ابو القاسم الشابي والهيام بالطبيعة والحرية والجمال


وُلِد الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي في ضواحي تورز التونسية سنة 1909، وفي سنة 1920 التحق بجامع الزيتونة، وحصّل ثقافة واسعة. وفي سنة 1930 تخرّج من كلية الحقوق، واصيب بمرض عضال اودى بحياته سنة 1934 وللشابي ديوان شعر بعنوان "اغاني الحياة". ومن اجمل شعره ما كان في وصف الطبيعة وسحر الوجود، وقد جمع هذا الشعر بين البساطة والسمو، وبين السهولة وروعة الابتكار، وتظهر فيه تلك النزعة الصوفية الرواقية والرومنطيقية.

لقد عني ابو القاسم الشابي كسائر الرومنطيقيين، بالمرأة عناية خاصة، واجتهد كثيرا في نحت صورتها، موظفا في ذلك طاقة اللغة، والخيال، محاولا السمو بها الى مراتب الملائكة من حيث البراءة، والجمال والطهر، ففي ديوانه "اغاني الحياة"، اعتبر الشابي المرأة من اهم اغراض شعره، فتغنى بجمال الروح الذي يعطي فعلا للجسد معناه الحقيقي، وللجمال منطقه السليم، وللحب بعده الفاتن الأخاذ، وبذلك تغدو المرأة، وكأنها رمز للكمال القديم والمستحدث فيها سطعت آيات الطبيعة، وتألقت، وتضافرت. والحب بالنسبة للمرأة يبرز ذاته بذاته، وليس له حاجة الى ما دونه، انه مقدس ومتى حل في النفس، حررها وطهرها من أدرانها، ومن سلطانها، ومن البؤس الذي تحل فيه، والمقطوعة التالية من ديوانه "اغاني الحياة" تلقي الضوء على هذه المعاني:
يا ابنة النورِ، إنني انا وحدي
مَنْ رأى فيكِ روعةَ المعبودِ
فدعيني أعيشُ في ظِلّك العذبِ
وفي قربِ حُسنكِ المشهودِ
عيشةً للجمالِ، والفنّ، والالهام
والطّهرْ، والسّنى، والسجودِ
عيشةَ الناسكِ البتول يناجي الرّ
بّ في نشوةِ الذهول الشديدِ
وامنحيني السلامَ والفرح الرّو
حيّ يا ضوءَ فجريَ المنشودِ
وارحميني، فقد تهدّمت في كو
نِ من اليأس والظلام مَشيدِ
أنقذيني من الأسى، فلقد أَمْسيـ
تُ لا استطيع حملَ وجودي
ومن هنا، فإن المرأة بالنسبة للشابي مهدئ معنوي للاحزان، انها تخدّر اعصاب الشاعر فتصرفه عن الناحية السلبية الشقية وتهديه الى الناحية الايجابية السعيدة، فالمرأة الآن رسول الهي انحدر من مناطق علوية مفعمة بفرح غريب ونقاء لا متناهٍ، ورسالتها أن تحل في الارواح اللطيفة لتسكب فيها اكسير الحب والجمال والسعادة:

إن في المرأة الجميلة سحراً
عبقرياً، يذكي الأسى، وينيمه
ان الجمال الحقيقي لدى الشابي يبدو كما لو كان حلما لذيذا ينمي في قلبه الاحساس بجمال الوجود، وطيفا تطارده اللغة والاحاسيس، وخيالا ممتعا يأخذ القلب الى ما وراء الممكنات جميعا، فالمرأة الماورائية تعيش حياة الطهارة كالملائكة البريئة، كالوردة البيضاء، كأغاني الطيور، كثلوج الجبال، التي ترمز كلها الى النقاب الداخلي الغريب من حيث الجوهر عن عالم المادة والفساد:

ودعيهم يحيون في ظلمة الإثم
وعيشي في طهركِ المحمودِ
كالملاك البريء، كالوردة البيضاء
كالموجَ، في الخضمِ البعيدِ
والمرأة عند الشابي هي رسولة من الوطن السماوي الذي هجر منه الشاعر فلبس طين المادة، وهي لذلك تحمل اعاجيب هذا العالم الماورائي تبثها في نفس الشاعر القلقة المتعبة من الآم هذه الارض. انها المرأة الخلاص في متاهة هذا العالم، كما هي السند الذي يتكئ عليه الشاعر في حرب هذا الوجود:

أنتِ تحت السماءِ روحٌ جميلٌ
صاغه الله من عبيرِ الورود
لقد استطاع الشابي، متأثراً بتصوره الرومنطيقي للحياة، ان يؤسس عالم الطبيعة المنشود، وان يصوغ ذلك في شعره، فهو يلجأ الى الطبيعة ليستشعر فيها السلام الروحي بعد معاناة شديدة للألم والبؤس، ففي قصيدة "النبي المجهول" يعتكف الشاعر في الغاب بعيدا عن الشعب الذي رفض رسالته حيث سيدفن بؤسه هناك ليحيا حياة الشاعرية والجمال:

إنني ذاهب الى الغاب يا شعبي
لأقضي الحياة وحدي بيأسِ
إنني ذاهب الى الغاب علي
في صميم الغاباتِ أدفن بؤسي
يا لها من معيشة، لم تدنسها
نفوس الورى بخبثٍ ورجسِ
يا لها من معيشة هي في الكون
حياة غريبة، ذات قدسِ
والطبيعة عند الشابي تشكّل بديلا يوفر للشاعر شيئا من الراحة والحنان، اللذين افتقدهما في مجتمعه، وبين بني قومهِ، فهو يتمنى ان يعيش وحيدا وسعيدا في احضان الطبيعة الرحيمة، هاربا من سطحية الناس وتفاهة المدينة اللتين تخنقان بقيودهما الروح المرهفة، وها هو يقول في قصيدة "احلام شاعر":

ليتَ لي ان أعيشَ هذه الدنيا
سعيدا بوحدتي وانفرادي
اصرفُ العمرَ في الجبالِ، وفي الغاباتِ،
بينَ الصنوبر الميّادِ
ليست لي من شواغل العيشِ ما يصرفُ
نفسي عن استماعِ فؤادي
أرقبُ الموتَ، والحياةَ، وأصغي
لحديثِ الآزالِ والآبادِ
وأغنّي مع البلابل في الغابِ،
وأصغي الى خرير الوادي
وأناجي النجومَ، والفجرَ، والأطيارَ
والنهرَ، والضياءَ الهادي
عيشةً للجمال، والفن، أبغيها
بعيداً عن أمّتي وبلادي
هذه عيشةٌ تقدّسها نفسي
وأدعو لمجدها، وأنادي
كما ان الطبيعة هي موطن الأحلام والرؤى اللذيذة الممتعة لدى الشابي:

في الغابِ سحرٌ، رائعٌ متجدّدٌ
باقٍ على الأيام والأعوامِ
وشذى كأجنحة الملائكِ، غامضٌ
ساهٍ يرفرفُ في سكونٍ سامِ
وجداولٌ، تشدو بمعسولِ الغنا
وتسيرٌ، حالمةً، بغيرِ نظامِ
ومخارفٌ نسجَ الزمانُ بساطَها
من يابسِ الأوراق والأكمامِ
وحنا عليها الروح، في جبروتهِ
بالظلّ، والأغصانِ والأنسام
في الغاب، في تلكَ المخارفِ، والرُّبا
وعلى التلال الخُضرِ، والآجامِ
كم من مشاعَر، حلوةٍ، مجهولةٍ
سكرى، ومن فكرٍ، ومن اوهامِ
غنّت، كأسرابِ الطيور، ورفرفتْ
حولي، وذابتْ كالدّخانِ، امامي
وبواسطة الطبيعة يتجاوز الشاعر احزانه الفردية الحقيرة التي تقف حاجزاً يعيق الاتصال بجوهر الحياة وسحرها الخلاق، فالفردية قد ذابت في خضم الطبيعة واتصلت روحه بروح الكون الفرحة الطروب:

فرأيتُ الوانَ الحياة نضيرة
كنضارةِ الزهر الجميلِ النامي
ووجدتُ سحر الكونِ أسمى عنصراً
وأجلّ من حزني ومن الآمي
ويجد الشابي في الطبيعة ملاذا للقضاء على الثنائيات، على الموت، ولتحقيق الخلود:

النورُ في قلبي وبينَ جوانحي
فعلامَ أخشى السيرَ في الظلماءِ
إني أنا النايُ الذي لا تنتهي
أنغامهُ، ما دامَ في الاحياءِ
وأنا الخضمُّ الرحبُ، ليسَ تزيدهُ
الا حياةً سطوةُ الأنواءِ
أما اذا خمدت حياتي، وانقضى
عُمري، وأخرستِ المنيّة نائي
وخبا لهيبُ الكونِ في قلبي الذي
قد عاشَ مثل الشُعلة الحمراءِ
فأنا السعيدُ بأنني متحوّلٌ
عن عالمِ الآثام، والبغضاءِ
لأذوبَ في فجرِ الجمال السرمديِّ
وأرتوي من منهلِ الأضواءِ
والطبيعة في المقطوعة التالية دواء لداء الشاعر وانقاذ لاحساس الشاعر الهامد من الشقاء، فهو يطلب من الطبيعة ان يتدفق جمالها كالنهر في روحه، وأن تتغلغل كالنور في ذاته الذابلة من الاحزان والآلام:

وهتفتُ: يا روحَ الجمال تدفقي
كالنهرِ في فكري، وفي احلامي
وتغلغلي كالنورِ، في روحي التي
ذبلت من الأحزانِ والآلامِ
أنتِ الشعور الحي يزخرُ دافقاً
كالنارِ في روح الوجودِ النامي
ومن حيث ان الشاعر يعتبر الاتحاد بالطبيعة ضربا من شوق الانسان الى الوحدة والتكامل، فإنه في الحقيقة، لا ينظر الى مظاهرها نظرة مادية لا شأن لها بعالم الروح وطاقاته المذهلة، بل على النقيض من ذلك لأن العلاقة بين الشابي والطبيعة تتسم بالحب والهيام حتى كأنه عشقها عشق الرجل للمرأة المثالية، وهكذا تخرج الطبيعة عند الشابي، من المادة الى المعنى، ومن الصورة الخارجية، الى الصورة المرتسمة في اعماق الشاعر، ترفعه الى الاعالي والى السماوات، وتجعله يحس لحظات سعادة وكأنه ادرك الحقيقة الجوهرية في الطبيعة – الأم. ويقرر الشابي قاعدة عامة في كتابه "الخيال الشعري عند العرب" يستند اليها وتتعلق بعلاقة الشاعر العربي مع الطبيعة حيث يقول هناك "ان الجمال الطبيعي هو القسطاس العادل الذي ينبغي ان توزن فيه نفسيات الأمم وشاعريات الشعوب ليعلم ما هي عليه من قوة وضعف ومن صحة او فساد".
واخيرا، لا يفوتنا هنا الا ان نتطرق، ولو بايجاز شديد، الى قصيدة الشابي الشهيرة "ارادة الحياة" التي استهلها بالقول:

إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة،
فلا بُدّ أن يستجيبَ القدَرْ!!
ولا بُدّ لليلِ أن ينجلي
ولا بُدّ للقيدِ أن ينكسِرْ!!
وفي هذه القصيدة، يستنطق الشاعر الارض، ايضا، عما تضمره وما تعلّمه للناس، وهي لا تؤثر من ابنائها الا ذوي الطموح الذين لا يستسلمون لقدرهم وخذلانهم:
أُبارك في الناسِ أهلَ الطموحِ
ومَن يستلذّ ركوبَ الخطرْ
وألعنُ من لا يماشي الزّمانَ،
ويقنعُ بالعيشِ، عيش الحفرْ
فالكون، جميعا، حيّ، يجب الاحياء ويتعهدهم ويقدم لهم خيراته، وينبذ الاموات ولا يحفل بهم:

هو الكونُ، حيُّ يحبُ الحياة
ويحتقرُ الميتَ المندثر
فلا الأفقُ يحضنُ ميتَ الطيور
ولا النحلُ يلثُم ميتَ الزّهر
ويظهر مما سبق، ان الشابي، كمعظم الرومانسيين، يعانق معاني الاشياء بالحلم والرؤيا، ينفعل ويتولى خياله اظهار انفعالاته، موحدا بين الشيء وما يماثله، ناسبا ما لأحدهما الى الآخر، وكما يقول الكاتب اللبناني ايليا حاوي، فإن "خيال الشابي هو خيال مبدع، مصوّر، يحتضن الانفعال، يتغذى منه ويغذيه ويتقوى احدهما بالآخر، ليطلا على تخوم الحلم الشعري الكبير الذي تشف به طينة الاشياء والعالم، وتطالعنا فيما وراء كثافتها اطياف روحية لطيفة حية". وهكذا يبدو ان الشابي قد تأثر تأثرا عاما وخاصا بجبران خليل جبران حيث يظهر تأثره العام بجبران في تأمل الطبيعة والافادة من مظاهرها خواطر وافكارا، وفي فهم الحرية والدعوة اليها وفي النزعة الالتزامية. اما تأثير جبران الخاص في الشابي فيبدو في بعض التعابير المأثورة عن جبران والتي تنتمي اليه في معظم كتبه وكتاباته مع العلم ان أبا القاسم الشابي قد طبع تجربته بطابعه الخاص ومعاناته الذاتية لواقع الظلم والعبودية وتوق الانسان الى حريته.

(كفر ياسيف)


دراسة: الدكتور منير توما
السبت 5/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع