من هو البربري هنا

"لا نقول ان كل الفلسطينيين شركاء في احتفالية الدماء، ولا نقول بالطبع انهم ليسوا بشرا، ولكن من المسموح القول ان كثيرين منهم يستحقون لقب متوحشين، اي اناسا انفلتوا من قيود الحضارة". هكذا يبدأ مقال رجل الاخلاق والحضارة يرون لندن (واينت 14.5.2004). هذه الكلمات كتبت في اعقاب العملية ضد الجنود الاسرائيليين في غزة، وما يصفونه هنا "كعملية بربرية للمخربين الفلسطينيين". ويبدو ان المغسلة الكلامية العسكرية الاسرائيلية طوّرت نفسها، وهي باتت منذ الآن معيارا حضاريا واخلاقيا لقياس سلوك الفلسطينيين ايضًا.

لأجل وضع الامور في نصابها، مع الامتناع عن المساس بمشاعر العائلات الثكلى وكرامة الجنود، يجب القول ان المس بجنود في منطقة محتلة من قبل السكان الواقعين تحت الاحتلال هو حق يكفله القانون الدولي ويسمى بلغة العالم "حرب غيريللا". (حرب عصابات). ولكن العملية المشروعة حسب معاهدة جنيف تتحول الى عملية اجرامية، وكأن المس بجنود في منطقة محتلة هو كالمس بمواطنين داخل باص في تل ابيب. واذا لم تكفِ هذه المغسلة الكلامية فإن رجل الاخلاق يارون لندن يقوم الآن ليسمي المقاتلين الفلسطينيين "متوحشين".

لندن، كما أعتقد، كان يفضّل رؤيتهم يرتدون الدروع الواقية، الخوذات، بينما فوقهم تحلّق مروحية الاأباتشي وهي تطلق صواريخها الى كل ما يشبه ماسورة البندقية، وبجانبهم وخلفهم تصطف المدرعات. وهو يفضّل بالطبع لو أن معظمهم كان متمرسًا في القتال داخل المناطق المأهولة، وهم يعتمدون على بلدوزر ضخم يفتح لهم الطريق دون رحمة بين البيوت، ويفضّل بالطبع ان يتم استبدالهم كل اسبوعين بوحدات أكثر حيوية.

يرون لندن لا يريدهم مع الحطّة التي تخفي وجوههم، حتى لا يميّزهم الاباتشي الذي يطلق عليهم صاروخًا، ويقتل معهم عددا من الاطفال بعملية تسمى "إحباط محدّد"، انه لا يريدهم في عمر خمسة عشر وستة عشر عاما، اطفالا يخرجون من بين ركام البيوت والفقر والثكل، وهم من شدة الغضب يمطرون بالرصاص آلة الاخلاق والحضارة على شاكلة دبابة "المركفاه".

لندن يريدهم على هيئته، مغتالين معقّمين لا يلوّثون ايديهم بالدم. مغتالين مع مناظير تلسكوب وألوان تمويه فوق وجوههم كقبائل الهنود الذين تحوّلوا الى شعار "المارينز" الامريكيين. يرون لندن يريدهم متنورين، مثقفين، يحترمون الانسان، مثل شعبه وابنائه الذين يقفون على الحواجز ويمنعون النساء الحوامل من الوصول للمستشفيات. يريد ان يسمع لغة عربية غير بربرية، غير متوحشة، نقية، تحاصر وتقتلع، تحاصر وتغتال، تجوّع شعبا كاملا لكنها تتصرف بإنصاف مع الموتى.

اقترح على يرون لندن ان يسأل نفسه: هل التنكيل بالبشر الاحياء أقل فظاعة من التنكيل بالبشر الأموات؟ "نعم" سيجيب. وما الغرابة؟ ان دولة يشكّل طقس الموت واحدا من أعمدتها وذروة انجازاتها، من الطبيعي ان ترفع الموت بدرجة فوق الحياة، وكل هذا حتى يواصل ابناؤها الموت من اجلها.

ان اسطورة البطولة تترافق دومًا بطقوس شهداء المعركة. وهكذا يتحول الميّت الى حي اكثر ممن لا يزال بين الاحياء. جهاز الدفن ومسرح الثكل، بكل مركباته، تحولا بمرور الايام الى رمز الحضارة الاسرائيلية المتنورة التي تحترم الانسان (الميت).

فجأة يقوم فلسطينيون سُلبت منهم كل مقومات الحياة الحضارية، من حيث يعيشون في واحد من اكثر المواقع كثافة وفقرا في العالم، تحت احتلال متوحش وعنيف، لا يعرفون سوى هدم البيوت، الاعتقالات، الحصار والطوق.. يقومون ويدنسون كرامة الميت. انه الحشد الغاضب الذي جرى انزاله الى درجة البهائم بواسطة احتلال بربري مغطى بألوان التمويه كالمارينز الامريكي.


المخرج جوليانو مير – خميس
الأثنين 17/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع