(8)
ربيعيّات

(1) "رُجوعيّات"

ليست الصدفة التي أوقعت بين يدي أحد اعداد مجلة "الجديد" من العام 1966، فقد كنت أبحثُ عن شجرة زيتون "رومية" أسند اليها جسدي، وأدع روحي تتفيأ بظلالها، واشواقي تجترح الحلم والحنين، لأحباب شردوا وغابوا ورحلوا، وحنينهم بعد الفراق، لنشوة اللقاء وحرارة العناق، لفت نظري مقال للفارس الراحل الشاعر توفيق زيّاد تحت عنوان "ملاحظات اساسية حول الشعر العربي الثوري في اسرائيل" (ص 5).
لماذا هذه الزيتونة؟
المباركة، التي ضربت جذورها في سابع أرض، لأن جذعها كان يُبرعم باستمرار ويُعطي المدى لزيتونات جديدة، تتمدد وتفرش الأرض، جارية مع الحياة خضراء يانعة عنيفة، واقفة مشرئبة في غابة الزيتونة الأم التي لا بداية معروفة لتاريخها، فتتحول الى غابة زيتون، يتفيأ ظلها عشاق الشمس..
"واما عشاق الشمس فدائمًا يستطيعون أن يجدوا مكانًا يتفيأون ظله ويستعيدون قوتهم للانطلاق من جديد.
أما قبلْ!
قال الزياد في مستهل مقاله المذكور اعلاه من العام 1965: تحت باب رُح يا يوم... وتعال يا يوم..
"في أعقاب النكبة، تفرق شعبنا أيدي سبأ.
ومعه تفرق شعراؤنا الثوريون: عبد الرحيم محمود، الذي اختزل كل أحلامه وشحن بها هتفته "يا عامل.." والذي قال:
نحن لم نحمل السيوف لهدر
     بل لاحقاق ضائع مهدور
نحن لم نرفع المشاعل للحرق
      ولكن للهدى والتنوير
نحن لم نطعن الضمير ولكن
     بقنانا احتمى طعين الضمير
كان فينا نصر الضعيف المعنى
     وانجبار المحطم المكسور
هذا الثائر من "عنبتا" تقنطر وانقصف كالجمل البّكْر!
وأما "ابو سلمى"، عبد الكريم الكرمي الذي نشر على لهب القصيد، اشرف وأعدل المشاعر البشرية، وقال:
سيروا على وضح النهار
     فالحق من نور ونار
تأبى البطولة أن ترى
     أبناءها خلف الستار
يا أيها الشعب النبيل
     أمنت من شر العثار
أنت الذي تهدي السبيل
     من اليمين الى اليسار
قرر مصيرك أنت لا
     من يبصمون على القرار
أبو سلمى.. الذي نطق بمثل هذا السحر قبل حوالي ربع قرن، لا أحد يعرف خط تنقلاته من منفى الى منفى، غير الشمس التي وضعها بين عينيه. اننا كلما سقط على آذاننا، كسقوط الندى، صوت فيروز وهو ينشد "سنرجع يومًا الى حينا" ذكرنا أبا سلمى، نحن الذين حبونا على شاطئه اطفالا. وغير عبد الرحيم محمود، وغير ابي سلمى، آخرون قطعت النكبة كل صلة مباشرة معهم" ("الجديد" مقال توفيق زيّاد عدد 8 ص 5 سنة 1966). وبقي هذا الشعر.. شعر الاوائل الذين عبّدوا الطريق للشعر الثوري الفلسطيني من ابراهيم طوقان، وابو سلمى، وعبد الرحيم محمود، ومطلق عبد الخالق وغيرهم وتوارثت وتواصلت انفاسهم واستمرت، ليبقى الشعر الثوري الفلسطيني مستمرًا ومتواصل الحلقات، "فكان شعرنا الثوري هو امتدادًا لشعرهم الثوري لان معركتنا هي امتداد لمعركتهم:
نفس الخندق: المحبة للأرض والشعب.
نفس العدو: الاستعمار والضاربين بسيفه.
نفس الهدف: التحرر الوطني والاجتماعي.
نفس السلاح: الكلمة الجريئة التي ترقص في وجه الضوء!
"فزيتونة فلسطين" ابو سلمى بشعره كان النافخ في الرماد حتى تحمرّ الجمرة..وواصل صياغة أغنية الكفاح ويغنّي ارادة الشعب في العودة الى وطنه، في فترة الركود في الحركة القومية الفلسطينية بين 1948 و1964 لتبقى جذوة الكفاح الوطني الفلسطيني جمرة تراكم عليها الرماد حتى كادت تنطفئ، فأنشد في قصيدته "سنعود":
ويسألني الرفاق إلا لقاء
     وهل من عودة بعد الغياب
أجل سنقبّل الترب المفدّى
     وفوق شفاهنا حمر الرغاب
غدا سنعود والاجيال تعطي
     الى وقع الخطا عند الاياب
نعود مع العواصف داويات
     مع البرق المقدّس والشهاب
أجل ستعود آلاف الضحايا
     ضحايا الظلم تفتح كل باب.
أما بعد!
بعد "النكبة" وإذا بأفراخ هذا النسر، التي خلفتها المأساة، أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، قد ريّشت..!! ونشرت اجنحتها فتية، تتحدى بها الزوابع التي كانت دائمًا، واحدًا من أهم مصادر قوتها.
واصلت ولم تبدأ طريقها من جديد، وصمدت ونجحت في معركة بقائها فوق تراب آبائها وأجدادها، "فالمعركة الاولى التي فرضها علينا حكام بلادنا كانت المعركة من اجل البقاء. لقد ارادوا "تنظيف" بلادنا منا، والحاقنا بشعبنا المشرد، ليقطعوا الطريق على كل امل له بالعودة. وأما نحن فقد صرخنا في وجوههم:
إنا هنا باقون!
وحلفنا يمين امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
    ولو قطعوا رأسي لديك واوصالي.
"كانا عشرون مستحيلْ
في اللد، والرملة، والجليلْ!!
هنا.. على صدوركم باقون كالجدار
وفي حلوقكم،
كقطعة الزجاج، كالصُّبّار.
وفي عيونكم،
زوبعة من نار.
(توفيق زيّاد – ديوان "أشد على أيديكم" قصيدة هنا باقون ص 133)
وفي هذه المعركة كانت وما زالت يد شعبنا هي العليا!
في الوقت الذي كان فيه مثقفو الأمة العربية منهمكين في تحديد لمن يكتب الكاتب: للعامة، ام للخاصة، وكان خيار الالتزام قد تحول في الشعر والأدب الفلسطيني الى صيرورة وقدر. لان الدعوة في الأساس، ومنذ البداية كانت لأدب مقاوم، يقاوم كل يوم، حتى في أوقات استراحة المحاربين، ونوم البندقية، وغياب طائر الدم.
ولم تكن الدعوة أبدًا لأدب النكبة. أن يبكي النكبة، أدب ينعى النكبة ويتأوه ثم لا يفعل شيئًا غير أن يتأوه..
انه أدب غير نائح، او بكائي، ينوح على الماضي، ويبكي على الأجداد ويحاول استحضارهم لمواجهة ما نحن فيه، بدلاً من مواجهة واقعنا بأنفسنا وبفعلنا الانساني المشهود. وكانت يد الأنظمة العربية وخطابها الرسمي دافعة عن قصد لتسميته "أدب نكبة" وذلك ايحاء لان يكون هذا الأدب بكاء على ما أصابنا ونواحًا على ما ضاع، دون التصدي له، والاكتفاء بتسجيله وهذا جزء من التهافت العربي "كالكلاب المشلبطة" على الحل الودي التوفيقي النابع عن العجز العربي في مواجهة المؤسسة الصهيونية وأداتها اسرائيل، من خلال المؤتمرات والطاولات المستديرة والكراسي الحريرية وليس من خلال الخنادق. وعلى مرمى بصرهم، وأمام عجز رجولتهم وكرامتهم، اغتصبت فلسطين على يد الصهيونية بتعاون مع الرجعية العربية الموعودة بالخيانة والمُلك والاستعمار الانجليزي الظالم المستبد، وشردوا أهلها، وطردوا اكثرهم خارج أوطانهم، وبقيت أقلية عربية فلسطينية صامدة في وطنها وفُرضت عليهم هُوية غير هويتهم، ومورس ضدها عبر مخطط علمي مدروس مع سبق الاصرار والترصد لإذابة هذه الأقلية في البلاد وتهويدها "وصهينتها" والقضاء على معالمها الفلسطينية، بمصادرة الأرض، وخنق حريتها، وهدم المساكن، وتضييق سبل الرزق وتعطيل الأعمال، واكراه الناس على النزوح من الوطن، وهجرته. وفرض مناهج تعليمية وثقافية هدفها العدمية القومية والوطنية. وفرض الاحكام العسكرية على حياة الناس، والتمييز ضدهم في الميزانيات والحقوق. بهدف تيئيس هذه الجماهير وقطعها عن شعبها، وأمتها العربية الكبيرة. وكان الرد من جانب هذه الأقلية ثباتًا واصرارًا على البقاء، ورفضًا لترك الوطن وتمسكًا بالارض وتقديسا لها، وصبرًا على الظلم والاضطهاد وتعلقًا بالثقافة القومية العربية، واقبالا على التعليم واحتمالاً للفقر والجوع، وطلبًا للعمل في كل الظروف ومن أي نوع، والاعتزاز بالانتماء وللجغرافيا والتاريخ مهما حاولوا تزييفه وتغييره، وتقديم اغلى التضحيات في سبيل الرسوخ في الوطن ومكافحة التهويد.. وكان الشعار "لا مساومة".
ربما أخمد عريانًا وجائع
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
والى آخر نبض في عروقي سأقاوم
ربما تُطعم لحمي للكلاب
ربما تُلقي على قريتنا كابوس رعب
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
والى آخر نبض في عروقي سأقاوم
ربما تصلب ايامي على رؤيا مذلة
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
والى آخر نبض في عروقي سأقاوم.
(سميح القاسم، الديوان ص 447، 448)
والبقية ستأتي!

(والى اللقاء)


الأحد 30/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع