إحتفاء


(بدعوة من مؤسسة الاسوار العكية جرى يوم الاربعاء 16-6-2004 , لقاء احتفائي بالكاتب  محمد علي طه بمناسبة حصوله على الدكتوراة الفخرية من احدى جامعات رومانيا وبمناسبة صدور روايته " سيرة بني بلوط" ومجموعته القصصية "بير الصفا"  عن دار الشروق في عمان وقد القى عدد من اصدقاء الكاتب كلمات في هذا الاحتفاء  تشرفت في   ان اكون احدهم )

الشاعر قادر على كسر فعل المطر المجزوم  ...... حتى ولو بالجزمة

ما أنت والوعد الذي تعدينني
          إلا كبارق سحابة لم تمطر

رغم ولهي بالشعر فإنني غير قادر على كسر الفعل المجزوم، فإنني بالكاد أستطيع أن أقارع الزمن المأزوم بحديث الموقف والسياسة ...
 حتى إذا ادّعوا أنني اضطررت أن أهدد عنصري بذيء أراد أن يضعنا على حافلات موديل 2004 بأن أضع جزمتي في فيه.... فإن ذلك لا يدخل في محافل الأدب التي أزجّ  فيها من حين إلى آخر.. فأقف على طبلية لأبدو في قامة معقولة بين جهابذة الإبداع لأقول كلاما عن الأدب في سياقه السياسي أو عن السياسة في سياقها الأدبي.
وبلغة العصر ( الإستهلاكي) فلست سوى مستهلك للأدب ومستهلكاً فيه.

                                     ما أنت والوعد الذي تعدينني
                                                                 إلا كبارق سحابة لم تمطر

 اما هذه الإستعارة فأنها ليست لأغراض الهوى وإنما هي الجواب المبكر على الوعد المتأخّر الذي أسبغه علينا إبن البروة اللاجئ ،مثلنا يا أبا علي الا أنه مرتحل مرتين:

ولأن العاصفة وعدتني بنبيذ
وبأنخاب جديدة
وبأقواس قزح

ولكن السؤال المدوي الذي يطرح ذاته :هل تجوز استعارة الخذلان من الهوى لأغراض الخيبة من المناخ وأحوال الطقس ومن الأنظمة؟

هذه المازوكية لا يتقنها إلا فلسطيني مدمن على أنخاب افتراضية وعلى أقواس قزح صباحية لم تمطرِ .... لم تمطرْ.

هكذا كانت حالي عندما كنت هائما على وجهي - أرى ولا أرى - في كروم اللوز في "كوبر"  أراقب حسين البرغوثي طافقا على وجهه في البراري جذلا بخبر إصابته بالسرطان - لأن بلاء أهون من بلاء – فالسرطان ألطف من فضيحة الإصابة بالإيدز ...
 ما هذا الفلسطيني ... ما هذه الحالة الفلسطينية؟

لذلك هل يجوز التهذيب في زمن سفيه أقلّ السفاهة وأكثر التسامح فيه أن يِدعى أبو علي إلى ميعار المستباحة والمستوطنة ليلقي مداخلة عن التراث الفلسطيني للقاطنين الجدد عند حافة ما كان البئر بمحاذاة ما كان قاع الدار.
وهل يجوز تهذيبنا في سفاهتهم؟ نعم يجوز تهذيبنا فينا .... وتجوز جزمتنا في سفاهتهم..
ونحن الآن في محفل التهذيب والقيام بالواجب في محفل العزة والإعتزاز والحب والمحبة لأخينا الكبير أبو علي ... محمد علي طه ... ألميعاري ... ألكاتب الجميل اللاذع الساخر الحادّ المتزن... الفلسطيني .. الفلسطيني خيّال الحصان,يكتب بدم قلمه .. وبمرارة سخريته وخفّه ظله...
 وما أنا بناقد
لقد بلغ البلاغة في بساطة الكلام ليبلّغ البلاغ الفلسطيني في عجن مواد اللغة الأولية بمهارة البناء الحاذق وبرشاقة المهر الشقيّ ممهمورة بلمسات الحكماء وعمقها.
يبكي ورائحة النكبة تلازمه.... يسخر ويزخر ويزأر وشبح النكبة يلازمه...

أُخرجنا من ميعار مرة .... ذات مرة خرجنا من هنا
أُخرجنا من صفّورية مرة ... ذات مرة خرجنا من هنا
أُخرجنا من البروة والبصة والحدثة وعمقا والرويس والدامون واخواتهنّ مرة ... ذات مرة خرجنا من هنا
الآن يتشكّل حلمنا وهمنا ومشروعنا في ان نبقى بهذا " الهُنا " ولا هَنا فيها
 الآن نحمل حلمنا- صليبنا وهمنا ومشروعنا في وجه حافلات موديل  2004  كي لا نكون هناك ... ونعيد نبض الحياة القاتل إلى برنامج " سلاماً وتحية ".
فالموضوع ليس مجرد " حكاية إبريق الزيت " ولا حاجة لتكرار السؤال : حكيتها ولاّ ما حكيتها حكاية إبريق الزيت.

رأينا الذي حلّ بالذين أخرجوا من هنا إلى هناك... ينتظرون حلاً
رأينا الذي حلّ بالذين أخرجوا من هنا إلى هنا ... يصنعون حلاً ----

نارك هنا ولا جنة اهلي هناك.

وما زال أبو علي واقفا على " الجسر على النهر الحزين " يسبر غور الأغوار ليطل على أبناء شعبه عبر الاردن الذين يهتفون  للعودة إلى "هُـنانا" بدم قلوبهم.
 
نارك يا فلسطين هنا ولا جنة اهلي هناك

لقد  حلّت النكبة في أجمل الفصول، في ربيع الورد وفي التفتح وفي بدايات النضوج وفي اكتناز الثمر والصبايا...
فكأني في جنازة شاب اعزب .. نزفّه.... نغني له أغاني العرس كما في كل الاعراس ونبكيه .. كما في نحيب كل المآتم..

يقول أبو علي في فصول " الجرة " بعد وصول الأخبار عن سقوط حيفا في نيسان 1948:

" وصلنا إلى رأس البير " في الجهة الشرقية من البلدة فأمرني والدي أن أترجّل وترجّل مباشرة بعدي وأنزل الخرج عن ظهر الحمار وتركه يرعى.
كان الطقس ربيعيا وأشعّة الشمس الدافئة تتراقص على خدود الأزهار المتعددة الألوان مثل فساتين النساء يوم العرس... كانت حبيبات الندى تلمع على العشب الأخضر وبدت أراضي هضبة " رأس البير " التي تقسّمها السلاسل الحجرية مثل سجادة خضراء مزركشة بشقائق النعمان والصفّير والأقحوان وعيون البقرة وأزهار بريّة أخرى لم أكن أعرف أسماءها يومئذ، فيما كانت أشجار التين وشجيرات الكرمة التي تعمشقت على السلاسل قد أورقت، والفراشات الملونة ترقص في الفضاء وأسراب النحل تنتقل من زهرة إلى أخرى تمتصّ الرحيق العذب  والعصافير تزقزق فرحة : البلبل والشحرور واللامي والحلاج والزرعي.
الطبيعة لا تعرف الحزن ولا يساورها القلق ولا يداهمها الرعب.
عاين أبي الموقع بدقة .. وقف بجوار شجيرة البطم وفحص المكان بعينيه السوداوتين الصغيرتين مثل عيني النسر.. وبدأ يحفر في الأرض ويزيل التراب البني براحتيه وأصابعه الغليظة.. بعد أن حفر حفرة عمقها حوالي نصف المتر، أما طولها وعرضها أقل من ذلك.. إتّجه إلى الخرج ثانية وتناول الجرة الزرقاء بيده اليمنى ومشى ثم وضعها في الحفرة وأهال عليها التراب حتى دفنها وسوّى الأرض ووضع عليها العشب وتمتم بضع كلمات لم أفهمها " .
حدّثني والدي الحاج أبو محمد امدّ الله في عمره كما حدّثتني والدتي الحاجة أم محمد رحمها الله أن غلّة الموسم في أيام سنة النكبة وقبيل سقوط صفّورية كانت غلّة وافرة عامرة لم يحدث مثلها.
لست أدري إذا كان التوصيف دقيقاً حيث أكّدا لي ان الكثير من الخير بقي على أمه بسبب الحرب والهجيج
 سألت نفسي منذ زمن ودون عتاب .. كيف تمكنتم من رؤية خير الموسم في عتمة النكبة؟؟
وكيف رأيت يا أبا علي عيون البقرة وشقائق النعمان على السجادة الخضراء في ميعار في اكفهرار الزمن الفلسطيني وفي انجلاء الكفر بالزمن والعدالة؟
كيف استطعت ان تلازم كل هذا الجمال لمناخ النكبة ؟
لعلّني أعرف جوابا ما : إن خير الموسم وعيون البقرة وشقائق النعمان ليست مجرّد تضاريس للوطن الفلسطيني إنما هي جلد الفلسطيني، والفلسطيني - كما البشر- لا يخرج من جلده ولانه كذلك فهو سيخرج من نكبته..
               حديث لاجئين...؟؟؟

فليكن.. ولكن هذا ما سيكون.

اليوم شارون يقرأنا السلام .. والعرب يبحثون عن مقعد مضمون في مركب شارون الذي يشق عباب الدم الفلسطيني من قبية إلى دير ياسين إلى اللد إلى صبرا وشاتيلا إلى رفح وإلى جدار القدس ( وجدار القدس ليس هو سور القدس كما تعلمون ) وجدار الرام وجدار سلفيت وجدار طولكرم وجدار جنين وجدار الخليل وجدار الصمت العربي .. عفواً.. جدار الصمم العربي ... عفواً .. جدار الصدأ العربي.

يا ببور.... يا ببور
إمك حية
وأبوك دبور

هكذا قال الأولاد في " الديناصور " للولد الغريب .. وأبو غريب هو مكان رأينا فيه اللحم العراقي في سوق النخاسة الأمريكي... ولن ننسى ولن نغفر

قلوبنا ثقيلة ... نبضنا ثقيل
لكننا لن نخرج من جلدنا

" ويكون الزمن الآتي " عيون البقرة وشقائق النعمان
و"وردة لعيني حفيظة" ولأبي علي خيّال الحصان.


بقلم:محمد بركة
الثلاثاء 22/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع