(القسم الاول)
الأدب العربي الفلسطيني المحلي

(ملاحظة: نص المحاضرة التي قدمها الكاتب في الجامعة الاردنية لأساتذة وطلاب كلية الآداب)

أ. في الشّعر
بداية: شرف كبير لي ان اكون اليوم بينكم في عمان. لذلك تلزمني الأمانة ان أتقدّم بالشكر الجزيل للدكتور عبد الرحمن شاهين، عميد كلية الآداب في الجامعة الاردنية، الذي احتضن وجودي ضيفا على الجامعة لمدة شهرين، وللدكتور صلاح جرّار الذي اتاح لي هذه الفرصة التاريخية، فرصة اللقاء بكم طلابا ودارسين ومهتمين. وفرصة اللقاء بأساتذة اجلّهم واقدّر جهدهم وعطاءهم ودفعهم للمسيرة الادبية والعلمية العربية.
وثانيا: تحتّم عليّ الموضوعية قبل البدء في الحديث، الالتزام بجملة من الامور، هي: اولا، ان ما سأقدمه اليوم من حديث حول الادب العربي الفلسطيني سيكون بعيدا عن الاستعراض المألوف في مثل هذه المقاربات، وذلك لسببين: الاول، ثقتي بأنكم تعرفون جيدا المسيرة الادبية وتأرختها فلسطينيا ومحليا، واسماء اعلامها. والثاني، دفعا للملل الناتج عن ذكر الاحصائيات والاسماء والتآليف والتصانيف والاقتباسات المكرورة.
تأسيسا على ما ذكر فإن هذه المقاربة السريعة ستحصر نفسها في طرح بعض القضايا الاساسية والمسائل الملحة الساخنة والحارقة في آن معا، التي تدور على الساحة الادبية، ومن ثم ستطمح وهي تسعى الى ذلك، الى تقديم انطباعات خاصة وتصورات للمستقبل.
اما الامر الثاني، فهو: ان هذه المقاربة وفي الوقت المخصص لها، ستتركز في الادب العربي الفلسطيني ضمن حدود (1948)، او ما اصطُلح على تسميته بالادب المحلي.
والامر الثالث الذي ارى الى ضرورة تحديده قبل البدء في الحديث، هو، ان هذه المقاربة وفي قسمها الاول ستُسيج نفسها ضمن مساءلتين اساسيتين، الواحدة منهما تنبع من خاصرة الاولى، وذلك كي لا ينفلت الحديث ويتشظّى مروحيا ليطال جوانب اخرى، هي ليست في صلب الموضوع اساسا. اما المساءلتان فهما:
ما هي الفلسفة او الدوافع التي كمنت وراء شعرنا العربي الفلسطيني في حدود (1948)؟، من جهة، ومن اخرى، اين يقف هذا الشعر اليوم من مجمل الحركة الشعرية العربية؟ وبالتالي من مشروع الحداثة؟ تستمد المساءلتان المذكورتان الشرعية من قلة الدراسات التي كتبت في هذا الخصوص. ولكن ونحن نقف عند هاتين المساءلتين يترتب علينا ان نشير الى ان شعرنا رغم ما فيه من خصوصية وفرادة فرضتهما عليه خصوصية وفرادة الظروف والمرحلة، هو في الاساس رافد من روافد النهر الادبي العربي الكبير، سواء في مده او في جزره، من هنا فهو يشترك رغم تميّزه في الكثير من السمات العامة والملامح مع الشعر العربي عامة.
وبعد،
ما هي اذن الفلسفة الكامنة وراء شعرنا العربي الفلسطيني؟ والى أي مدى استطاع شعرنا تحقيق متطلبات وجودنا فنيّا، والتعبير عن قضايانا بشكل فني؟ ولكن ونحن في غمرة البحث عن اجابة، يجب ان نسأل وهل للشعر بشكل عام فلسفة؟ وان وجدت فما هي الفلسفة التي تكمن وراء حركة الشعر العربي الحديث عامة؟
الاجابة عن مثل هذا السؤال تكمن في المقولة التالية: "لا شك ان كل عمل فني يفترض فلسفة مسبقة وخطة فكرية (واعية او لا واعية)، تؤدي الى انجاز هذا العمل وتحقيقه ابداعيا وفكريا. ولو افترضنا جدلا انبثاق بعض الاعمال الفنية عن عفوية وتجارب خاصة، ولو افترضنا جدلا مرة اخرى وجود (اللا معقول في الوجود)، فإن العمل الفنيّ – أي عمل فني يعكس ظروفا واوضاعا اجتماعية وسيكولوجية خاصة على اعتبار ان الوعي الانساني هو المقياس المطلق في الوجود. وان موقف اللاموقف (وهو موقف اللامبالاة تجاه العالم الخارجي) يفترض وعيا مسبقا بلا جدوى الوجود وعبثيّته، فهو موقف متفكر واع في انسياقه وراء اللاوعي وتسكّعه في دروب العدم والمطلق والفراغ.
اذا سلمنا بهذه المقولة، (وهي عندي صحيحة)، علينا ان نعود الى الوراء لنرى الى المستجدات التي طرأت على شعرنا العربي عامة والفلسطيني خاصة، لنقف على الفلسفة الكامنة وراء هذه المسيرة الشائكة الشائقة في آن معا خلال اكثر من خمسة عقود من الزمن، مع الملاحظة ان الشعر الفلسطيني لم يكن نبتا شيطانيا منّبتا عن مسيرة الشعر العربي رغم خصوصيته.
على الصعيد العربي، تميزت المرحلة بما يلي:
1. تململ فكري كان نتيجة لما بذره الرواد في المرحلة التي سبقت.
2. مدّ قومي عربي دعا الى العودة الى التراث والتشبث به كأمّة لها رصيدها الحضاري والتاريخي.
3. تململ اجتماعي ادى الى تغيّر الكثير من المفاهيم الاجتماعية.
4. تبع ذلك تململ ادبي واضح فقد واكبت حركة الشعر العربي الحديث تاريخيا ثورة شاملة في الذي ذكر، كان الشعر ايقاعا لها وتفجيرا لرموزها الحضارية والانسانية وتجليّا لحركة هذه الثورة وتناقضاتها واندفاعا للتحقق والاستمرار.
وكان نتيجة لما تقدم وعنصرا اوليا له، ثورة الشعر الحديث على الصعيد الشكلي حيث حطم الشعر القواعد التقليدية والقوالب الجاهزة للقصيدة العربية واستعاض عن البيت بالتفعيلة كوحدة اساسية في بناء القصيدة، وعن القافية الواحدة بعدد من القوافي. الامر الذي جعل القصيدة تتحرر من روتينية النغم وتنطلق مع التموّجات الايقاعية الهارمونية والتوزيع الموسيقي. ولم تقتصر الثورة على الشكل بل امتدت الى المضمون فتغيّرت موضوعات الشعر القديمة وتحولت الى افكار عصرية انسانية واقعية. تحوّلت من شعر يتسكع على السطح ويعاني الوجود من خارج الى محائية هذا الوجود والتزام بالواقع، فصار الشعر دمقراطيا يشخّص الهموم والاوجاع البشرية العامة، ويتناقل مشاكل القرن وامراضه الحضارية ومشكلات الانسان العربي عامة وواقعه المتحول وامكانياته في البعث والنضال لتحقيق واقع مستقبلي منشود.
الا ان هذه الثورة لم تلتزم اتجاها فكريا واحدا على صعيد المضمون مع انها التزمت اتجاها واحدا على صعيد الشكل. ومحصلة التجارب العديدة تشير الى عدد من الاتجاهات في هذا المضمار، اولها:
- الاتجاه الماركسي او الرومانسية الاشتراكية، او الواقعية الاشتراكية، ولا تهمنا التسمية هنا. وقد تميّز هذا الاتجاه بالتزامه التام والصريح بالواقع وبقضايا الشعب، واعتبر ان الوضع التعبيري هو الضرورة القصوى في المعركة الكبرى مع الاوهام والقدرية والافكار البرجوازية والوجودية. وقد اطلق "العقاد" على شعراء هذا الاتجاه اسم (الشعراء القرمزيون).
يمثل هذا الاتجاه: "بدر شاكر السيّاب" و "عبد الوهاب البياتي" وغيرهما.
اما الاتجاه الثاني، فهو الاتجاه الميتافيزيكي او الوجودي، او الفني او اللامعقول، او الفن للفن او الاتجاه الرمزي. وايضا التسمية هنا لا تهمنا. هذا الاتجاه تبنته مجلة "شعر" اللبنانية او الشعراء "التموزيّون" في بعضهم. وقد ألحّ على ضرورة معانقة الشعر للوجود وانفتاح التجربة الشعرية على معضلات العصر ولا معقوليته وعلى المطلق الذي لا يمكن تحقيقه الا بالاتجاه المباشر نحوه والحنين الأبدي اليه. وقد تفرّع عن هذا الاتجاه شعراء الفن للفن، الذين آمنوا بأن العالم غابة من الرموز والكلمات، لذلك قدّسوا عبقرية الكلمة الشعرية والجمال الشعري، ولذلك ايضا جعلوا الجمال المطلق والإستطيقا انطولوجيا جديدة حلّت محل اللا تناسق في العالم وتؤدي الى مواجهة الجذور الالهية في اعماق الذات. يمثل هذا الاتجاه "توفيق الصايغ"، و "يوسف الخال" و "سعيد عقل"، و "ادونيس"، وغيرهم.
والاتجاه الثالث والاخير، هو الاتجاه القومي العربي او الثوري وهو اتجاه يتميز بالاندفاع الحماسي الثائر المتجه نحو الجماهير والذي يتغنّى بالقضية العربية وامجادها القديمة وانتصاراتها الجديدة. وقد تفرّعت عنه مدرسة الشعر الحضاري التي تحررت من الغموض والسطحية وحاولت ان تكتب ملحمة حضارية للقضية العربية ذات رؤيا عصرية جديدة من خلال عبثية الحصار الذاتي ولا معقولية الوجود ككل دون الوقوع في التشاؤم والعبثية. وقد صور شعراء هذا الاتجاه المأساة العربية ككل وعكسوا في اشعارهم الواقع وصوروه تصويرا صادقا على انه صراع "سينريفيّ" حاد بين متطلبات الواقع الحضارية ورؤياه المستقبلية، وبين الواقع ذاته كتناقض وديناميكية وصيرورة. يمثل هذا الاتجاه "سليمان العيسى"، و "يوسف الخطيب" وغيرهما.
هذه هي الاتجاهات الثلاثة بفلسفاتها التي سيطرت على شعرنا العربي الحديث منذ انطلاقته عام الف وسبعمائه وسبعة واربعين. والسؤال الذي يرتفع الآن وماذا مع الشعر الفلسطيني الذي نحن بصدده؟
على صعيد الشعر العربي الفلسطيني المحلي الذي نحن بصدده وبالرغم من اشتراكه في العديد مما ذكر، الا انه يظل له تميّزه وفرادته. لذلك تميّزت المرحلة فلسطينيا في حدود (1948)، بما يلي:
1. حَيرة سياسية خلّفتها النكبة، تشريد/حكم عسكري/ مصادرة الارض/ انكسار اللجوء/ ذلّ العوَز/ الخوف/ الترقب.
2. تغيّر في البنية الاجتماعية بسبب هذه المستجدات، من مجتمع فلاحين الى اكثرية عاملة في السوق اليهودية.
3. محاولات متكررة لطمس ولتغييب الشخصية العربية والتراث العربي والهوية القومية.
4. تحوّل بالنسبة للموقف من المرأة. فقد فرض الوضع الجديد خروج المرأة الى العمل والى التعلم لكسب لقمة العيش.
5. لقد تبع ذلك حيرة في الادب، فبسبب الظروف انقسم ادباؤنا الى قسمين: قسم آثر الصمت فكسر قلمه وتقوقع، وآخر آثر التحدي، صمت فترة ثم لملم جراحه وعاد للكتابة وخاصة الى نظم الشعر. وهذا القسم الثاني انقسم ايضا الى قسمين: قسم دمج الخطاب السياسي التاريخي الايديولوجي مع الخطاب الفني الابداعي لضرورة المرحلة.
وقسم فصل بينهما مؤثرا الابتعاد عن السياسة واشكالاتها. الاول وجد المنبر اما التاني فأصاب ادبهم شيء من التعتيم.
من هنا نجد ان معظم ما نشر عندنا من شعر كان يحمل النبريّة والوعظيّة والنزعة التعليمية، الى جانب التوثيقية والتسجيلية، وذلك بسبب الذي ذكر آنفا.
هذه الوعظية استلزمت شعرا واضحا مباشرا خطابيا. وعندي ان أي ناقد او دارس لا يستطيع ان ينكر اليوم ما مرّ به شعرنا منذ النكبة. والشعر بطبيعته يتأثر بالظرف ويعكس المرحلة. منذ النكبة التي حلت بنا عشنا حصارا واستلابا ثقافيين مذهلين، بحيث ادى هذا الحصار الى ان يتخذ الشاعر موقعا وطنيا فوق موقعه الشعري، بمعنى انه ادى الى ان يكرّس الشعراء ادبهم في خدمة قضايا شعبنا وان كان ذلك على حساب قضية الادب وأدبيته، أي على حساب شعرية الشعر. من هنا سيطر نوع معيّن من الشعر على معظم انتاج شعرائنا، ونعني بهذا النوع شعر المقاومة. وشعر المقاومة هذا جمع الموقف والتعليم معا. والشعر في هذه الحالة التي بيّناها يتدفق ليثور وليثوّر، ولأنه كذلك يصير خطابيا مباشرا صريحا، صاحب مهمة وصفيّة قريبة من النثر.
الظروف اذن هي التي دفعت بمعظم شعرنا وشعرائنا الى اتخاذ موقف لا مهرب منه ولا حيدة عنه. الظروف هي التي وجهت شعرنا وشعراءنا تلك الوجهة التي نتحدث عنها وأملت عليه فلسفة خاصة فحتى هؤلاء الذين هربوا من المعركة وابتعدوا بشعرهم عنها بحجة الفنّية، نبذ شعرهم وابتعد عن القراء والناس لأنهم رأوا فيه تزييفا للمرحلة.
والسؤال الآن الا يجب على هذا الشعر وبعد قرابة نصف قرن من الزمان ان يبارح نثريته وخطابيته ووعظيته، وان ينطلق نحو التجديد، ليقترب نحو الحداثة، وليواكب تطور الشعر العربي عامة؟
في رأيي، ان الظروف التي احاطت بشعرنا قد تغيرت، من هنا فعلى هذا الشعر ان يغير نفسه وان يسعى نحو الشعر الجديد الحداثي. ومع تغيّر الظروف تغيرمفهوم الشعر وتغيرت غايته. فقد كان المفهوم السابق للشعر الذي شاع واحتل مرحلة زمنية طويلة، والذي عبر عنه الشاعر "الزّهاوي" بقوله:
"اذا الشعر لم يهززك عند سماعه    فليس خليقا ان يقال له شعر".
هذا المفهوم الذي شرحه "شوقي" بقوله:
"الشعر ان لم يكن ذكرى وعاطفة او حكمة فهو تقطيع وأوزان". بمعنى ان غاية الشعر هز الوجدان والعقل وطريقته الى ذلك الوزن والقافية وما يتبعهما. هذه الغائية قد تغيرت عربيا وعليها ان تتغير فلسطينيا ايضا لأن هذه النظرة للشعر بطبيعة الحال تجعل مهمته تعليمية اخبارية او وصفية كالنثر. ومع تنامي الوعي ومع دخول آليّات الثقافة الغربية التي حولت هذا المفهوم وهذه الغائية الى شيء آخر، ومن خلال تأثرنا بها ومع زوال المسبب ارى لزاما على شعرنا اليوم ان يتغير وان يفارق سلفيته ليصبح فنّا غايته التعبير الجميل عن الذات في لحظة الكشف والرؤيا، يخاطب العقل ولا يخضع لقوانين. غايته اختراق المألوف وتفتيق العادي الى الادهاش والشدهة. على هذا الشعر ان يسعى الى ترسيخ الضبابية والسرية كميزتين اساسيتين تثيران حك الذهن والتشويق والتحدي والمغامرة وحبّ الاستطلاع والكشف شريطة ألا تقود هذه السرية الى الغموض والتعمية. عليه ايضا ان يسعى الى كسر حدود اللغة وحواجزها وتحدّي الاساليب المتوارثة، عليه ان يستشرف ويتداعى وان يكون محمّلا بالحلم مثتملا على رؤيا. هذه الامور مجتمعة تحدد الشعر بآليات وعناصر بدأ شعرنا العربي عامة ومنذ اواسط الستينيات يدنو منها ويحاول الوصول اليها، بينما ظل شعرنا في معظمه يراوح مكانه. من هذه الآليات الترميز شريطة ألا يكون الرمز نبتاً شيطانيا منبتاً عن القصيدة او مستغلقا. بل عليه ان يكون نابعا عن ضرورات فنية.
والترميز يستلزم ان تتحول اللغة في الخطاب الشعري من التصريح الى التلميح، من الوضوح الى الايحائية، من الترهّل الى التكثيف. وهذا يقود الى التضمين، ذلك التضمين الذي بواسطته تكتسب القصيدة جدّتها وطرافتها. والتضمين بطبيعة الحال يستدعي تلاقي الاضداد الذي يعطي للقصيدة زخمها وتوتراتها، بحيث ترتفع معهما فوق مساق الكلام العادي. وهذه الامور تقود بالتالي الى صور تركيبية رامزة ليست بالمسطحة، والى لغة نابضة حيّة، ومفردات والفاظ منزاحة تؤدي الى ما وراء المعاني. وهذا معناه ان تكون الالفاظ بعيدة عن المباشرة بحيث تتجنب التقريرية من جهة، وان تخلو لغة القصيدة من الثرثرة والكلام الفائض واللغو من اخرى.
على شعرنا اليوم ان يسعى الى مظاهر ذات ديمومة وصيرورة كي يستطيع تحطيم العرض الايضاحي الايديولوجي المباشر ليصير تعبيرا عن التجربة الانسانية، كاسرا الرؤية الأفقية ليغوص في الاعماق معلنا فردية القصيدة وفرادتها وتميزها. هذا بالاضافة الى توظيف التراث بشكل ذكي تلميحي بحيث يوّلد هذا التراث تداعيات تضفي على القصيدة جوا ورونقا. كذلك توظيف لغة خلاّقة مؤثثة بمفردات تقول ما لم نتعوده منها.
ويضاف الى ذلك آلية التناص الذي يغني الخطاب الشعري ويؤكد على بعد رؤيته وعمق طروحاته. وتوظيف كل ذلك يستدعي ايضا الأسطرة شريطة ان تتفاعل الأسطرة مع ما تقوله القصيدة، لا ان تتحول الى عبء عليها.
ارتكازا على ما ذكر ينهض سؤال مفاده: اين شعرنا من كل ما ذكر؟ وهو سؤال مهم، لا بل الأهم في هذه المقاربة.
الاجابة عن مثل هذا السؤال تستلزم الصراحة من جهة، والحذر من اخرى. الصراحة لأننا نبغي من هذا الحديث توضيح مسألة مهمة تلحّ على واقع شعرنا ومستقبله، والحذر لأننا ونحن نتحدث عن حداثية شعرنا لا ننفي وجودها، بل نؤشر على قلّتها.
ان الاستقراء العميق والنظرة الفاحصة لمجمل شعرنا يشيان بأن هذا الشعر في معظمه ما زال يدور في خانة السلفية، والقليل من استطاع مع الزمن ان يرتفع الى المستوى المطلوب الذي يتلاءم مع ما ذكرناه سابقا.
والحقيقة تستوجب القول انه رغم كل ذلك استطاع عدد من شعرائنا ان يفلتوا من إسار النبرة التعليمية والمهمة الوصفية لينطلقوا الى الجديد. وهذا جهد يسجل لصالح هؤلاء الشعراء الذين على قلتهم استطاعوا بمهارة وبذكاء رغم ضرورة المرحلة التي بيّناها سابقا ان يطوروا قصيدتهم وادواتهم وحتى القصيدة المقاومة منها. وان يكسروا حواجزها وحدودها وان يقدموها بشكل جديد ارتفع عن المباشرة والتصريح والاخبارية والتسطيح، آفة هذا النوع من الشعر. لكن هؤلاء قلة كما ذكرت والحركات الشعرية لا تقاس بالأفذاذ او بالقلة. من هنا ارى الى انه رغم التطور الذي حصل فإن عددا كبيرا من شعرائنا ولغاية اليوم لم ينجحوا في كسر النبرة التعليمية الوصفية في قصائدهم لينطلقوا الى الشعر الجديد/ شعر هذه المرحلة. من هنا يستمد هذا الكلام شرعيته، ومن هنا ايضا نعود الى ما قلناه: ان معظم شعرنا ما زال يدور في خانة السلفية ومن هنا ثالثا نقول: على هذا الشعر اليوم وكي يكون صادقا وأمينا للمرحلة الجديدة ان يحاول الافلات من إسار الماضي وقيوده والاتجاه نحو الجديد/ نحو الحداثة ليلائم روح العصر.
على هذا الشعر اليوم ان ينطلق ليعانق الحداثة، ومعانقة الحداثة لا تعني بالضرورة ان يطلّق الشاعر تراثه الشعري ولا اساليبه القديمة المتوارثة، ولكنها تعني ان يستفيد منهما من ناحية، وأن يخترقهما من اخرى. وهذا لا يمنع فرادته ولا فرديته، اذ انهما لا توجدان الا ضمن هذين العبئين. وقي قدرة الشاعر و- هذا امتحانه – ان يتناول اللغة والطريقة المتوارثة وان يرغمهما على التفاعل كمعنى مع المعنى الفردي والفريد الذي جاءت به تجربته.
في تصوري ان على الشاعر اليوم ونظرا لتطور المرحلة ان يطور مجاله الانطولوجي لتتسع مضامينه ولتتلون افكاره ليصبح شموليا رحبا، عليه ان يكف عن الدوران على محور شيميّ واحد لينطلق الى رؤية شاملة للكون. عليه ان ينتشل شعره من التسكع على السطح ومعاناة الوجود من خارج، وان يحوله الى محائية هذا الوجود. عليه ان يعرف ان الشاعر الحق يرى الكون في حركته وفي حيويته، ويرى فيه ما تحجبه عنه الألفة والعادة. فالشاعر الشاعر هو الذي يكشف العالم المخبوء كما ويكشف علائق خفية ويستعمل لغة ومجموعة من التداعيات الملائمة للتعبير عن ذلك. بالاضافة الى الآليات التي ذكرت سابقا.
وبالتالي، هكذا فقط نستطيع انتشال قصيدتنا الفلسطينية المحلية من الرتابة والمباشرة ومن الخطابية والاخبارية والوصفية والنثرية والنبرة التعليمية.
هذا هو ما اراه وهو قابل للتحقق، وقد بدأنا نرى بعض الثمار في شعر الشباب، الذي عنه ستكون لنا وقفة اخرى.
استمدت هذه المحاضرة مادتها العلمية ومرجعيتها من المراجع التالية:
1. احسان عباس (1992): اتجاهات الشعر العربي المعاصر. دار الشروق، طـ 2، بيروت.
2. ادونيس (1978): زمن الشعر، دار العودة، طـ 2، بيروت.
3. يوسف الخال (1978): الحداثة في الشعر، دار الطليعة، بيروت.
4. ميخائيل امطانيوس. (1968): دراسات في الشعر العربي الحديث، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.
5. نازك الملائكة (د.ت): قضايا الشعر العربي المعاصر، مكتبة النهضة، بيروت.
6. يمنى العيد (1987): في القول الشعري، دار توبقال، الدار البيضاء.
7. فهد ابو خضرة (1989): دراسات في الشعر والعروض، مكتبة الجيل، كفر ياسيف.
8. عبد الواحد لؤلؤة (1990): منازل القمر، دار رياض الريّس، لندن.
9. صلاح فضل. (1995): اساليب الشعرية المعاصرة، الآداب، بيروت.
10. حبيب بولس (1997): قضايا ومواقف ادبية، المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب، الناصرة.
11.  عبد القادر الرباعي (1999): جماليات المعنى الشعري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

- يتبع القسم الثاني –


د. حبيب بولس
السبت 26/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع