أوراق لم تعد شخصية
أزمة كاتب

ها أنا أعود الى أوراقي الشخصية التي لم تعد شخصية... أعود ولا أعِد ولا أعِد قارئي بأنني سأستمر في لتواصل معه... أعود، ثم اقطع التوصل مع نفسي – أكون أحيانًا في توهج صياغة التجربة،  وفجأة تأبى التجرية ان تتواصل مع واقعي المشوه،  غير الواضح لي، وغير الواضح للآخر الذي يؤلمني فأسمع لنصيحة الباحث والفاقد الفلسطيني فيصل دراج، الذي أكن له احترامًا وتقديرًا، والذي  نصح لمبدع أن يصمت في مراحل جفافه الإبداعي. فصمتت.. وفي الصمت تأمل.. واعادة حسابات مع النفس الباحثة عن داخل حاملها، ومع الآخر الآخر الواسع والآخر القريب الذي يكتم أنفاس التجربة في توهجها. نتأمل عالمنا، هذا العالم الذي هو دائمًا "اللاشيء" كما يقول هايديجر هذا العالم: "الذي نخضع له طالما ظلت طرق الولاد، والموت، النعمة واللعنة.. فعندما ينفتح عالم نكتسب كل الأشياء لحظتها الزمنية، وسرعتها، بُعدها وفربها، اتساعها وضيقها.." فلماذا كلما انفتح أمامنا عالم جديد جميل نُفقد لحظته الزمنية  وسرعته وايقاعه، نكتمه، نخنقه، ولا نسمح له بممارسة مراه" هل لأننا نخاف ممارسة الجميل في حياتنا؟ هل لجميل التوهج يهدد سلماتنا بفرضه علينا ايقاعات حياتية لم نعتد عليها؟ هل الجميل يهدد انفتاحه امام معالجة الضيق، هذا الضيق الذي يقف صخرة أمام توقنا الى اتساع بقعة انفلات عالمنا، الذي نحده بسبب ألم التجربة؟
ها أنا أبدأ رسالتي غير واضحًا لأطلب الوضوح من عاشقي الوضوح، لأمارس تقنية الكتابة المتعثرة، الباحثة عن لغة جديد وعن أسلوب جديد وعن خصوصية تأبى أن يقلدها المتعثرون والمبتدئون...
الأزمة أزمتي أنا.. لأنني سجين الاحباطات المتكررة، التي يسببها هذا الوجود المشوه بموجوداته  المشوهة. وكلما انقطعت عن الكتابة أشعر نفسي  مبتدئًا، أبحث عن أشكال التعبير التي تثير القارئ لتجعله متوترًا مع توتري، ولتجعله مندهشًا لبضعة  دقائق، ثم يرمي بكلكاتي وتعثراتي الى الجحيم.
أعود الى الكتابة لأنني بحاجة اليها، أعود اليها  لأن حاجة، تكرر للتلصص الى خبايا داخلي. أعود اليها لأحاول أن أصف الآخر الذي يؤلمني، وأمارس عليه سيادتي المنطلقة من مازوخية الألم القاتلة.. اعود الى الكتابة لكي أستحضر شخصيات خنتها، وتركتها تهيم في فضاءات معتمة كادت أن تقتلها: كاسندرا الهائمة بين أسوار طروادة وبين ألأم تجربتها، سحر عين العذراء المتمردة على مفاهيم الولاء للحب.. وبرومنيوس الذي يبني في داخله معبدًا للحب..
هذه الشخصيات التي خلقتها وتركتها لكي لا تستعبدني، تتوسل الى روحي كي أبعثها وكي أسري الدم أوردتها الأدبية.
وأنا أقول: يا ويحي اذا أنا تماديت في كشف أسرارها.. يا ويح القارئ المتماثل مع أسرارها ومواقفها.. يا ويح من يتبنى دواخلها.. يا ويح من يتبنى تخييلها وخيالها.
وأستحضر في هذه اللحظة – لحظة – برومنيوس ليقول لي:
- "قررت أن أخلدها بغيالك عني.. لم ترد، انت، أن تتابع ميرتي، فتابعتها لوحدي وكتبت لها الرسائل، أغرقتها في بحور من الكلمات.. نصبتها الهة وكتبت لها!
"نصّبتك الهة.. وبنيت لك معبدًا في داخلي، أصلي لك فيه عندما أذهب الى النوم وعندما أفيق من نومي الحالم فيكِ.. خلايا جسدي حجارة معبدك – وأنا أشعر بقدسية جسدي حامل
معبدك".
ابتسمت فرحًا، ممتعًا بكلامه الذي ذكرني بقول هايديجر:
"فالإله يوجد في المعبد بواسطة المعبد.. وحضور الاله في حد ذاته هو انبساط المنطقة وتحديدهابوصف مقدسة".
قلت له:
- "أنا سعيد بك وسعيد لأنك مارست ما تريد. دون أن أملي عليك.. باستطاعتك أن تعلمني فنون الحياة وفنون الهوى التي افتقدتهاعندما كنت أمارس احباطاتي ويأسي.."
ثم استحضر الزانية المتقاعدة التي تركتها في فندق بلازا طبريا تبكي وحدتها ومصيرها المجهول.. دُهشت لمنظرها المتحسن دون أن أتدخل في تحسينه وتحسين وجهها المتوهج، قالت لي شفتاها تلتصقان بشفتي:
- إذا عدت بي الى الوراء، وتابعت قصتي لا تنسى  أن تذكر انني زانية، لم تستطع الحياة أن تقهرها رغم القهر القاتل في تفاصيل حياتي.
وأضافت:
- كيف حال كاسندرا؟
صمتت. أبعدت شفتي عن شفتيها، وعن رائحتها التي تحتفظ بماضي الزانية المحترفة.
قالت:
- لماذا تأهلت؟ أسألك عن كاسندرا.
قلت:
- لا أستطيع أن استمر في إفشاء أسرارها.. أخاف على نفسي وأخاف عليها.. لقد تمادت في انفلاتها من جراء تجربتها القاسية.
نظرت الى برومنيوس الهازئ من مهاتراتي، الحالم بالالهة والحالم بسحر التي ستدمره.. نظرنا  الى بعضنا البعض، وكأننا نقُم صلاة لروح تجربتنا ولروحينا قبل ممارسة الانتحار..
قلت له مواسيًا لدموعه التي بدأت تنهمر!
- أعرف رسائلك يا عزيز حرفًا حرفًا، أعرف كل فاصلة، وكل نقطة، كل علامة استفهام وما اكثرها.. أ‘رفها، لأنني انا الذي صاغها لك.. وأعرف ملا لا تريد أن تفصح عنه.. أعرف. انها وجدت لها عشيقة، لانها تؤمن ان المرأة هي الوحيدة التي تستطيع ان تحاور جسد المرأة وتحاكيه، وأعرف انها مارست السحاق معها في القدس، في نفس الفندق الذي توحدتما فيه.. لمذا تهربون كلكم الى القدس؟ ما سرتكم وما سرُ هذه المدينة المنكوبة؟ عندما تريدون ممارسة ما هو ممنوع، تلجأون الى القدس.. هل القدس هي ملجأ لممارسة ما هو ممنوع في ايقاع زمنكم وايقاع مكانكم؟ قهقهت الزانية المتقاعدة وصرخت:
- لم أحتج الى مقدساتكم لأمارس زناي الذي اختار البؤس شكلاً له.. زناكم يدّعي القدسية، فزناي كان الحقيقة.. حقيقتي.. لقد مارست حقيقتي، أما أنتم؟ اختفيتم بين جدار المقدسات.. أخاف عليك ايها الكاتب المتعثر، اخاف عليك من اكتشافك لنفسك، من اكتشاف زيفٍ يواكبك.. ومن اكتشاف الاوهام التي تسيطر على خيالك المأزوم واقول لك الحقيقة:
كاسندرا تركت أسوار طروادة وهي تهيم في هذه الأيام باحثة عن حقيقة يطول بك الوقت للتوصل اليها.. كاسندرا غامضة، تتأرجح بين ألم التجربة وبين الاسطورة التي تريد أن تحيكها لها من جديد.. كاسندرا رفض الاسطورة.. انها تبحث عن واقع المتعة ومتعة الواقع.. ما زالت تحنّ الى متعة التجربة الأولى، هي تود أن يعود بها الزمن الى بدائية التجربة.
وفجأة اكتشف معضلتي، شخصياتي تُملي عليّ، شخصياتي تحاول أن توجهني وأنا خاو، احاول أن أتخلص من هذا الخواء القاتل.. عليّ أن اكون مستعدًا لانقضاضها.. هل علي أن أستسلم لرغباتها وانفلاتها؟
عذرًا للقارئ الذي نسي برومينوس، وكاسندرا وسحر، وعذرًا للقارئ الذي لم يتعرف عليهم من قبل.. لكنني مضطر أن ألجأ الى هذا العلاج الزاني لكي أعود الى الكتابة، ولكي أتصالح مع شخصياتي التي خُنتها واهملتها لفترة من الزمن، أحاول أن أجد لنفسي مدخلاً يُتيح لي أن أمارس متعتي في وحدتي وتوحدي مع ما أحبه وأعشقه.. أوراقي الشخصية هي بمثابة رشائل للقارئ، وأنا مستعد لتقبل الرسائل منه.. باستطاعته أن يحاورني وأن يوجهني اذا اراد، باستطاعته أن يدع تجربته تجاوز تجربتي، أود أن أكسب أصدقاء جدد.. تعالوا نمارس قول الحقيقة في الحقيقي، تعالوا  نعترف بأزمتنا ونصيفها، ربما استطعنا أن نبتعد بعض الشيء عن ممارسة الانتحار اليومي وعن قتل الجميل في حياتنا، تعالوا نطرح مشاريعنا الحسيّة وبجرأة ووو أن تكون مطلقة.

(الناصرة)


رياض مصاروة
السبت 5/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع