. وقد أثار هذا القرار جدلا واسعاً، وخاصةً من الجانب الحكومي- الوزاري، حول مدى صلاحية المحكمة العليا للتدخل والبت في أمر يستدعي تغييرًا في توزيع ميزانيات الدولة. وكان الملتمسون قد طالبوا في هذه القضية بإلزام وزارة المعارف بتخصيص الميزانية اللازمة من أجل تطبيق بند 7 من قانون التعليم الخاص، والذي يلزم وزير المعارف ووزير المالية بتخصيص الميزانيات بشكل تدريجي، وسنوياً، من أجل توسيع حلقة وزيادة عدد الطلاب ذوي الإحتياجات الخاصة الذين يتلقون ميزانيات من قبل وزارة المعارف.

الدولة إدعت في ردها على الإلتماس بأنه نتيجة للضائقة الإقتصادية والتقليصات في ميزانيات الوزارات بشكل عام وفي ميزانية وزارة المعارف بشكل خاص، ستقوم (الوزارة) بتوفير مبلغ 250 مليون شاقل لتنفيذ قانون التعليم الخاص، وسيتم توزيع هذا المبلغ على فترة سبع سنوات وبشكل تدريجي، وأنه سيخصص للسنة التعليمية الدراسية 2004 مبلغ 35 مليون شاقل.
إلا أن المحكمة العليا رفضت إقتراح الدولة هذا، معتمدةً على رسالة كانت قد أصدرتها وزيرة المعارف لوزير المالية، والتي تستند على آراء مختصين مهنيين في الوزارة، مؤكده فيها أن وزارة التعليم بحاجة لمبلغ 600 مليون شاقل لتنفيذ قانون التعليم الخاص، وأنه يجب تخصيص هذا المبلغ بشكل تدريجي على فترة خمس سنوات، وإبتداءً من السنة الدراسية القادمة من خلال تخصيص مبلغ 120 مليون شاقل. وجاء في قرار المحكمة أنه ليس بوسع الدولة التملص من تنفيذ القانون وتوفير الحد الأدنى المطلوب من أجل ضمان الحق في التعليم، معتمدة بهذا على قانون التعليم الإلزامي، والذي يلزم الدولة بتوفير التعليم الإلزامي مجاناً لكل الأطفال دون سن الخامسة عشر، كما واعتمدت على مبدأ المساواة والذي يعتبر مبدأ أساسًا في الدولة ويلزم وزاراتها المختلفة بتخصيص الميزانيات بشكل متساو بين المواطنين، وفي هذه الحالة يلزم وزارة المعارف بإعتماد سياسة عادلة تجاه الطلاب ذوي الإحتياجات الخاصة مثلما هو تجاه باقي الطلاب.

يذكر أن النيابة العامة قدمت طلبًا لإعادة البحث في هذا القرار، مدعية بالأساس أنه ليس من صلاحية المحكمة التدخل في كيفية توزيع وتخصيص الميزانيات، وان هذا الأمر يقع ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية، ووزير المالية تحديداً. إلا أن المحكمة رفضت الطلب وأبقت قرارها على ما هو عليه.

من الممكن إشتقاق أهمية هذا القرار من الجدل الواسع الذي أثاره، والتساؤلات التي أثيرت حول ما إذا كان من صلاحية المحكمة العليا إتخاذ قرار من شأنه تغيير كيفية توزيع وتخصيص الميزانيات. وفعلاً، فإن قرار المحكمة هذا يعتبر من أول القرارت في مجال التعليم التي يندحر فيها اعتبار شحة الميزانيات مقابل الحق في التعليم وفي المساواة. ولكن يجب التعامل مع هذا القرار بشيء من الحذر وذلك لسببين أساسيين، السبب الأول يتعلق بهوية المجموعة الملتمسة، أطفال ذوي إحتياجات خاصة. فهذه المجموعة تلقى تعاطفاً وتأييداً كبيرين من المحكمة العليا، نتيجة للتمييز الصارخ اللاحق بها في مجال الحق في التعليم، ونتيجة لإخفاق وزارة المعارف في تخصيص الميزانيات الكافية لضمان مستوى أدنى من الحق في التعليم لهذه المجموعة، وكل ذلك على الرغم من وجود قرارات سابقة ومنذ سنوات للجان وزارية عديدة مختصة،  وكذلك على الرغم من وجود قرارات سابقة للمحكمة العليا ذاتها. أما السبب الثاني فيعود لكون المحكمة اعتمدت في قرارها على توصيات سابقة لوزارة التعليم، كما ذكرت سابقاً، وهكذا توصلت إلى المبلغ الذي يجب تخصيصه وعدد السنوات اللازمة لتنفيذ القانون.

خلاصة: بعيدًا عن مسارات الـ "تسوية"

هذه الحالة من الصعب أن تتوفر في معظم الإلتماسات التي تقدم للمحكمة العليا في مجال التعليم، فعادةً يطالب الملتمسون بتوفير الحق في التعليم، دون الخوض في ماهية المبلغ الذي يتوجب على وزارة المعارف تخصيصه لتوفير هذا الحق أو تلك البرامج. هذا الأمر هو مركز قوة الوزارة في هذه القضايا، فهي في تصور المحكمة الجسم الوحيد تقريباً الذي يعرف حيثيات الموضوع ومصادر الميزانيات المتوفرة، وبالتالي هو الجسم القادر، أكثر من الملتمسين وحتى من المحكمة نفسها، على تحديد المبالغ الذي يجب توفيرها والمدة الزمنية اللازمة لتخصيص هذه المبالغ.

السبيل للخروج من هذا "المقلب" هو بالتعامل المختلف مع الحق في التعليم، هذا التعامل يجب أن يخرج من نقطة إنطلاق بأن الحق في التعليم هو حق أساسي دستوري، من غير الممكن إتخاذ مسارات "التسوية" في التعامل معه. وبمعنى آخر لا يمكن دحر هذا الحق أو تأجيل توفيره بإدعاءات وإعتبارات ثانوية كشحة الميزانيات. ولكن حتى الوصول إلى هذا، يجب متابعة العمل الجاد والمدروس في كافة المجالات ومن ضمنها المسار القضائي، لتعزيز وتقوية المكانة القانونية للحق في التعليم.

* محامية في مركز عدالة


غدير نقولا
الثلاثاء 31/8/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع