صيفيّات (3)
مواسم: <أعياد الحصاد>


ان مهنة الحصاد كانت تتم بصورة جماعية وتؤدي فيها الجماعة اغاني معروفة ذات نغمة تحثُ على العمل والسرعة في الانجاز، ليست كالحراثة العملية المملّة، والتي تستغرق وقتا طويلا ويقوم بها الحراث وحده. ويوصف قائد عملية الحصاد – الشاقوف – بأنه خيال وذيب المنجل اذا كان ماهرا،  هذا القائد معزا بنفسه:
- انا خيال المنجل
- والمنجل خيال الزرع
وكانت عملية الحصاد في اول الامر مجرد قلع السنابل ثم عمم النّور "القالوش" الذي يقطع باسنانه سوق السنابل.
يضع الحصاد "وزرة" الجلد لتقيه من السنابل، وهو يفطر خبزا ولبنا ثم يتناول الصبوح عند الظهر والغداء في حدود العصر ويستريح الحصاد (5) مرات وهي:
1- راحة شربة الحومة
2- راحة الصبوح
3- راحة شرب الصبوح
4- الراحة للغداء
5- شربة الغداء
واذا كان الحصاد قد اشترط تقديم الطعام على المعلم فانه يسمى "مُموّن" وبعكس ذلك فهو "مْكمّمْ".
يقال ان الحصيدة من النار، بمعنى انها متعبة ومرهقة، وتأتي في الايام الحارة بعد نهاية الربيع. ولذلك فان الغناء الجماعي في اثناء الحصاد يقوم بمهمة التخفيف من العمل والتسريح عن النفس وما تعانيه من متاعب ومكابدة الحر، ومن اجل خلق جو من التعاون والتناغم بين الحصادين يغني احدهم فيرد الآخرون:
- يا حلو لبني في زينك ما طِلِعْت البر
   ولا حصدت الحصايد في نهار الحصر
- يا ريتني غيمة وأرد الشمس عنكو
والا مطر صيف وارد الربيع الكو
- يا حلو دربك سند والرجل ثقلانه
واقعد تسلّيك يا ابو عيون نعسانه
هذا النوع من اغاني السامر بطيء في لحنه ويحمل معنى التهدئة وبث الراحة في النفس.
وفي ساعات الصباح وعندما يكون نشاط الحصاد في اوجه فان اغنية جماعية مثل "منجلي يا مِنْ جلاه" تساعد في بث المزيد من الحماس للعمل في انفس الحصادين:
منجلي يا من جلّاهْ (1)
راح للحداد جلاهْ
ما جلاهْ إلا بعِلبة (2)
ريتْ هالعلبة عزاهْ (3)
منجلي يا أبو دزّه
يلّي شريتَكْ من غزّه

منجلي يا أبو الخراخِش (4)
منجلي في القش طافِش (5)
يا ريتِ الشوك ما بانْ (6)
ولا تخلّق ولا كان
عمنّه تَبَع (7) الزّين (8)
وراح الزّين حَردانْ (9)
يا غلمان ردّوه
سِمنْ وبيظْ غذّوه (10)
يا أبو عْجّيل (11) مِرعِز
لايجْ (12) عِ جبينُ
جانا الخبَز مجَوّز
سُودا على ما انطونُو (13)

أبو عْجيل مَرْحُوم (14)
لايجْ عَ جبينُه
أصبُر على حُكم الله
بلكِ أهلي ينطُونُه (15)
(المركز الفلسطيني للاعلام)
"الاهازيج الشعبية الفلسطينية"

اثناء الحصاد تقوم مجموعة من النسوة بجمع حزم القمح التي يتركها الحصاد بعد قطعهان وتسمى هذه الحزم غمور – جمع غمر – والمرأة غمّارة. وتجمع الغمور في كومة مكعبة ضخمة تسمى "الحلة" وتحصل الغمارة على الأجر التالي:
1- كيل وعلبة قمح
2- مركوب
3- منديل أحمر – شطفة، ليقي حطتها من القش
وتقوم واحدة من الغمارات بجلب الطعام للحصادين، وتتناوب في ذلك مع زميلاتها ويحق للغمارة ان "تلقط" من بيت الغمور.
يقوم الجمالون بنقل حزم القمح الى البيادر وتسمى العملية "شيل" وكنت ترى في موسم الحصاد الجمال مقطورة واحداً في اثر آخر ويقودها الجمال الذي يركب حماره في المقدمة. وفي هذه الاثناء ينشط اللقاط بجمع السنابل المتناثرة بين الغمور وبعد التغمير ووراء الجمال التي تحمل حزم القش الى البيادر وسمي هؤلاء "الصيّافة" او البعارة.
وكلما جمع اللقاط ما يملأ يده من السنابل ربطه ليصنع ضمّة، وتدق هذه بقطعة خشبية تسمى مخباط لفصل الحب عن السنبلة.
وبعد نقل كامل القش الى البيادر تقوم صبايا القرية بمهمة "التقشيش" أي الحصول على قش جيد لتصنع منه اواني البيت مثل اطباق القش وادوات اخرى لتوضع فيها بعض الثمار، وتصبغ النساء بعض القش لتتكون هناك عملية تشكيلية في الاطباق والاواني تحمل انطباعات المرأة من النواحي الجمالية والزخرفية، وعملية التقشيش تحمل معنى اظهار الفتاة لمفاتنها امام المشتغلين بنقل السنابل ودرسها. وهي فرصة لاظهار الود من جانب الشباب ازاء الفتيات بالسماح لهن بجمع القش الصالح للنسيج من افضل انواع سيقان القمح.
ويصنع الفلاح "طرحه" من سنابل القمح او الشعير على البيدر بقطر 15-30 قدما وارتفاع ثلاثة اقدام تكون الطرحة دائرية ويسير فوقها زوج من البقر او حصان قديش وربما حمار ويجر لوح الدراس الذي يحمل في جزئه الاسفل حجارة قاسية تساعد على "درس" القش وفصل الحبوب عن القش، بعض الناس "يكممون" الحيوانات حتى لا تأكل الحب ويتم تقليب الطرحة "بالدكران" ويعاود العمال "درسها" حتى تصبح ناعمة وجاهزة للذراوة أي فصل الحب عن التبن والحوص والقَصْوَل، يتم خزن الحب باكياس كانت في البدء تصنع من شعر الماشية اما التبن فيحفظ ليقدم للحيوانات، ويبقى الموص وهو التبن الناعم جدا ويستعمل بمزجه بالطين لعمل المواقد ووعاء الطابون ( القحف) واحيانا وفي سنوات القحط يقدم طعاما للحيوانات. واما القصل او القصول فهو اكثف ما ينتج عن الذراوة بعد الحب ويستعمل كوقود للطابون او يمزج مع الطين لعمل ارضية البيت وخوابيه.
ان عملية الدرس والذراوة مهمة لانها العملية الاخيرة قبل ظهور المحصول الحقيقي، وهي عملية تحمل طابع الامتاع والزهو باعتبارها العملية القريبة من الحصول على ثمار جهدها العام وفيها يغني العاملون داعين لله لطرح البركة:
يا مِذراتي (16)
وين بِتْباتي
بالعرماتي
يلا البركة
بركة ربي
في هالشّوبة (17)
بركة حيدَر
في هالبيدر
هي دايم  يلّة دايم
قوم اسمع البُومه
ايش برجمت (18) قالت
قالت يا ازْمِقْنا
ليالي السّعد زالت

و / قوم اسمع البومة
ايش برجمت في الليل
قالت يا ازمِقنا
ليالي السّعد زالن
(المركز الفلسطيني للاعلام)

و / يا مره زيدي العجين
خيل ابو جرّار أجين
خيل حُمر محجّلات
ع العلايقْ دايرات
ع العلايق والعليق

و / دُق الدكران
ابو البُنيان
في الجرن تبان
يا هور بْهُور
ريحه بخّور
من قرن الثور
مِسْك وعطورْ
(من الموسوعة الفلسطينية مجلد 2)

وتعطي هذه الاغاني طابع المرح والانبساط والحديث على المزيد من الجهد والتوجه الى الله بالتوفيق وطرح البركة في المنتج والجدير بالذكر ان الذراوة تعتمد على هبوب الريح الذي يساعد في فصل اصناف المنتج واحد عن الآخر وبذلك يقولون:
"ان طاب هواك ذرّي على لحية جارك".
أي اذا توافرت حركة الريح فبادر بالعمل حتى لو كان جارك واقفا باتجاه الريح. وتأتي آخر مرحلة من العمل وهي غربلة الحب الناتج عن الذراوة لفصله عن القصل او الرمل او الحصى، ويتم ذلك اولا بكربالة وثانيا بغربال ثم يتم خزن الحب في الخوابي او المطامير.
هذا هو عيد الحصاد الفلسطيني الغامر والمليء بالجهد والعمل والفرح والامل والبركة، حينما كان الجميع يستمتع ويرتاح ويرقص في الحقول فرحا بالمنتج وبالخير الذي تنبته ارضه، ويفتخر انه صاحب هذا الوطن الغالي العطوف الحاني على آلامه وآماله وعيشه.
ان العودة الى هذا التراث صعب جدا، رغم ان هذه الارض الغالية لم تبخل على فلاحها ولا على صناعها، فقد اعطت ادواتها الزراعية من اخشابها والغلة من قلبها، واعطت الحجارة والرمل والحصى والفخار من جسدها.
وتبادل انسانها واياها المحبة فكانت الحياة، ولا يهمنا كيف كانت، فهي كانت وما زالت مستمرة مع تغير الوسيلة فقط، وانتاجها نظم الحياة بعلاقاتها الاجتماعية والاقتصادية بين افراد قرانا ومدننا، والارض والاداة والحيوان والانسان تناغمت مع الانسجام والتعاون الفلاحي الاصيل، ورغم صراع الحضارات، وغزو المادية الغربية لماديتنا المتواضعة، ويبدأ القديم يرزح تحت وطأة الجديد وغلبته، فهذا الثور والبغل والحصان والجمل والحمار يتنازل للتراكتور والقطار والسيارة "والكومباين". ورغم التغييرات نستوعب التقنية الحديثة بكل شموخ، وتبقى في ذهنيتنا انماط تفكير قديمة تصطرع وضرورات الحياة المستجدة. فلا تنظروا للقديم نظرة ازدراء ولا مبالاة يا اجيالنا الحالية والقادمة والباقية.. لان الشعب حين يحس انه امام تحدي المصير يعود الى مكونات شخصيته التاريخية والحضارية يستعيد الثقة باحتمالات بقائه في مقارعة عوامل الزوال والاضمحلال.
"واستفاقة شعبنا الفلسطيني على تراثه خيبت آمال كل المغرضين الذين اوهموه ان التخلي عن تراثه هو طريقه الى القوة والنهوض ودخول العصر" (ص 225-226 الدكتور فكتور سحّاب "التقاليد والمعتقدات والحرف الشعبية في فلسطين قبل سنة 1948").
هذا هو "فردوسنا المفقود" الذي كان لغيرنا موعوداً.. ولكن سنبقى نناضل ونكافح حتى نعود وسنعود وسنعود..
(والى لقاء)
معاني الكلمات:
1) صقله وجعله حادا.
2) العلبة تساوي (6) صاعات وكل 12 صاعاً يساوي "كيل".
3) ليت تلك العلبة من القمح التي اخذها الحداد تصبح مادة لطعام العشاء يوم اقامة المأتم عليه.
4) الذي يعلّق فيه صاحبه زخارف واجراسا.
5) منطلق
6) خلق ونما.
7) لانه.
8) الأصح "تعب أي اتعب الزين".
9) غاضب، والمرأة الحردانة هي التي تهجر بيت زوجها احتجاجا على سوء المعاملة فتقيم في بيت اهلها.
10) قدموا له غذاء.
11) عقال، والجيم مصرية.
12) الجيم عادية ومعناها لايق.
13) لم يعطوا.
14) مرقوم – مزخرف.
15) لعل اهلي يعطونني لك.
16) المذراة – اداة ذات اصابع لذر السنابل المسحوقة الناعمة بهدف فصل التبن عن الحب.
17) الحر.
18) صوت الحمامة.
19) هذه الاغنية من الاغاني الحزينة التي تغنيها النساء وهن يطحنّ الحب على الجاروشة وهي اداة يدوية لطحن الحبوب. وكانت المرأة الفلسطينية في اوائل هذا القرن تطحن القمح كل ليلة لتحضر ما يكفي للعجين.


يوسف حيدر
الخميس 5/8/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع