الصهيونية كحركة كولونيالية(*)


*لقد ميّز التوجه الكولونيالي، بالأساس، أبناء الطبقة الوسطى المغتنية، بدوافع اقتصادية، والشرائح المثقفة المتعلمة، بدوافع استعلائية صرفة على الشعوب الاخرى، "البربرية" على حد تعبيرهم*

ما كان يعتبر قبل بضعة أعوام على حدود الكفر والخيانة، أصبح اليوم مثيرًا وذا معنى، وليس في أوساط جمهور الباحثين وحسب. الحديث يدور حول التشابه بين الصهيونية والكولونيالية.
سنركّز هنا على الشخصية الأكثر حيويةً في الحركة الصهيونية، والتي يحيون هذه السنة الذكرى المئوية لرحليها، أقصد ثيودور بنيامين زئيف هرتسل. صحيح أن الصهيونية انقسمت إلى عدة تيارات، لكلٍ منها توجهات مختلفة بشأن حل المشكلة اليهودية، وأن عدد قادة كل تيار والتيارات مجتمعة كثر - رغم هذا ثمة قاسم مشترك يجمع كل التيارات، ظاهريًا أو باطنيًا، جزئيًا، تفسيريًا. والقصد يعود الى العناق بين الصهيونية والكولونيالية. فالقادة الصهاينة المختلفون، سواء في غرب أوروبا أو شرقها أو وسطها، نشأوا في الدول التي ازدهر فيها - بهذا القدر أو ذاك - التوجه الكولونيالي، لدرجة ظهور انشغال أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر بتثبيت أكثر ما يمكن من أعلام احتلالية على أكثر ما يمكن من المناطق والأراضي في قارتي آسيا وأفريقيا.

لقد ميّز التوجه الكولونيالي، بالأساس، أبناء الطبقة الوسطى المغتنية، بدوافع اقتصادية، والشرائح المثقفة المتعلمة، بدوافع استعلائية صرفة على الشعوب الاخرى، "البربرية" على حد تعبيرهم. ويحتسب هرتسل ونوردو ورفاقهم على هذه الطبقة الإجتماعية الإقتصادية والثقافية، وعليه فقد طوروا – بوعي أو بغير وعي – توجهات مؤيدة للكولونيالية. وعلى سبيل المثال كان منطلق هرتسل ان الشرق الأوسط موجود في صراع كولونيالي بين القوى العظمى المختلفة، لذا يتجوب إقناع هذه القوى بدعم فكرة التجدد القومي خاصته على أساس اللعبة الكولونيالية.

أي أننا، اليهود، سنخدم مصالحك الإحتلالية، أيتها القوة العظمى الأوروبية العزيزة، ونحن معنيون بالمقابل بمساندتك. إن هذا التوجه، المؤسس - سواء بشكل واعي أو بغيره – على الميول الكولونيالية الأوروبية، تغلغل في نهاية المطاف في اوساط القادة الصهاينة، الذيت تعاملوا مع أرض اسرائيل على أنها منطقة بربرية متخلّفة، بحيث ان الهجرات الصهيوينة فقط هي التي ستقوى على تربية المحليين المتخلّفين، الذين سيظلوا ممتنّين على هذا الى الأبد..

سنختبر بشكل مقتضب مواقف هرتسل المؤيدة للكولونيالية، كما انعكست في مؤلّفيه "دولة اليهود" (1896) و"التنويلند" (1901-1902). أولاً – يدّعي هرتسل إن ليس لدى الشعب اليهودي البسيط أي فهم تاريخي على الإطلاق، وهو غير قادر على ذلك أيضًا.
 ثانيًا – "إذا أردنا تأسيس بلاد اليوم، فمن الممنوع ان نقوم بذلك بنفس المنظومة الوحيدة التي كانت قبل 1000 سنة. العودة الى الدرجات الحضارية القديمة خطيئة... حين نريد تشييد المباني، لا نغرس الطوّالات على ضفة البحيرة". إذا أخذنا هذه الجملة كما هي، يمكننا وضع هرتسل بسهولة الى جانب أحد المنظرين الأيديولوجيين الكولونياليين البريطانيين أو الإيطاليين، الذين تعاملوا مع الشعوب الأخرى باستعلاء واضح. لقد عرّفوا الشعوب على انها بربرية وبدائية.
 ثالثًا – الدولة الصهيونية التي ستقام ستكون مفخرةً للشرق الأوسط برمّته، و"بمجرد تأسيسها.. ستستفيد البلاد المجاورة، ذلك إنه في كبائر الأمور وصغائرها سترفع حضارة البلاد قيمة البيئة كلها". إنه نوعًا ما "حلم يوسف" بصيغة حديثة تقطر استعلاءًا طبقيًا منفّرًا.
 رابعًا – وإذا كانت الإقتباسات أعلاه تلمّح فقط، فإن هرتسل يقول جليًا: "بالنسبة لأوروبا، قد نشكّل نحن هناك (في "فلشتينه") جزء من السور الواقي (ألا يقشعر هذا الأبدان؟) أمام آسيا (البدائية – ي.ش). قد نكون الحرس الرائد للحضارة ضد البربرية.
 خامسًا – ولعلها إحدى أبرز وأنذل ذروات مؤلَّفه، وكما نلحظ لدى كتّاب صهاينة آخرين، ثمة تجاهل مطلق للسكان المحليين في البلاد العتيدة.

الحقيقة هي أن هرتسل تخبّط حقًا بين الأرجنتين وفلسطين، وقد أسهب بهذا الصدد في كتابه الآنف ذكره "دولة اليهود"، وعلى أية حال ليس هناك أي ذكر للسكان الأصليين في أمريكا اللاتينية من ناحية أو العرب الفلسطينيين من الناحية الأخرى. هذا التجاهل يميّز الحقبة الكولونيالية بشكل كبير، ويبرز في كتابات مثقفين أوروبيين متنوّعين.
أي أن المحليين غير مذكورين، تمامًا كما ان الحيوانات والدواب المختلفة لا تذكر في الكتابات الأوروبية.
سادسًا – نظام الدولة العتيدة لن يكون دمقراطيًا، بل جمهوريًا أرستقراطيًا. "السياسة الدمقراطية تخلو من الإستقامة بسبب طبيعة بني البشر وطابعهم"، هكذا يشرح هرتسل تحفّظه من الدمقراطية بحد ذاتها، ويعانق بقوة التوجه الأرستقراطي للعائلات التي تتم تربيتها لتحكم وتقود.

في كتابه الثاني "التنويلند"، وهو مؤلَّف خيالي أوتوبي، لكنه يعكس رؤية ورؤيا هرتسل بوضوح حول كيف ستكون الدولة في غضون بضع سنوات، ثمة فارق بارز جدًا، مقارنةً بكتابه الأول، وهو حضور العرب في البلاد. يعود هذا الفارق الى الحقيقة البسيطة الكامنة في زيارة هرتسل الى فلسطين مرتين وعدم قدرته على تجاهل المحليين. إلا إنه يصفهم بالبسطاء، بعضهم مهمَلين وقذرين، يفتقرون الى التربية والتعليم. بعضهم تطوّر وتقدّم، ولماذا؟ بسبب التأثيرات الإيجابية للهجرات الصهيوينة التي طوّرت مرافق العمل في البلاد مهنيًا وتَقنيًا وتنظيميًا. في كتابه هذا، يقف هرتسل عدة مرات عند أحجام التاثير الإيجابي الذي أحدثه التطور الصهيوني على جزء من الجماهير العربية في البلاد.

تتناغم هذه الصياغات مع تبرير وشرعنة الكولونيالية الأوروبية في مختلف القارات، بما يعني: صحيح أننا جئنا واحتللنا، لكننا ثقّفنا وربّينا. ففي أحد الفصول يسأل كينغسكورت (أحد الأبطال الرئيسيين) رشيد بيك: "ألا ترون في اليهود غزاةً أجانب بتاتًا؟"، فيسارع رشيد الى الرد: "كم هي غريبة أقوالك أيها المسيحي.. اليهود أثرونا، فلِم نغضب عليهم؟... لِما لا نحبّهم؟". يصعب قراءة هذا النص دون التفكير في إنه كان من الممكن ان يكون مضحكًا لو لم يكن محزنًا. فرشيد هذا يحظى هو وزوجته بتربيتة ودية على الكتف عدة مرات، لأنه "عربي مختلف"، "عربي مثقف"، "عربي جيد". جدير بالذكر إن النقاط التي أبرزت في "دولة اليهود" بخصوص إسهامات الشبّان اليهود القادمين الى البلاد العتيدة، التَقنية والتربوية والبيئية والحضارية، تظهر في "التنويلند" على إنها الصورة التي قامت فعلا..

كانت هذه هي المبادىء التي تربّى الشبان الصهاينة في أحضانها لدى قدومهم الى البلاد، ولا غرابة في مرواحة توجههم للسكان المحليين بين التجاهل واللامبالاة والإستعلاء. ولا غرابة أيضًا في انه تم تعريف الجماهير المحلية العربية الفلسطينية دومًا (وبقدر ما، في أيامنا هذه أيضًا) على إنها قضية أمنية، وعلى أنها خطر فعلي على المشروع الصهيوني. لسنا نحن الذين هدّدناهم، بل هم الذي يهدّدوننا.. بالإمكان الضحك!

* نشر في الأصل باللغة العبرية في موقع "الضفة اليسارية"، ترجمه: رجا زعاترة.

** مؤرخ ومحاضر في كلية "بيت بيرل" وفي "سمينار هكيبوتسيم".


د. يحيعام شورك
السبت 19/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع