<الاتحاد>.. شباب في الستين

كأن الوقائع تتآلف وتتحد، لتزف الى جريدة "الاتحاد" هذا المعنى الرمزي البهي لعيدها الستين. ففي هذا الاسبوع احتفلت البشرية بذكرى الانتصار على النازية. ويوم غد ينكس القلب الفلسطيني نبضه في ذكرى النكبة. اما سلطات الاحتلال فتبلغ واحدة من ذراها المروعة في ارتكاب المجازر ضد شعبنا الفلسطيني. ولو جمعنا هذه الوقائع في اطارها التاريخي، لرأينا انفسنا نلخص مسيرة الاتحاد، منذ ان كتب المرحوم اميل توما افتتاحيتها الاولى عام 1944، الى هذا اليوم الذي تؤكد فيه هذه الجريدة الباسلة قيامتها متغلبة على العقبات والصعاب..
فحين كان الجهل يصرف انظار الكثيرين عن خطر النازي، بسبب من بعده الجغرافي النسبي، كان الشيوعيون في بلادنا يحذرون من هذا السرطان. وكان جنون هتلر الدموي سببا في مأساتنا. فقد ارتكب هذا المأفون فظائع ضد اليهود وغير اليهود، لكن ميزان العدل المائل الناجم عن المعادل المغلوطة، حكم بأن يدفع الثمن اناس آخرون. واستطاعت الصهيونية ان تخلق هستيريا تعويضية في اذهان الكثيرين من النشئ اليهودي، وانا لا امل من الاستشهاد بقول ذلك الطفل المتشيخ: كلما تذكرت ما فعله هتلر بنا ازددت كراهية للعرب؟؟.. كيف؟
على ان النكبة لم تقع لهذا السبب. ولو قلنا ذلك لوقعنا في عصاب الاضطهاد. لكنها نكبة الأمة التي سقطت قياداتها، يومذاك، في اول اختبار مصيري معاصر. وسيظل المؤرخون مشدوهين طويلا عندما يعيدون قراءة الاحداث ليروا ان العرب مجتمعين لم يستطيعوا ان يجمعوا، على مستوى العدد، ما جمعه بن غوريون. وتأتي المفارقة الكبرى التي تسمح لورثة بن غوريون، حتى يوم الناس هذا، بأن يسموا نكبتنا عيد استقلالهم. وبطبيعة الحال لم يقولوا اننا كنا المستعمرين، فهذه واسعة؟ ولكنهم يزعمون انهم استقلوا عن التاج البريطاني. مع ان أي عاقل عادل سيشهر ان العملية كانت تسليما لا اكثر.
لقد سلمهم البريطانيون بلادنا وسمحوا لهم بأن يعلنوا الاستقلال عنهم. فإلى أي حد بلغ الجور وهزال العدل..
يومها تفرقنا ايدي عرب.. على حد تعبير المرحوم اميل حبيبي - ويومها كان عمر الاتحاد اربع سنوات لا اكثر. لكنها سنوات من فئة السنابل السبع التي في كل واحدة منها الف حبة. فقد كان من اقدار اولئك الشبان الفلسطينيين الرواد ان يحرسوا الهوية، ويجمعوا شتات الباقين في البلاد. وكانت الاتحاد هي البيت والموئل والمنبر..
ولا مناص من ان نفتح الجراح.. لقد نسيكم العرب ايها الاهل هنا. بل انهم لم يفطنوا الى وجودكم اصلا. وحين كبرتم على حين فجأة، حاروا في امركم.. وكأن البطاقات الزرقاء التي تحملونها هي من صنيعكم لا من سقوطهم في اختبار 1948. ولأنه لا يحن على العود الا قشر العود. فإن الفلسطينيين في المنفى، هم الذين اعادوا اكتشاف الفلسطينيين في فلسطين. وكانوا يحتاجون الى اوراق اثبات. وكانت تلك اوراق الاتحاد التي لا يعرف الا الله وحده كيف كانت تصل الينا. فنصورها وننشر ما نستطيع نشره في الصحافة العربية..
وللتاريخ نذكر اسمين عزيزين كان لهما الفضل بهذا الاكتشاف، انهما الشهيد غسان كنفاني والشاعر يوسف الخطيب..
اما انتم فلم تكن دهشتكم باكتشافنا اقل من دهشتنا بكم. ألم يقل شاعركم شاعرنا شاعر فلسطين بكل الزهو البريء:
ما كنت اعرف ان تحت جلودنا
ميلاد عاصفة وعرس زلازل
وفي اوج الاكتشاف الذاتي هذا، الفلسطيني يكتشف امتداده الفلسطيني. هنا هناك او هناك هنا، لا فرق.. من هو الوجه ومن هو المرآة؟ نحن الوجه والمرآة معا. ولكن لم نكد نفرح حتى بدأت المجازر. كأنما دمنا زيت تلحق به النار في كل مكان، حتى ليصرخ المرحوم ابو الامين توفيق زياد:
يا حادي العيس دب الصوت في الشطين
تكسر السيف في كفي انا نصفين
وها هي الاتحاد تستقبل المهنئين في عيدها الستين، فلا تجد مفرا من ان تدب الصوت، وهي ترى الى غزة تهرسها الدبابات وتدكها المدفعية وتقصفها الطائرات. لكن هذه الفلسطينية مصنوعة من مادة عصية على الموت. من مادة الحرية. ولهذا فهي تقوم وتتحامل على جراحها وتكلف الكف ان تناطح المخرز. وعلى هذا استطيع ان اتخيل حبر الاتحاد الجديد وهو يتابع الدم الفلسطيني الجديد القديم، فينتصر له، ويدب الصوت في الشطين..
حصة حيفا
والآن، بربكم، هل استطيع الاحتفاء والاحتفال بالاتحاد. وهي في ريعان شبابها الستيني من غير ان استأذن حيفا لتدلني على عنوانها؟.. ها أنذا اتدلل على مسقط رأس فاسأل عن عنوان هو في القلب مني. ولا اضيف جديدا اذا قلت ان اسم الاتحاد ملازم لاسم حيفا في ذاكرتي القريبة التي اصبح عمرها عشر سنوات..
كما قلت، كانت هذه الجريدة حاضرة في مشاعرنا، في غبطتنا الوطنية واحساسنا بجذورنا المستحيلة على الاقتلاع. ولكن الحكي مش مثل الشوف. ما زلت استعيد - هل ابالغ اذا قلت يوميا؟ - جسدي المرتعش وصوتي المتهدج امام اهل الناصرة، مساء الجمعة 16/9/1994، وانا اقول لهم: صلوا من اجلي حتى يصمد قلبي لرؤية حيفا غدا. وأتى ابو علي، محمد علي طه ليهمس في اذني: اجعلها بعد غد فالجماعة يستعدون لاستقبالك يوم الاحد. ولم اتخيل من اولئك الجماعة وقدرت انهم الادباء الذين عرفتهم وعرفوني عن بعد. وهكذا قضيت يوم السبت بين الشجرة، وصفورية، وعيلوط.. وكنت قد افتتحت النهار، مع ام الامين، بباقة ورد على صدر توفيق زياد. اما يوم الاحد 18/9/1994 فيشهد انطوان شلحت انه يوم ميلادي الثاني. يوم لقائي بحيفا في مطعم اسكندر. واذا بالجماعة اكثر من ادباء ومعارض على غير معرفة.. لقد كانوا، باختصار، اهل حيفا..
وغني عن القول ان اسم حنا نصرالله، ابن جريدة الاتحاد، سيلازم روحي الى الابد.. فهو الذي دلني على البيت بشجرات الكينا الخمس..
ولكن ما لم يخطر لي في بال، ان تغطي جريدة الاتحاد تلك الزيارة بهذه الدرجة من الاحتفالية: اليوم في الناصرة - موعدنا معه غدا في حيفا - اهلاً باحمد دحبور في بيته.. وقد صارت الاتحاد بيتي حقيقة لا مجازا.
على الفور - تذكرون؟ - اختيرت لي صفحة اسبوعية دائمة. واخترت للصفحة عنوانا دائما، هو "من اولها".. كأنني اردت ان اجدد التعارف مع البيت الاول، مع النبع الاول، يقودني حبل السرة الى اهلي وقومي. وبعد سنة كان لا بد من عنوان جديد.. تلجلجت اسابيع بعناوين مرتجلة، ثم سألت نفسي: كيف لم افطن منذ البداية الى "حجر في الهواء"؟..
فقد سبق لي عام 1948 ان ابتكرت هذا العنوان العام في مجلة "الافق" التي كان يصدرها الفلسطينيون في قبرص.. وتحت هذا العنوان كتبت ذات يوم زاوية "خمس شجرات كينا" اودعتها حديث جدتي وامي عن بيتنا في وادي النسناس. وكانت المفاجأة التي اذهلتني. فقد وصلني الى تونس عبر باريس كتابان من فتحي فوراني ورياض بيدس، مع رسالة مشتركة منهما تؤكد ان بيتي لا يزال على قيد الحياة.. وان الذين يسكنونه فلسطينيون.. منا وفينا.. افلا اكون وفيا، والامر هكذا، لذكرى "حجر في الهواء"؟..
وقد واصلت الكتابة الى الاتحاد سبع سنوات. لم انقطع اسبوعا واحد، الى ان اتت فترة الارتباك. وانقطع الاتصال بشكل او آخر.. وقبل اسبوع  فقط، سمعت صوت محمد بركة في حوار تلفزي يقول: وسننشر هذا في الاتحاد.. وهي جريدة العرب اليومية.. عادت والعود من اسمائي.. عادت جريدة "الاتحاد" في فصح فلسطيني يتغلب على عوامل القهر. وليس لي الا تقديم التحية الى احمد سعد الذي رأى الا اغيب عن بنت مدينتنا في عيدها الستين.
مبروك للاتحاد، مبروك للبلاد. مبروك للاصدقاء والرفقاء والاهل جميعا. والآن يبدأ الجهاد الاكبر.. فنعود الى الشفافية والصراحة التي ميزت هذا الورق المتواضع الذي عبر العقود من الزمن. فاقول ان من اكثر الاشياء سذاجة ان نلعب لعبة الناصح والمنصوح. اضف الى ذلك انني لست حكيما بما فيه الكفاية لأزجي النصح.. لكن لي في حيفا، وفي الاتحاد، وفي فلسطين ما يكفي كصاحب بيت لأتمنى واصلي واجادل واساجل حتى تكون الوحدة الوطنية تميمتنا الباقية..
ان اهلنا، هنا، يشكلون عشرين في المئة. ولكنهم لم يوصلوا الى المقعد النيابي الا نصف هذه النسبة.. ليست هذه دعوة برلمانية، ولا بلدية، ولكنها مناسبة للسؤال: أليس ما يجمعنا اكثر بكثير جدا مما يمكن ان يكون خلافا؟
ثم.. أليس اسم جريد الاتحاد.. هو "الاتحاد"؟
احمد دحبور
الجمعة 14/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع