ربيعيات (7)
<الشعر وأسرائيكا>

(دفعة ثانية وأخيرة)

أتاح هذا الواقع والمناخ الجديد، قدرًا أكبر من الحرية لشعر وشعراء قصيدة التفعيلة الواحدة، فتحرر جزئيًا من سيطرة العقل الواعي ومن رقابة الفكر وضوابط المجتمع وأنظمة الحكم الصارمة. أجل، قد تحررت جزئيًا لأن الشاعر نفسه ما كان قد نال حرياته وما كان قد هضم تمامًا نتاجات عصره 1945 – 1990، والعالم بأجمعه كان يتهيأ بتراكم أحداث بعضها واضح وملموس والآخر غير واضح وغير ملموس، لدخول عصر جديد تسود فيه دولة واحدة ونظام واحد، هو نظام العولمة والقطب الأوحد أي "الرأسمالية الكونية". كان الشاعر منقسمًا على نفسه ويعاني من صراع حاد: قدم ما زالت ترتكز على عالم شعر بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، بينما القدم الأخرى ظلت معلقة في الهواء غير واثقة من مكانها ومن وضع هذا المكان.
وكانت هذه واحدة من أبرز سمات فترة ما بعد الحرب الكونية الثانية حتى سقوط جدار برلين. لا أحد كان يدري لمن ستكون الغلبة في نهاية المطاف وأي النظامين سيسود العالم: الاشتراكية أو الرأسمالية؟؟؟.
فجاءت القصائد مزيجًا مخففًا ومقبولاً من الواقعية والرمزية. ودواوين شعر كاملة مخصصة للمرأة والجنس بل وحتى الجنس المكشوف كشعر الشاعر العراقي حسين حردان ، والشاعر السوري نزار قباني مثلا. ولم تبتعد هذه القصيدة عن السياسة وأجوائها الصاخبة أبدًا بدعوى الدفاع عن قضايا انسانية او أممية مرة أو عن قضايا وطنية قومية اخرى. كما احتلت قضية فلسطين مركزًا متميزًا في شعر الغالبية العظمى من شعراء هذه الحقبة، وكان الشاعر الفلسطيني محمود درويش وما زال فارسها المجلى. مع أن قصيدة الشعر الحر لم تُنجب شعراء كبارًا من وزن أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي والمعري وغيرهم. رغم اختلاف العصور والحاجات والشروط، برزت قلةٌ قليلة من رواد الشعر الحر لكن هيهات هيهات أن تبلغ ما بلغ شعراء بحور الخليلي من مجدٍ وعلو شأن. وهذه الظاهرة صحيحة كذلك بالنسبة للغرب إذ لم يُنجب في القرن العشرين شعراء عظامًا كدانتي وملتون وشكسبير وغوته وسواهم.
قصيدة الخليل بن أحمد الفراهيدي محطةٌ للابداع كانت وستكون من عهدٍ عهيد.لذا لم تتميز قصيدة الشعر الحر بمراحل كتلك التي مر بها شعر القصيدة القديمة أنها قصيدة مرحلة واحدة هي في الحقيقة جد قصيرة في عمر البشر: خمسة وأربعون عامًا فقط (1945 – 1990). ومعمار قصيدة الشعر الحر ذو شكل بسيط وثابت خالٍ من الأركان والزوايا والشرفات والطوابق. وهذه القصيدة حرة في التمدد في فضائها أفقيًا وعموديًا واضعة تحت تصرف الشاعر اشكالاً أخرى من الحريات على رأسها حرية التصرف بالفراغات. فالفراغ حالة أخرى من حالات المادة يوظفه الشاعر لخلق شتى أنواع المؤثرات التي من شانها إثراء الجو العام للقصيدة وتلوينها بالأوضاع المتباينة لحالات الشاعر النفسية.
وأنا لا أتمدد في فضائي بحرية إلا في الكلمات
وعلى سريري آثار دم روّت قحط صحرائي
صادروا فيّ الفراغات وقالوا عنها: أموالٌ متروكة.. حتى تبقى لا مُجديًا في ألمك ومحاولاتك "السيزيفية".. وقررت ترك صخرتي متدحرجة.. نحو القمة المقلوبة، وساتصرف بحرية أفقي ومكاني.. وأعجل خصائص ونتائج الثورة.. في زماني.. وسأغني.. وأطرب.. وأنتشي.. وأشتهي حياتي.. كما يُشتهي الموت.
رغم شيوع قصيدة الشعر الحر ثم تلحينها وغناؤها بشكل محدود كما غنت فايزة أحمد وعبد الحليم حافظ قصائد نزار قباني وكذلك كاظم الساهر. ولكننا سهرنا نتلوع هيامًا ونغْرقُ في خافيات المنى.. عبيدًا لقصائد الوزن والقافية المغناة في عالم الأنس والطرب، قصائد الهيام والمراثي والمناحات واحياء طقوس الكوارث الاجتماعية والدينية. فأين محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. ومن العراق محمد القبانجي وعفيفة اسكندر ثم يوسف عمر. هذه النخبة الممتازة غنت من الملحنين والمغنين والمغنيات الكثير من روائع شعر الوزن والقافية، فعبد الوهاب لحن وغنى لأحمد شوقي شاعر بحور الخليلي، كما غنت اسمهان مع عبد الوهاب أوبريت مجنون ليلى شعر أحمد شوقي. أحدُ أركان ضعفي... نسيان أشعاري...
فأبدأ بالغناء وأدوزن ألحاني عنوانًا للمرحلة... وأتوارى مع القوافي لحنًا يتيمًا.. ومع النقاط.. ضجرًا مسمومًا للآتي..
فالرسالة من تحت الماء.. بعثتها قارئة الفنجان.. لأحمد العربي..في تل الزعتر.. مدائح لحصار الهزيمة فينا.. وتحطيم لكل الجسور الحزينة.. فرح قادم مجبولٌ بالنعناع والحبق والصعتر.. مناقيش شهوة، وتحدٍ وصحوة أملٍ في تاريخ العرب.
"أين العرب
أين الوطن المتكرر في الأغاني والمذابح
دُلني على مصدر الموت!
أهو خنجر.. ام الأكذوبة؟"
(محمود درويش احبك ولا أحبك ص 369)
"فيا وطن الأنبياء... تكامل
ويا وطن الزارعين... تكامل
ويا وطن الشهداء... تكامل
ويا وطن الضائعين... تكامل
فكل شعاب الجبال امتداد لهذا النشيد
وكلُّ الأناشيد فيك امتداد لزيتونة زملتني"
(محمود درويش ديوان "أعراس" الديوان ص 627).
يقولون:
أنا لا وزن لي ولا قافية.. لا ديكورات.. ولا منطق عندي للكلمات عالمي الخاص مبنيٌ على ركائز متعددة.. أواخري ساكنة من غير استثناء مفرداتي مقروءة من غير حركات.. سكون شبه كامل وقصيدة بلا حركات.
يقولون: دارجٌ وعامّي أنا.. ومحكي.. هامد مُسطح مُفتقر لجهاز تنفسي، لأن في التنفس يتحرك الصدر الى الجهات الأربع.. وحركات الإعراب في لغتنا هي حقًا ومجازًا عمليات تنفس تتحرك الكلمات معها وفيها وتمنحها نسمة روح الحياة ودفء دماء الجسد الحي الجارية.
يقولون: غامض أنا.. ومعتم المرامي بشكل مطلق، عصيٌّ على الفهم والتفسير حتى على نفسي، فقف أمامي متأملاً صامتًا خاشعًا.. قف امامي.. ولا تُكلف نفسك مشقة السؤال لماذا؟ وكيف؟
قف أمامي وبصمتٍ في لحظة صلاة..
لكم قصة قصيدة النثر.. علينا أن لا ننسى في معرض الكلام عن الزمن أن القرآن الكريم يمثل أعظم وأقدم قصيدة نثر موروث العرب الديني والثقافي. مع ذلك فإني أؤرخ العام 1990 عامًا لبداية عصر سيارة قصيدة النثر شبه المطلقة. أجل كانت قصيدة النثر معروفة قبل هذا العام ولمن أن تكون معروفة شيء، وان تعتلي خشبة مسرح الشعر مُكللة بغار نصرٍ غير مسبوق، شيء آخر. لقد انتصرت القصيدة أخيرًا كظاهرة ومرحلة عالمية شعرية وفنية وكتابية. انتصرت على مدرستي الشعر السالفتين: قصيدة عمود الشعر العربي ثم قصيدة الشعر الحر، وإذا كانت قصيدة الشعر الحرامتدادًا ونصف ولد شرعي حلال للقصيدة القديمة.. قصيدة الاوزان والقوافي، تحمل بعض سيمائها وشيئًا من دمائها، فإن قصيدة النثر لا ترتبط بأيما علاقة مع الأخيرة، انها بالنسبة لموروثنا الشعري والثقافي مجرد (ولد سفاح) لا يعترف به قاضي الشرع.
انتصرت وسادت مع انتشار وانتصار "الكومبيوتر" الحاسوب والانترنيت والبريد الالكتروني (E-Mail) لذا فقد نسميها قصيدة عصر العولمة والانترنت. والقصيدة العابرة للقارات، وقصيدة عصر القطب الواحد الذي أصبح عصر سيادة دولة "اسرائيكا" القطب الذي يسعى محمومًا بعد سقوط جدار برلين وانكماش المعسكر الاشتراكي عام 1990 الى السيطرة وتأمين السيادة المطلقة على العالم. سيادة قصيدة النثر وعصرها لا تعني بالضرورة اختفاء مدرستي الشعر اللتين سبقتاها. فالقصيدة القديمة حية ومتعايشة مع قصيدة الشعر الحر رغم سيادة الأخيرة عليها، نعم، لقد انحسرت رقعة القصيدة القديمة (كما انحسرت انجازات ثورة عظمى عن مسرح التاريخ)، في بعض المحافل والاقطار العربية وقل عدد قائليها من الشعراء لكنها بقيت على قيد الحياة طيلة عصر سيادة قصيدة الشعر الحر منذ عام 1945 حتى سنة 1990. فالظواهر الاجتماعية والثقافية لا تختفي بشكل فجائي. انها تمتد من أصول جذورها وتربة حقبتها لتجد لها مكانًا مناسبًا في تربة وظروف العصر الجديد.
ان حفيدة الفراهيدي غير الشرعية وجدت الظرف مهيأ أمامها لتمارس ما مارسته قصيدة الشعر الحر وأن تزيد عليها أمورًا في غاية الجدة والحداثة. في ظروف وخصائص عصر العولمة واستنساخ البشر والحيوان والانترنيت والبورنو (porno) والايروتيكا وفوضى حريات وتعدد اشكال الجنس وانتشاره في الوسائل المقروءة والمرئية. كشوف خرافية في العالم الأصغر (الخلية الحية) والعالم الأكبر (الفضاء الخارجي). آهٍ منكٍ أيتها المولودة "الشعثرية".
تمردٌ مطلقٌ على الفكر وعلى منطق قانونية اللغة وعلى السياق "الزمكاني" لتراتب الفعل والفاعل والمفعول به المعروف منذ نشأة العربية الاولى.
حرية مطلقة في شكل القصيدة في مضمونها على حد سواء. فأي شكل سيتخذ الشعر بعد  عصر قصيدة النثر والى أي منحى سيتجه؟! هل ستشهد الأجيال القادمة عصرًا يقلب فيه الشعراء الفعل مفعولاً والجار مجرورًا وأن يجعلوا الفعل الحاضر دالاً على الغائب وعلى الماضي وعلى المستقبل تارة اخرى، كما تفعله دولة "اسرائيكا". كما قال أحد شعراء عصرنا الراهن "فزورق الأبد مضى غدًا وعاد بعد غد؟!" وان يخلطوا الجنسين معًا حيث لا فرق بين (هو) و(هي)؟ وأن يكون المفرد دالاً على الجمع والجمع دالا على المفرد؟ وان تعقد أخوات كان صفقات مع اخوات إن؟ وأن تلغى ضوابط التفريق بين حرفي (الضاد) والظاء؟ لقد انهت قصيدة النثر عصر القمم وكبراء امراء الشعر.. ونعرف فيهم المتصابي والمصاب بداء العقدة النرجسيّة وتضخم الكبد وتصلب الشرايين ادمانًا على شرب الكحول. فشاعر قصيدة النثر اليوم هو امير على امارة شعره والخاص، وكل شاعر مبدع هو سيد امبراطوريته الخاصة، وهم بارونات إقطاع شعري فني لا حصر ولا عد لهم. كل واحد منهم امير وكبير يحكم مملكته عالمه الشعري بجدارة وتفرد. التعدد واحد من اهم معطيات الحرية. وظاهرة عبادة الأصنام في عالم الشعر هي الوجه القبيح الآخر لظاهرة عبادة الاوثان في عالم السياسة!! امن شأن عصر الانترنيت والرأسمالية الكونية أن يزيلا الوثنيتين السياسية والشعرية. لقد اصبح كل شيء جائزًا في عصر العولمة والقطب الأوحد، والآتي بعدهما سيكون أشنع وأفظع وعلى الدنيا السلام. عصر "اسرائيكا" تتندر عليه ام "الروبابيكا" رغم غبطتها وابتهاجها بموت فلذة كبدها فكرها.. التي آمنت به حينًا طويلاً من الدهر.. أتعتقد "ام الروبابيكا" انه في عصر "اسرائيكا" سيعود الى وطنه هذا المشرد.. حتى لو ميتًا وهل ستبقى تركيبتنا تناقضية: متشائلون دائمًا.. احيانًا نسعد ولكن من عائلة النحس. وهل بامكان "سرايا بنت الغول" أن تبقى مقاومة لاغراءات الهروب من قلعتها، فتمد لفلسطين جدائلها من اجل الحرية والحياة. في عصر "اسرائيكا" حتمًا هناك.. حبوب سنبلة تهاوت ملأت الحقل سنابل فمتى يحين الحصاد؟!!

(والى لقاء)


يوسف حيدر
الجمعة 21/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع