في رحيل الشاعر محمد حمزة غنايم:
وما غادرك الوطن وما هجرك الشعر

يكفي سبب للموت..
لحظة..
تسلمك الدهشة صولجانها
تغادر الحديقة الأسوار..
قم!!
نجدد الضحك على طريقة المضحك المبكي
عرفنا الآن أن نخطط الأسباب
للموت، وللحياة.
(نون وما يسطرون، ص 39.)

لا حاجة أن تعرفه، تكفيك جملة واحدة لتكتشف كم هو مختلف وكم هو مسكون، ذلك الشاعر الثائر المتمرد النافذ إلى مسارب وعينا والمحطم رتابة حياتنا الهادئة والوادعة.
ولكن بحب. تعشق ثورته التي تكشف عورة عجزنا وتسبح في بحر لاعاديته وارتياده مجاهيل معتمة وسراديب شديدة الخطورة.
لكنها بالغة الجمال وشديدة الجاذبية.
أحاول بكل ما أملك من جرأة أن أتخلص من تلك الثياب التي كنت تود أن تمزقها عني، ولكن بحب. عرفتَ أنك لن تكون أنا، وعرفتُ أني لن أكون أنت.
ورغم ذلك، بل لذلك نشأت بيننا تلك العلاقة الحميمة التي تنشأ بين العشاق، الشوق العارم للقاء والخوف الشديد من ساعة الفراق. "عرفنا الآن أن نخطط الأسباب للموت، وللحياة". 
تحس كما أحس بتلك الحميمية التي يخاطب بها محمد البشر، كلٌ موقن بأنه المعني بتلك الفضاءات اللانهائية من الشعر الجميل.
لكي تفهم محمدًا الشاعر لا بد لك أن تخلع ثيابك وتلبس خرقًا ترفأها على غير المتوقع. أما أن تتأنق في ربطة العنق والبدلة الكحلية والشعر المصفف اللامع فقد فقدت الحضور وأضعت القصيدة.
يعانق الصعلكة، لكنه يُعمل معول فنه في جسد القصيدة لتخرج كاملة النمو، أنيقة، تنأى عن الفجاجة. كم كان غريبًا غرابة الفن واغترابه ذلك الشاعر المتوحد في جوف الوطن، المجبول بالرغبة الجامحة في الاختلاف والخروج.
"تغادر الحديقة الأسوار". لقد تحقق حلمك وخلعت عنك القيد وخرجت. ألم تكن خارجًا دائمًا!؟ وقال الناس فيك ما رأوا وقلتَ ما رأيت. جبت الوطن طولاً وعرضًا تبحث عن الكلمة، وآمنت أن "المضحك المبكي" لن يغادرك إلا إذا غادرك الوطن وهجرك الشعر!
أولاً وقبل كل شيْ الكلمة "نون وما يسطرون" و"ألف لام ميم" و"وطن القصيدة" و"وثائق من كراسة الدم". لكأني به عاش ومات من أجل أن تبقى القصيدة، ذلك "الغرائبي" المفعم بالعطاء في الحياة وفي الممات.
كم قرينًا كان لك يا أيها "المحارب المثقل" بالحب، كم حبيبًا هجرت بلا وعد وبلا موعد وانتأيت هناك؟ أهي البلاد/الوطن؟ لعله الحرف/الكلمة التي آمنت بأنها الوحيدة التي تطاول الخلود!
ولكن ما أراك إلا شاعرًا، وما عدا ذلك عزف على وتر آخر من أوتار القصيدة. كثرت الألحان وتلونت الكلمات وتباعدت المسافات بينها، لكنك بقيت مخلصًا لها تلك القصيدة. ألم تطلقها مدوية في صدر "النون": "أيها الشعراء اضبطوا أوراقكم المفخخة واحملوا قصائدكم الانشطارية."
هذا هو الهم الأول، إذًا شغلك الوصول وعذبتك وعثاء الطريق إلى رحم الكلمة، تحايلت عليها، تزينت لها، توددت لها، تعذبت لها وها أنت تموت لها:    

 "انبثاقي من الوحل
كلما، أهبط النوم أرتدي حلة
الموت
أرفع حبل الوصول
وأسلم نفسي:
وأخلق شيئًا جميلا!
(نون وما يسطرون، ص 121.)


د. محمود غنايم
الجمعة 4/6/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع