مع عاشق فاطمة

غريب هذا الحب عجيب! يعلنه صاحبه كمن يكشف سرا دفينا عمره اكثر من ستين عاما! العاشق هو ابراهيم مالك مغربي والمعشوقة هي فاطمة ابدا! ففي ديوانه الاول "بانتظار تأتي " يعلن عشقه لفاطمة" وفي ديوانه الثاني يُنشد لفاطمة نشيد الحب! فلماذا يكشف عزيزنا ابراهيم ان  سر عشقه هذا؟! وهل فاطمة هي احدى القديسات؟ هل هي الهة اغريقية فيعلن عشقه لها؟ هل هي زوجته الالمانية الاصل والتي تحمل في سماتها الجمال الالماني كما يهواه ابراهيم مالك؟ هل هي توأم امه التي احب حتى العبادة؟ ام هي فاطمة اخرى اطلق عليها هذه التسمية ليخفيها عن زوجته اولا ثم عنا نحن قرّاء ومتذوّقي شعره؟! ام هي احجيّة اختبأ خلفها شاعرنا من اجل اثارتنا واثارة فضولنا للبحث عنها. ام هي اية امرأة جميلة، او كل حسناء يحبها لاجل مسحة الجمال التي تزينها؟! وهو لذلك كرجل تكاملت رجولته منذ اكثر من اربعين عاما، لذلك فهو كما قال احدهم: "القلب يعشق كل جميل" في اغنية ام كلثوم؟! فلماذا هذه الاحجية؟ اليس هناك ما يشغل بالنا به ذو اهمية اكبر من البحث عن فاطمة في كل ناحية وفي كل زاوية؟! اقول: لقد نجح شاعرنا في اشغال البال واثارة حب الاستطلاع في نفوس قرائه وظل هو مختبئا خلف التساؤل الممض " انه يحب فاطمة" فمن هي؟! وقد توجهت لزوجته بالسؤال؟ من هي فاطمة؟ اجابت: انا اعرف فاطمة ولكني لا ابوح باسمها لأنه احد اسرار زوجي التي احافظ عليها".
ويصر شاعرنا بعناد غريب معلنا ان من يحب فاطمة هو كل من لديه اصرار على الحياة، ومن يحب فاطمة لا يهرم ولا يشيخ ولا يعجز!!! فهوى فاطمة اثمن من أي شيء آخر ولا يعد له أي شيء!
توارد خواطر: يعرف الجميع ان شاعرنا اصيب بداء الفالج ولازم السرير الابيض – أي المبيت بالمستشفى لفترة طويلة في هذه الفترة لا بد انه كانت تتنازعه الافكار، والاحاسيس والمشاعر المتباينة بمثابة نوبات ثقة من النفس واخرى تهز كيانه فتفقده توازنه بسبب المرض وهو بين هزة واخرى تخطر بباله الدنيا في الخارج بمباهجها، بحلوها ومرها، بسهولها وهضابها، بوديانها وروابيها، بامطارها الغزيرة وثلوجها بظبائها السارحات في الحقول والروابي يقضمنَ رؤوس الاعشاب الغضّة ويرقصن رقصات كلها رقة وعذوبة، وتتساقط الامطار في الخارج مبشرة بحياة جديدة! كل ذلك يجري ولكن في الخارج، اما هو فقابع في سريره يخاف ملاك الموت احيانا، ويطلبه احيانا. الا انه ومع اصراره على الحياة، على التجدد كما تجدد الطبيعة في الخارج فيصرح قائلا لقد زال عنه الخطر: ذلك ان فاطمة التي يعشقها ظهرت امامه كملاك بثيابها البيضاء فأزالت خطر الموت عنه وزادت من تشبثه بالحياة حتى ولو خانه الجسد ولم يقوَ على النهوض لمقابلتها! حيث انها رعت ولادته من جديد تماما كما العنقاء مع فارق الزمن!
"وفاطمة ترعى ولادتي/وفي صلاتها/ تحنو عليّ/ في عيونها توهّج الامل/ وفي يديها بلسم الحياة!/ (ص – 20)
وفي (ص – 21) يقول: تدرك في قرارة النفس/ بان لحظة الخطر/ تراجعت/ ولم تحن سويعة الرحيل/ وان شجرة الحياة في/ اخضرارها الظليل/ اقوى من الموت/ وفي الخارج يسقط المطر!
الم يرو محمود درويش في مستشفاه بفرنسا نفس الفكرة في جدارتيه؟!
الم يقل: يا ملاك الموت، انا لا اخشاك!؟ لقد انتصرت عليك بما ابدعت وما كتبت في هذا المجال؟!
ولذلك فان تكرار الفكرة لدى شاعرنا ابراهيم مالك هو توارد خواطر طبيعي لان كل انسان يصاب بالمرض ويقبع في المستشفيات لا بد له ان يفكر بالموت والحياة وان يتعلق حتى بالاوهام من اجل الشفاء، الشفاء العاجل ليعود الى طبيعته، وليحلم احلام اليقظة، اليقظة الجزئية بسبب المخدّر (البنج). فهو اذ يجلس في سريره ومن حوله ذووه قد ينتفض بقوة الارادة ليعلن للناس ما كان قد صنعه السيد المسيح عندما كان يشفي البرص والصم والعميان ويقيم الموتى من القبور ويستخرج الشياطين من المصابين بالصرع، اليس هذا الفكر من باب توارد الخواطر بين الشاعرين؟!
ويختلف شاعرنا ابراهيم في تشبثه بالحياة الى سبب ذلك التشبث وهو عشقه وتعلقه بفاطمة. وفاطمة هذه المرة هي الممرضة التي تبرعت ان تحكي له قصصا من الانجيل عن عجائب الشفاء التي صنعها السيد المسيح في حينه:
" وكان بينهم فتاة/ حضرت تشدو/ على شفاهها اغنية تحب/... جاءت وفي عينيها كتابها الطهور/ تتلو عليك منه اجمل القصص/ عن ذلك الذي شفى بقوة الايمان (ص – 24).
هنا يبدو اثر الانجيل، في ما يكتب شاعرنا، واضحا، ولو انه لم يذكر اسم السيد المسيح علنا! والواقع، انه ليس لدي شك في ان الشاعر كان قد قرأ الانجيل وتأثر به، وتزوج من امرأة المانية مسيحية، وكانسان ليبرالي، لا بد له وقد قرأ العهد الجديد الا وان يتأثر بما قرأ فينعكس ذلك في شعره وبشكل جميل جدا.
وبما انه يحب فاطمة ويعشقها لدرجة العبادة، فانه لا يرى غضاضة في طلب الشفاء بواسطة الايمان متمسكا بقول السيد المسيح لتلاميذه: "لو كان لديكم ايمان كمثل حبة الخردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل:
انتقلْ من هنا الى هناك فينتقل!" (راجع الانجيل)
وها هي فاطمة تعيد على مسامعه قصص العجائب في شفاء المرضى والمساكين على يد السيد المسيح فهل يقبل خاطر فاطمة؟! وهل يستطيع ان يرفض لها طلبا؟!
"وكان بينهم فتاة/ حضرت تشدو/ على شفاهها اغنية تحب/... جاءت وفي عينها كتابها الطهور/ تتلو عليك منه اجمل القصص/ عن ذلك الذي شفى بقوة الايمان/". (ص – 24).
الوجدانية في بعض القصائد: لا يغيب عن بالنا ان شاعرنا يعيش اجواء صعبة للغاية. فهو بالكاد يستطيع الوقوف على رجليه، يتكلم بصعوبة، ويقوم ببعض الحركات بصعوبة. ومن كان هذا وضعه، يعيش في حساسية مفرطة، ووجدان يقظ كل اليقظة. فهو ينفعل مع كل موقف بسرعة وسهولة وتنهمر دموعه لمجرد زيارة صديق عزيز! هذه طبيعة الانسان المجبول من طينة الضعف وكلنا كذلك، او المشاعر فهو اكثر حساسية واعمق شعورا مع الآخرين بطبيعته، فكم بالحري اذا كان وضع مشابه! لذلك عندما يتحدث عن عنب الخليل – وكلنا يعرف نوعية هذا العنب الاشقر الذي ينقط عسلا عندما يتم نضجه يتذكر شاعرنا احد الشهداء فيصفه بانه كان عشيق الغيم في امطاره، يحب مطلع الصباح... بلله قطر الندى، ويحب دفء الشمس في نيسان. ومع كل هذا الحب وهذا الانفتاح للحياة يأتي الموت الرهيب الذي يكرهه فتاكا من الطائرات التي تزرع الموت في كل زاوية. وعندما استشهد بكته اعين الاطفال حزنا وبكاه الليل في وحدته والنسوة الحلوات خلف موقد النار وفي الخباء في غضب، فاضت اسى مدامع الرجال! والرجال اذ يبكون، يكون بكاؤهم نتيجة حتمية لنفاد الصبر والاحتمال، وبهذا نعتقد ان شاعرنا لم يتمالك نفسه عن البكاء عندما جعل الرجال يبكون فالبكاء هنا هو بكاء العاجز عن الدفاع او الرد على مقتل الاطفال الابرياء بغير ما ذنب جنوْهُ!
وهو لا يتمالك نفسه ازاء وضعه الصحي لذلك يقول في ما نسميه باسم  "خطاب الذات": "يا مُقعدا/ قف في جلال عاشق/ ومثلما حييت/ منتصبا/ وودع الالى  تحب/ ... ترعاك في طريقك الاخير/ دموع عين فاطمة/. (ص 68-69). فاذا ما جعل فاطمة تبكي وفاطمة هي معبودته التي يعشقها فانه انما يرثي نفسه، ذاته، لان فاطمة محبوبته لا يفرط لدموعها ان تسيل حزنا على غيره، والمحبة الحقيقية هي استملاك للآخر!
ابراهيم مالك فنان الكلمة الحلوة!
في كل قصائد الديوان وجدنا الكثير من التعابير الفنية الجميلة التي لا يستطيع الاتيان بمثلها سوى شاعر ناجح مرهف الحس يتذوق الكلمة الحلوة ويشبعها تشبيها واستعارات بليغة تزيد من رونقها. والامثلة على ذلك كثيرة نقتبس منها ما يلي:
"يا فاطمة/ اانت طفلة/... شهية كالخبز ساخنا/ شهية كحلم/ يا فاطمة/ يا غنوة حروفها نبض دمي/ .. (ص 74 – 75)
"فاهبطي يا شبه نجمة/ تستحم في الفضاء اللا محدود للسماء/.. (ص – 79)
"يا حلوة"/ كالصبح في اشراقه/ يا سمحة كما الندة/ يسقط في البكور/ يا اخضرار عود/ احب فيك/ ايطلي غزالة/ ميساء  حوراء العيون/ وانثناء جيد/ احب فيك رقة الهزار في تهليله/ وبوح وروار يغني في فضاء يجهل الحدود/... يا روعة العنقود في اختمار/ (ص 84-85) وفي مكان آخر يقول:" يا ضحكة العصفور في انطلاقه "! فانظر الى العصفور ضاحكا؟ كيف يكون هذا الضحك؟! "ويا اعتصار الطيب في تفتح الورود!.... يا بحة الشحرور في انكسارها يا بلبلا ملون التغريد!
اين المزامير المفتاة (واين منه روعة التجويد/ (ص – 86)
وشاعرنا فوق هذه التعابير والتشابيه الجميلة لا ينسى انه: عاشق لفاطمة اولا ومن اجلها هو عاشق للحياة!
"يا جميلتي/ حيث يكون الحب/ تنتصر الحياة"! (ص – 134)
اخيرا هذا الديوان يستحق اهتمام القراء واقتناءه ليزين مكتباتنا، فشكرا للشاعر ابراهيم مالك مغربي؟الذي نتمنى له الشفاء العاجل والى اللقاء في كتب اخرى!

(كفر ياسيف)


د. بطرس دلة
الجمعة 16/7/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع