ربيعيات (10)
<رُجوعيّات> (3)

ان اول من طرح صيغة "شعر المقاومة" في وصف ادبنا الفلسطيني الكاتب الفلسطيني ابن عكا غسان كنفاني "فارس التحرير بالكلمة"، في اواسط الستينيات ففتح امام القراء العرب والكتاب العرب بمن فيهم الفلسطينيون، أُفقا جديدا كاملا وأغنى روح المقاومة في شعرنا، وانعكاسا لروح المقاومة الوطنية في شعبنا. وبعد حزيران سنة 1967 وبعد اشتعال المقاومة الوطنية وبعد سُطوع الدور القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والأثر الفعّال لعمليات المقاومة، صار شعر المقاومة يطوّر نفسه مضمونا وفنا، لكي يكون له شرف إلهام المقاومة ورفع شأنها.

وكانت هناك حاجة الى من يرفع القلم ويستنهض الهمم للدفاع عن بقائنا في الوطن والعيش فيه بكرامة، واول من تنادى قيادة الحزب الشيوعي في البلاد امثال اميل توما وتوفيق طوبي واميل حبيبي وغيرهم، الى المبادرة ايضا للمقاومة الثقافي والفكرية الى جانب المقاومة الفلسطينية الوطنية السياسية، ومن هذا المنطلق صدرت مجلة "الجديد" و "الغد"، اللتان خرّجتا الى النور الاصوات الشعرية الحقيقية، وافضل النماذج الادبية، الشعرية والقصصية والروائية. في مدرستهما تعلم الكتاب والشعراء الشباب الكرامة الوطنية، والعطش للتطور الثقافية والتعبير الصادق عن روح شعبنا الثائرة الصامدة. لماذا الشيوعيون؟ لأنهم وحدهم الذين وقفوا امام الهزيمة وتحدوها. وهم الذين انقذوا الشعر العربي عامة والفلسطيني خاصة من روح الهزيمة والبكاء والندب والنواح وهذا ليس غريبا. وهذه حقيقة تاريخية لا يستطيع احد انكارها!.
وكان الالتزام الوطني هو المعبد المقدس "للجديد" الذي يتطهر فيه اي مبدع كتب على صفحاتها. وما من اسم لمع في سماء الادب والثقافة في سماء الوطن الغالي الا وارتبط "بالجديد" و "الغد" وبصحيفة "الاتحاد"، وتنجح "الجديد" (التي نأمل عودة صدورها عاجلا وبسرعة) في طرح شعار المقاومة الشاملة ادبيا وفكريا وفنيا وروحيا، وأفشلت كل محاولات السلطة الحاكمة الظالمة من اغتصاب روح جماهيرنا واغتصاب افقها بعد ان اغتصبت ارضها. فميزات ادب المقاومة كثيرة: انه ادب المعاناة اليومية، والمواجهة اليومية مع العدو القومي. والانتصار على الغربة في الوطن رغم المصادرات وقانون الحاضر غائب، والاقامات الجبرية، ادب مقاومة التشريد والقلع من الجذور وشرعنة الابادة والقتل والسجن والسحق لكل ما هو عربي فلسطيني – ادب الوحدة الخالصة الطاهرة بين القول والفعل فحياة شعراء المقاومة هي قصائدهم، وادب المقاومة يحمل الهموم اليومية ايضا، البطالة، والفقر والحب، والعائلة، وعيون الجواسيس، ولأن الثوري متفائل دائما وأبدا لأنه يستند الى فهم قوانين التطور من ناحية والى استيعاب تجربة الفعل الثوري عالميا من ناحية اخرى، لذا استند هذا الادب على التفاؤل الثوري والفهم الواعي للقضية كما جاء على لسان الشاعر الفلسطيني ابن الناصرة سالم جبران:
" أنا لست ابكي
ولن تجدوا في نشيدي
ولو ظلّ لحن حزين
عرفتُ المنافي
عرفت السجون
عرفت الضياع الذي صار اسطورة
للعذاب،
عرفت الخيامَ
عرفت حياة اذا عرفتها
ستقرف منها المنون!
أنا لست ابكي
فابشعُ مِن كل ما كان
ليس يكون."
وبقي هذا الادب ادب الطليعة الثورية، وادب العمال، حيث كانت صرخة محمود درويش "سجل انا عربي" زوادة العمال وهم يذهبون للعمل في المصانع والورش والمزارع في الكيبوتسات والمدن اليهودية:
سجّل!
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
واطفالي ثمانية
وتاسعُهم.. سيأتي بعد صيف!
فهل تغضب؟
سجل
أنا عربي
سلبت كروم اجدادي
وارضا كنت افلحها
انا وجميع اولادي
ولم تترك لنا.. ولكل احفادي
سوى هذي الصخور..
فهل ستأخذها
حكومتكم.. كما قيلا!؟
إذن!
سجل.. برأس الصفحة الاولى
انا لا اكره الناس
ولا اسطو على احد
ولكني.. اذا ما جُعت
آكل لحم مغتصبي
حذارِ... حذارِ... من جوعي
ومن غضبي.
(محمود درويش: قصيدة بطاقة هوية الديوان "اوراق الزيتون" ص 73)

حتى اصبحت قصائده خطابيّات "الشّعر المقاوم".
وكان ادب المقاومة وما زال ادب الانسانية الخالصة النظيفة الخالية من الشوفينية، رغم غطرسة المنتصر الغازي المحتل، ورغم القهر. والسجون وهدم البيوت..
أنا لم اكره يهوديا،
فكره الشعب لم يدخل عروقي
ويدي ممدودة للشعب، للعمال،
هم صحبي واخوان طريقي
انما اكره، كُره الحر،
حكما جائرا نشّف ريقي
انا لم اكره يهوديا،
فكره الشعب لم يدخل دمي
ان يكن حكامه اغتصبوا شعبي وأرضي
فأنا
دائما اوقفت للشعبين،
حتى النصر
قلبي وفمي
(توفيق زياد: قصيدة عن العليق والسنديان "ديوان سجناء الحرية وقصائد ممنوعة ص 74).
واستطاع هذا الشعب المناضل بفرسان كلمته وخطابه الاممي الانساني مفتوحا على الآداب الاخرى الثورية العالمية الانسانية وخاصة من اشعار المقاومة السوفييتية والفرنسية والاسبانية، حيث كان الأثر بارزا لشعراء كبار امثال ناظم حكمت، ولوركا وبرخت وبابلو نيرودا وأراغون وماياكوفسكي. ورغم فتح الغزاة والمغتصبين الالم على شعب الآلام والمآسي العظيمة، فتح خطباء الثورة والمقاومة نارهم الشعرية على محاولته لقمعهم "وكبّهم" وراء الحدود ومحاولاته لتيئيسهم فانتفضوا كالعنقاء من بين رماد الحرائق وصاحوا بصوت نبوي مع سميح القاسم: "في الخامس من حزيران ولدنا من جديد".
او مع توفيق زياد:
نحن ما ضعنا ولكن
من جديد
قد سبكنا..
او مع سالم جبران:
هزي من الاعماق، يا عاصفة الهزيمة
عالمنا الشائخ
فليدمر الاعصار كل التحف القديمة
ناسا وافكارا،
ليحرق لهب الثورة كل ارضنا
كي لا تحاك من جديد، فوقها مهزلة
كي لا تعاد من جديد، فوقها جريمة
عملاق هذا العصر، هُبّ
اطلع النصر
فكل السابقين اطلعوا الهزيمة
فكان هذا الرد – رد الفعل الانساني والحضاري الثوري الاصيل!
لذا ملأت هذه الوقفات "الصرخات" الدنيا وأشغلت الناس، واخترقت الحصار الثقافي واستطاعت ان تطرق كل عواصم الدنيا مترجمة ونشرت في صحافتها ومجلاتها الادبية.
والقيمة نبعت من ثورية قضيته العادلة وانسانيته وقيمته الفنية العالية.
ورائحة البُنّ جغرافيا
ورائحة البن يدْ
ورائحة البن صوت ينادي.. ويأخذ..
رائحة البن صوت ومئذنة (ذات يوم تعود)
ورائحة البن ناي تزغرد فيه مياه المزاريب. ينكمش
الماء يوما ويبقى الصدى.
لماذا سيبقى الصدى ولن يُفتح لنا باب العودة.. العتيد..
وفي ليلة من ليالي الربيع الدفيئة
مش ذاهل الخطو تحت النجوم المضيئة
ومرت على وجهه وهو يحلم نسمة
مُضمّخة بشذى البرتقال تعطّر حلمه
وكانت كهمس تحجّب مصدره وأستتر
كهمسٍِ من الغيب وافاه يحمل صوت القدر
(فدوى طوقان: نداء الارض)

لماذا سيبقى الصدى ونبقى نحِنُ.. ونحنُ..
يا دار آن العود بعد زمان
يا دار قد قضّ البعاد كياني
"سبعة عشرة" وحثايا القلب ذابلة
فيم البعاد.. وهذا البعد اضناني
يا ارض ضاق العيش حين يهزني
حب الديار بكرة الازمان
لا لست ارض غربة بكرامة
ما الفجر الا في ربى اوطاني
وطني المحبب ما حييت فانني
اشتاق رؤية حسنه الفتان
ولئن حييت فسوف افديه بما
في القلب.. في الاحشاء.. من خفقان
(حنين لاجئ للشاعر المقدسي جميل دحلان)

لماذا سيبقى الصدى لأن..
العار للجبناء
للمتفرجين
العار للخطباء من شرفاتهم
للزاعمين
للخادعين شعوبهم
للبائعين
فكلوا، فهذا آخر الاعياد، لحمي
واشربوا، يا خائنون!
(الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي: من قصيدة العرب اللاجئون)

وهل سنبقى..
اصدقائي
سوف نبقى مثلما نحن غباء وصراخا
"عائدون"
والطغاة والغاصبون
يصنعون الموت صنعا، يصنعون
أفندري يصنعون
لن تميد الارض يوما بالطغاة
لن يموتوا بالوباء
لن يجوعوا
لن يجوع الزارعون الحاصدون العاملون
في الحقول الأبديات الربيع
في حقول البرتقال
(الشاعر الليبي علي الفزاني)
مع اننا عرفنا حتى الآن السبب وسنعرف اسبابا اخرى..
دعني من الاحلام يا صاحبي
وأمل العودة للدار
ما دام يرعى امرنا قادة
تعشق قيد الذّل والعارِ
(الشاعر الاردني عيسى الناعوري قصيدة "ثورة روح")

وسنبقى نحن وحدنا حتى الآن.. في غمار الزمن العربي الحامض الرديء.. وحدنا نحمل خطابنا وشعرنا الذي هو ايضا سلاح الشعب الذي طوى اضلاعه على الرغبة في التحرر واقامة دولته الفلسطينية في مواجهة محتل عدو للثقافة وللانسانية لا يرعوي عن ارتكاب أبشع الموبقات من جرائم القتل والتعذيب واقفال الجامعات والاعتقالات ونسف البيوت وقتل البشر والشجر والحجر.
ان انتصار شعب هذا شعره هو ضرورة حتمية وصدق ابو سلمى:
ايها الباكي وهل يجدي البكا
بعدما اصبحت في كل مهب
كفكف الدمع وسر في أفق
حافل بالامل الضاحك رحب
ننثر الأنجم في موكبه
موكب الحرية الحمراء يصبي
يا أخي ما ضاع منا وطن
خالد نحمله في كل قلب
نعم.. لن يضيع وطننا. وسنجيئك يا بلادي..
يا بلادي نجيئك أسرى وقتلى
وسرحان كان اسير الحروب، وكان أسير السلام
على حائط السّبي يقرأ انباء ثورته خلف ساق مغنّية
والحياة طبيعية، والخضار مهرّبة من جباه العبيد
الى الخطباء. وما الفرق بين الحجارة والشهداء؟
وسرحان كان طعام الحروب، وكان طعام السلام
على حائط السّبي تعرض جثته للمزاد. وفي المهجر
العربي يقولون: ما الفرق بين الغزاة وبين الطغاة؟
وسرحان كان قتيل الحروب، وكان قتيل السلام
على حائط السبي يصطدم العلم الوطني باحذية الحرس
الملكي. وحربك حربان. حربك حربان..
سرحان! لا شيء يبقى، ولا شيء يمضي! اغتربت..
لجأت.. عرفت.. ولست شريدا ولست شهيدا
خيامك طارت شرارة.
وسيعود النسر خفّاق الجناح فوق الربى الخضراء التي تعشقنا وترانا كل صباح من بعيد، ونراها مزروعة في قلوبنا في شراييننا.
سوف نرى ذاك الصباح!
رغم غصة الحزن واليأس.. وضياع سنوات الغضب والثأر الضائع المغتصب، وحدنا بكينا وحدنا سنحول نواحنا وحزننا الى فرح آت صاف كماء ينابيعنا، وكل الذي انشدناه سيتحول الى "الياذة" و "شهنامة" وملحمة الدنيا الباقية الى ابد الآبدين.
- انتهى -

(والى اللقاء)


يوسف حيدر
السبت 19/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع