سور عابر هشّ في قلب القمر


(أ)
حين تجلس على الشرفة الشرقية، من هذه الزاوية في حيفا، يقف القمر ليفاجئك. متى بدأتَ اكتمالكَ؟ أأتممتَ كل هذي الدورة حتى هذي الاستدارة؟ أين كنت أنا..
تكون حينها تقرأ ثانية ملف جريدة "الاتحاد" (الذي ساهمتَ في تحريره) عن راحل حاضر هو توفيق زياد. ذلك الانسان الذي رأيت بوفاته دموع والدي، بشكل نادر. المرة الأولى رأيت عينيه دامعتين مع رحيل جدتي، والدته. وبعدها، في شوارع الناصرة وهي تودع ابنها زياد، حين توسطته ووالدتي في مشهد لا يغيب. التفتّ اليه خائفًا، رأيته دامعًا يكتم نحيبًا، فحزنت من دمع أبي، وأحببته أكثر، وأحببت دموعه، وأحببت ذارف هذي الدموع من عيني أبي برحيله. وازداد حزني.

(ب)

لكن القمر الآن يقف مفاجئًا. أحسّه ساخرًا. فهل يفهم حمير دعوة الترانسفير لمن بقي في حيفا، معنى أن يقف القمر فوق حيفا؟ (أينك يا معلمنا إميل حبيبي، ايها "الباقي في حيفا"؟). هل يعون كيف أعود الى عصر شبه عبادة القمر الطالع فوق حيفا؟ ذلك السمائي المتسامي الذي يعيد الأمور الى نصابها.
"قمر حيفا" الذي يحوّل كل عنف المتجبّرين الى مادة عابرة من النوع الرديء في خدمة سخرية الارادة وهي في كامل إصرارها، بفضل وحكمة (هؤلاء) السابقين. معلمونا الذين لا يمكن للـ "وطن" (أين يبدأ وينتهي الوطن؟) أن يخرج الى الناس دون أن يضيء، أيضًا، بملامحهم وملاحمهم.

(جـ)

فوق شرفتي الشرقية مدرسة. بناية لمدرسة. البناية محاطة بأسوار في سطحها. بعد قليل سيقسم حديدها القمر. سيقسم طيف حديدها طيف القمر.

(د)
حتى ذلك الحين أكون قد دخلت ردهات الانتظار. صوت تلك المرأة التي أحب. انتظار لصدى هذا الغامض اللامفهوم الذي يتركك بنعومة لعبة طفولية بأيدي سيّد المنطق: الحب.

(هـ)
يشير الهاتف الخلوي الى اننا تحدثنا 22 دقيقة وعدة ثوانٍ. ماذا قلنا؟ ما الذي استطعنا البوح به؟ وما الذي لا نزال نخاف من تركه ينساب في بُعدنا المؤقت من هنا حتى هناك؟
غريب أن تشمّ من تحب عبر أثير شركة الهواتف الخلوية!
لكنك تشمّ، تشمّها. يأتيك ذلك أيضًا من جهة السروة المجاورة التي جالستكما ظهر اليوم.
هل الشم واحدة من حواس الحب؟
(أتذكر "عطر" زوسكيند، أبتسم وأخاف معًا).

(و)
في هذا الحين يكون القمر قد أكمل نصف متر (من هنا) وبونًا من الفلك (من هناك/ لديه). يصل القمر فوق سور سطح المدرسة المطلّ عليّ. يقطع السور السخيف جسد القمر. أرى القمر الآن وقد استوطن في قلب دائريّته خيط من ظلام. في هذه اللحظة بالذات أعشق لو أكتب. وأكتب ما كتبته حتى الآن. من هذه اللحظة أكفّ عن الاستعادة، وأتابع من لحظة قطع ظلام السور لضوء القمر.
وبدون أي تفسير، يجتاز ذهني الآن ذلك الجدار المستوطن في قلب قلقيلية، القدس، طولكرم وقراها.. أتذكّر وجوهًا معروقة تصرخ، تهتف، وتلقي غضبها إصرارًا على الرفض، وعلى التفاؤل بأيام أجمل تُصنع بالمواجهة.
قوة. قوة تجتاح كل شيء. قوة عذبة لا تعرف للعنف معنى.
الآن مضى القمر متجاوزًا سور الحديد الهش. مضى بانسياب رقصة الفلك – بتلك الحركة التي رأى فيها جدنا فيثاغوروس أصل الموسيقى، وعليها أسس انسيابها الراقص، وأقامها على نوتات تستقي انسيابها من حركة هذا الفلك الساخر من كل قوة الساطين من البشر.
يمضي القمر وهو يستلّ بسخرية ذلك السور الظلامي في قطر دائريته. يتركه كومة من الصدأ ويمضي كما يمضي، يمضي قمرًا.
يمضي القمر ويسقط السور.

وأظل أتذكّر الجدار. يمضي الحلم المتجسّد بقوة حقّه، وأرى جدارًا اسمنتيًا مدججًا بالمعادن والجنود، وهو ينهار. تمضي قلقيلية في حلمها، وتترك خلفها جدارًا ظلاميًا ينهار. تسحبه من حيث طعنها في القلب، فيخفق لها قلب في حيفا. وأحلم أن قلب حيفا كلها سيخفق لها هذي الليلة.


هشام نفاع
الثلاثاء 10/8/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع