قراءة اولى في <قرويات> حبيب بولس...

هو هذا الماضي الجميل الساحر البريء الذي نتفيأ ظلاله كلما ارهقتنا الحياة بكل همومها وتعقيداتها..
هي هذه الحياة الروحانية البسيطة البريئة التي يحملنا الحنين اليها كلما اتعبنا الركض وراء المادة وسرابها.

هي هذا العالم الحالم الساحر الذي نرنو اليه كلما انهكنا عالم اليوم حيث ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات..
هي هذه الساعات العذراء التي ننام بين ذراعيها كلما عشنا في هذا الزمن المر..
هي هذه البساطة والطيبة والمحبة التي نحلم بها كلما فتشنا عن زاوية بيضاء نظيفة لم يلوثها عصر النفط ولم نجدها..
هي هذه القرية البطل في نوسطالجيا الدكتور حبيب بولس..
هي كل قرية من قرانا المحفورة على جدران قلب كل شيخ وشاب، كل صبية وعجوز..
هي هذه القرية التي تتمنى ان تنام تحت شجرة من اشجارها.. تشم عطر ارضها وترابها..
تتنفس عرق آبائها واجدادها.. تطرب لغناء اطيارها.. فيحملك الحنين الى ايام كانت هي الاجمل..
ويوقظك ابو العبد بوخزة عكازه..
"قرويات"..
هي هذه اللوحة الجميلة الرائعة التي تابعت حلقاتها بشغف من على صفحات "الاتحاد" وقبل صدورها في كتاب.. ولا اقول ذلك تملقا، ولكن رغبة في اظهار موقف صريح من صورة عذبة رفعت عنها ريشة الاستاذ الدكتور حبيب بولس، خاصة وانه يحمل بين طياته قيما جد كبيرة في هذا الزمن الرديء، ساحاول الوقوف على اثنتين منها: اولاها التأكيد على اننا هنا! فنحن شعب لنا ماض وتاريخ عريق، لنا ارض وتراب ووطن، لنا آباؤنا واجدادنا، لنا بيتنا والعابنا، لنا مدارسنا وثقافتنا، لنا اعراسنا وفولكلورنا، لنا مواسمنا واعيادنا، ولنا حضارتنا وكياننا.. فلقد جاء هذا الكتاب صرخة مدوية في وجه كل من حاول ويحاول انكارنا ومحو وجودنا وانجازاتنا من على خارطة هذا الوطن الصغير الكبير، وقد جاء تحديا صريحا لكل من يحاول المراهنة على شعب يضرب جذوره عميقا في رحم الارض والتاريخ، ثم له اصوله وفروعه كالتين والزيتون كالزعتر كالسنديان.. ويخطىء من يظن غير ذلك.. والحقيقة هي ان اكثر ما خطر لي وانا اقرأ هذا الكتاب انه لم يوجه لهذه الاجيال الصاعدة الواعدة "ليكون عبرة للمستقبل تهتدي بها اجيالنا الناشئة" – كما ورد في المقدمة – فحسب، بل الى علماء الاجتماع، وعلماء النفس الاجتماعي، وعلماء الآثار والتاريخ والجغرافيا. فلقد راح الدكتور حبيب بولس ينبش بمعول علماء الآثار تاريخ ومعالم قرية هي كل قرانا، يحفر في بيوتها القديمة المبنية من الطين، ويفتش في ازقتها القديمة التي تحمل رائحة الآباء والأجداد، وفي ثقافتها وعاداتها وتقاليدها الحلوة الجميلة التي يجرفنا الحنين اليها في غمرة هذا "الزمن الرديء" زمن الانكسارات والتخاذل، زمن اللهاث والهرولة وراء السراب، زمن الغيبيات والاوهام، هذا الزمن المتعاهر الذي يلقاك الواحد فيه بوجه ابي ذر الغفاري وبقلب ابي جهل، هذا الزمن العاري من كل شيء الا من قدراتنا المشيأة، وبطولاتنا المتثائبة، وطموحاتنا المقموعة، زمن الخيبات والتراجع والتشرذم، زمن الجزر العربي عامة، هذا الزمن الهارب من تاريخنا الناصع والمتسرب من شقوق ماضينا النقي، زمن العولمة التي صرنا فيها سلعة استهلاكية لتفاهات ما كنا حتى في أسوأ احلامنا نتوقعها".
وغنيّ عن الذكر هنا ان الـ "قرويات" لا ترمي الى الهروب من واقع حياتنا والتقوقع داخل هذه الدائرة من الماضي، بل هي رسالة الى الشباب الصغار جاءت لتنفض الغبار عن لوحات جميلة رائعة كانت في حياتنا " كي يعرفوا انه اذا كنا قد اجتهدنا في الماضي لنوفر لهم حكاية كريمة مريحة، فهذا لا يعني ان يركنوا اليها، بل يعني ان يثابروا كما ثابرنا ليحققوا المزيد.
وجهت اليهم الحديث كي يتعلموا من الماضي، من تجاربنا الكثيرة التي تعمدنا فيها، وكذلك ليتعلموا من عثراتنا، فرغم تلك التجارب المرة القاسية، ورغم جحيم المقلاة، ما هُنّا يوما ولا اصابنا يأس، بل طحنّا كل الصخور والعقبات وجعلناها سلالم نتسلق عليها الى الاحسن".. من هنا، فان هذه اللوحات لا تهدف الى اجترار التاريخ والاحلام الكسولة والخرافات الخوالي، وانما كان الهدف واضحا – كما ورد في المقدمة – "نريد لكم التقحم بلا تهيب او تخوف، املنا بما كان، ولكن دون ان تكرسوه، بل لتجعلوه رافعة تقفزون منها الى ما نطمح له ان يكون".
اما القيمة الثانية التي كنت اود الوقوف عليها قليلا فهي هذا القاموس من الكلمات والمصطلحات القديمة الفولكلورية. وانت عندما تقرأ لغة الـ "قرويات" ترتسم امام ناظريك لوحات من الماضي الجميل بألوانها الاصلية القديمة، واذا كان المقام لا يتسع لذكر جميع هذه الكلمات والأسماء، فاني سأذكر على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في اللوحة الاولى" بيتنا المقنطر" : شعرية، سطيحة، طرّاحة، صوص ونقطة، شنكل، الزير، المنشل، الجرة، البوطة، الشربة، الطاسة، الرحى، الاسطبل، الطوالة، زاوية السفرة، المعزبة، السمندرة، المحماسة، الدلاية، المصب، طاحونة، الهال، القرنفل، السكرية، العبادية، مفرش، اليوك، السلخ، الجاعد، الكانون، مقعدة الشربة، السدة، خناصر، القاطع، خوابي، رشوية، الخلايا، نملية، الطيارة، الكلاّبة، شنطة، زنّار، حصينية، عصبة، ستان، ماء الزهر، مشاية، خفاف، شحبار، الدّست، الكشكول، المرباص، اطالة، القشنية، القدرة، المعجنة، السلطانية، الثمنية، الطبق، المخبزة، المنسفة، الالفية، قشّشية، تبان، روزنة‘ عودالحراث، الوصلة، السكة، الكابوسة، نير البقر، كدانة، اللجام، الرياح، القرطلة، القورة، الصبرية، القفير، السّريدة، المقاثي، المشتيل، الخرج، السّرج، المحسّة، الحشوشة، المنجل، صنارة الصبر، تنكة، حواشة، عكفة التين، شقشاقة، عبّاية، عرّاط، لكّت، النّصب، العمدان، الزيتون السوري، القهرماني، القطّيع، المليسي، الشامي، عين الديك، المنجل، الشعوب، اتت، غمارات، عورمة، الطرحة، لوح الدراس ، حوبلت، المذراة، الحلول، الكربال، قن الدجاج، جران الكبة، طواقي الحمام، الدوّارة..
وبعد، فان هذا غيض من فيض تلك الكلمات والاسماء التي تفوح بعطر الماضي، وقد حرص المؤلف كل الحرص على اعطاء تفسير لكل منها بطريقة ممتعة للغاية حين يدخلها في سياقها بانسياب طبيعي تلقائي دون تكلف او صنعة.. فاذا كانت اللوحة الواحدة تحمل بين طياتها اكثر من مئة وعشرين كلمة كهذه، فكم هو جدير هذا العمل بالقراءة قراءة متأنية والوقوف على كل كلمة او اسم او مصطلح اذ يمكن – كما اوردنا – عمل قاموس يحفظ لنا ثروة لغوية ذات قيمة خطيرة جدا، من جهة، ومن جهة اخرى وعند قراءتنا لهذا العمل تتراءى لنا – ولا شك – صورة واسعة جدا من تغير الحياة واختلافها وسرعتها خلال فترة قصيرة للغاية لا تتعدى خمسين سنة تقل او تزيد، ومعها كان تغير وتبدل اللغة. من هنا كانت اهمية استعمال هذا المزيج من اللغة والذي ينسجم انسجاما تاما وروح النص والمضمون، اذ ليست هي الحياة التي تتغير فحسب، وانما هي اللغة ايضا متغيرة بتغير الحياة وتبدلها، وبالتالي تتجسد هنا هذه العلاقة العضوية المتينة بين طرفي المعادلة.
وبعد،
هذه هي قرية حبيب بولس، هذه هي قرانا وعاداتنا وتقاليدنا، هذه هي العابنا ومدارسنا، هذه هي اعيادنا ومواسمنا، هذا هو تاريخنا الناصع، هذه هي جذورنا الضاربة في اعماق الارض ورحم التاريخ.. واللي مش عاجبو، يشرب من بحر غزة..
لا فض فوك أبا العبد..

(عرابة البطوف)


فريد نصار
الثلاثاء 6/7/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع