وحّدتنا، حرّضتنا وأرشدتنا


*كيف دخلت "الاتحاد" الى المثلث الجنوبي.. عن تهريبها عبر القطار، وبشاحنة الرفيق اليهودي، وبالدراجة الهوائية.. عن اخفائها في اناء اللبن وايصالها عبر طريق المهربين الخطر.. رفاق ورفيقات مخضرمون يعيدون رسم خطوط الجريدة الأولى، وما أعطتهم اياه، وما منحوها من انفسهم*

يبتلع أبو نضال ريقه، كلما طلب اليه احد ان يتخيل حياته دونما "الاتحاد" ويقول حازما "قد لا نكون، قد لا يكون حتى الحزب، فهي دافعت عن الفقراء والمظلومين، وحّدتنا، حرضتنا وارشدتنا لمقارعة الظلم، ظلم الحكم العسكري وكل ظلم في العالم".
وعن لقائه الاول بالاتحاد يقول ابو نضال، محمد أبو راس،"قرأت الجريدة لأول مرة في الـ 1946 وقد كانت في تلك الفترة تصل المدن فقط ولا تصل الطيبة. كنت ايامها شابا اعمل في احدى المزارع، وفيها تم الاعتداء علينا وحرماننا من المعاشات طوال اسبوعين فهب العمال للدفاع عن كرامتهم، وكان بيننا شيوعي واحد فقط هو مصطفى عازم، هو الذي حرضنا وهو كتب للاتحاد عما حدث فقامت هي بنشر قصتنا وبهدلة المعتدين، وهكذا تقربت من الاتحاد الا ان علاقتي بها بدأت تتعزز بعد النكبة ومع مباشرة الشيوعيين معركة توزيعها".
ولمعركة توزيع الاتحاد في الطيبة والمثلث بالغ الاثر على اولئك الطلائعيين الاوائل،  الذين قد يبدون الان وعبر كل هذه السنوات اقرب الى شخصيات اسطورية، دونما مبالغة، مذكرين بقصص الشاطر حسن وحديدون،  الا انهم لم يكونوا شطارا خارقين بشكل خاص. كل ما هنالك، والحديث لهم، انهم هبوا للدفاع عن انفسهم عن غدهم وعن احلامهم الحافية.
 وهنا، في محاولة لرصد توزيع الجريدة لا يسعنا فصل هذه التفاصيل الدقيقة عن الحكم العسكري والحزب الشيوعي، عن قهوة الصباح والملاحقات الدائمة ولقمة الاطفال والارغفة اليابسة.
هنا يتحول كل طود شامخ من اولئك المناضلين الى زخارف رائعة تشكل فسيفساء اروع، لا ينقصها الا اولئك الاوائل الراحلين عن عالمنا وعلى راسهم طيب الذكر عثمان ابو راس. يملأ هذا الفراغ نورهم الوهاج وطلابهم مواصلي المشوار..

كنت اعرف انه يقرأها وكان يعرف انني اوزعها، ولم نعرف!

عن معركة ايصال الاتحاد الى الطيبة وتوزيعها، يقول عبد الكريم أبو راس وهو من اول موزعيها وقارئها المداوم الى اليوم بسنواته الثمانين "لم يكن في الطيبة الوعي الكافي وقتها للكفاح السياسي، وكان أعضاء عصبة التحرر الوطني معدودين وهم عثمان جبالي ، مصطفى عازم، محمود عيسى وعبد الحميد ابو عيطه اما نشاطهم فكان محدودا الى ان أخذوا يوزعون الاتحاد الى جانب عثمان ابو راس الذي عرفني على الجريدة فوجدتها ناطقة بلساني، واخذت اشارك في توزيعها".
"الاتحاد كانت ممنوعة، بعد النكبة، من وصول الطيبة الا اننا اصرينا على توزيعها، وكذلك الحزب. احدهم كان يحضرها في القطار ويلقيها منه دون ان نلقاه، كان ينتظره دائما أحدنا في سهول الطيبة بعيدا عن محطة القطار والانظار، وفي أحد الايام كنت انا في انتظاره، وعلامتي هي العقال والكوفية، بينما ميز الاخرون انفسهم بالتظاهر بقراءة الكتب، في ذلك اليوم كان اذناب الحكم العسكري يتربصون بنا فتناولت الجريدة وهممت مسرعا نحو الرفاق في القرية، بينما لاحقوا المسافر في القطار".
"في المساء وبينما كنت أجلس في القهوة فوجئت بافندي غريب يتوجه نحونا، ولما سأل عن شيوعيين في البلدة أخذته جانبا فقال انه يوسف عودة من حيفا وانه من يحضر الاتحاد لنا في القطار وقد اعتدى عليه الحكم العسكري اليوم، الا انه لم يبقه في المعتقل لنقصان في الحجة".
يواصل ابو الماضي قائلا ان تلك الحادثة كانت فاصلة الى حد ما فقد قرر الرفاق منذ ذلك الوقت توزيع الاتحاد علنا قدر الامكان على ان يجيبوا كل من يسألهم عن مصدرها انها "من عبد الكريم ابو راس" ولما سألته عن مصدر هذه الجرأة والتحدي العلني أكد "الحكم العسكري كان يعرف ان قراءة الاتحاد ليست تهمة، فالجريدة كانت رسمية ومرخصة، الا ان الهدف كان تجهيلنا ودفعنا الى الرحيل، الحزب والاتحاد نفسها شجّعانا، اما عن اختياري انا كمصدر للجريدة فلانني وعلى عكس كثيرين كنت اعمل في القرية فلاحا فلا احتاج الحكم العسكري ولم يكن متمكنا من تضييق الخناق علي".
وعن سرية قراءة الاتحاد، يتذكر تلك الحادثة المثيرة، "في احدى الليالي، قمت باخفاء الجريدة في حفرة تحت اشجار الزيتون. اخي محمد كان يقرأ الجريدة. كنت اشك في ذلك. وكان هو يشك انني اوزعها لكننا لم نتجرأ على المجاهرة بذلك الى ان "اكتشف" محمد الجريدة سهوا في الحفرة فتصارحنا وتعرفت على الرفيق الجديد، الرفيق الشقيق".

بدّك لبن؟ إليك الاتحاد اذن!

في تلك الفترة كان رفاق الطيبة يوصلون الاتحاد ايضا الى قلنسوة والطيرة، اما كيف فتلك قصة اخرى تسردها المناضلة ام نضال، نجلاء ابو راس، " في العام 49 كنت لا أزال في الثالثة عشر من عمري. مرة كنت ارعى وشقيقتي العنزة فانتبهنا الى عبد الكريم يتبختر على اعصابه انتظارا للقطار، وعندما مر به القيت اليه جرائد،  ، ولما سألت شقيقي عثمان عن الأمر، قال انها الاتحاد، وانها صحيفة الفقراء وضد الظلم. كان اهم شيء بالنسبة الى عثمان الا تعلم امي الارملة انه يوزع هذه الجريدة فكانت وحيدة تعيلنا ونحن عشرة ... لم أعرف القراءة لكنني تعرفت الى روح الاتحاد عن طريق عثمان. كان يحدثنا عن مقتل والدنا بحثا عن لقمة العيش، ويعلمنا الاناشيد، ميلي ميلي يا سنابل، ويا شعوب الشرق.. وبدأت علاقتي بالجريدة، فكنت حين انام اضعها تحت راسي لادسها في ملابس شقيقتي الصغيرة وقت يداهم بيتنا رجالات الحكم العسكري وزادت ثقة عثمان بي، فأصبح يطالبني بايصال الجريدة الى قلنسوة".
"في قلنسوة لنا اقارب لذا لم يثر ترددي اليها تساؤل احد، كنت واختي عالية، نخفي الجريدة في اناء اللبن ونتظاهر ببيعه حتى نصل بيت عبد الحميد متاني، ابو حسن، ونسأله إن كان يريد اللبن بصوت جهوري فيوافق فنعطيه الجريدة ونهرول عائدين نحو الطيبة".
وفي استذكار تلك الايام، يورد ابو حسن كيف بقيت عائلته دونما مقومات دنيا من البقاء الى ان تعرف على الاتحاد واخذ يفضح ما تتعرض له العائلة، من مصادرة ارض وابادة للمواشي وحتى الملاحقة وتشريد شقيقه عبد الكريم، والتخطيط لالحاق العائلة به. "كنت دائما على اتصال برفاق الطيبة بعدما تعرفت اليهم عن طريق شيوعيين من قلنسوة هما يوسف اللداوي وعبد المنان ابو تايه، وكنت اوزعها هنا في القرية وغالبا ما وزعتها الى جانب رفاق من قرى مشتته او رفاق يهود عراقيين ومصريين التقيناهم في فروعهم او في خلايا العمال في اللد وتل ابيب".
وتماما كما لو انه يعيش تلك الحادثة الان، ينتشي ابو حسن رافعا صوته: "في الـ51 كنت اتأبط الجريدة في الطريق من الطيبة الى قلنسوة، وعرجت في الطريق الى حقول السمسم لقضاء حاجة فمرت دورية حرس للحدود وظنتني اتربص بها. قال احدهم لزميله "تربيتس لو حزاك" (اضربه بقوّة) وتوجه اليّ ان اعجل المسير فقلت ان هذا اسرع ما يمكنني، كانا مصممين على ضربي ولما اقتربت سالاني عما في يدي فقلت انها الاتحاد، فهمهم احدهما وتراجعا".
يواصل ابو حسن في نشوته "الاتحاد بدأت تخوفهم، صاروا يحسبون حساب البهدلة!"

الطيبة، الدمع يملأ العين بعد نصف قرن

كان القاء القبض على يوسف عبده قد دفع الرفاق الى ايجاد وسيلة اخرى لايصال الاتحاد، بدلا من القطار المستهدف، فتبرع شيوعي روماني اسمه فايتس، وكان سائق شاحنة في محاجر الطيبة بايصالها، وقد كانت تصله عن طريق شيوعي اخر من نتانيا."كان يحضرها الى الجبال عند اطراف الطيبة، واذهب انا كل مرة قبل طلوع الفجر"، وباستذكار تلك الليالي يقول ابو ماضي انه كان يضطر الى سلوك طرق المهربين الخطرة وقد واصل ذلك لاشهر حتى كاد يقع في الأسر بتهمة التهريب. "لم يكن خوفي من الاسر قدر ما هو بعده فكل مهرب انتهى عميلا، وانا لم أرضَ بذلك"، وتبرع فايس بعد ذلك بايصال الجريدة الى  داخل القرية فانفرجت المشكلة الا انها انفرجت حقا وقت انفجرت صرخة اهالي الطيبة بانتخابات 51 وتتويج الحزب القوة الاولى في القرية، فبدأ توزيع الاتحاد على الاشهاد.. وكذلك الملاحقة.
في تلك الاثناء تزوج محمد ونجلاء، ولما كانت هي تواقة الى قراءة الجريدة وهي امية لا تقرا ولا تكتب، فقد كان عريسها يقضي الليالي بقراءتها لها "أتذكر يا محمد تلك الليلة لما قرات لي مقالة اميل حبيبي تحت عنوان "مؤن عيني، مؤن" عن تعسف الحكم العسكري وتحكمه بمؤن الناس" تسأل نجلاء وقد اغرورقت بالدمع عيناها لتسأل انت نفسك عن سحر تلك الكلمات اليانعة على مدار نصف قرن او اكثر.
 ام نضال لن تبكي مستأنفة "لكنني لم ابق بحاجته لقراءتها فقد تعلمت ذلك فيما بعد على يد المناضلة سميرة خوري ورفيقاتها في حركة النساء الديمقراطيات"..

وفي الطيرة ايضا

السكرتير الاسبق لمنطقة المثلث الحزبية، غازي شبيطة هو مثال حي لما بوسع الاتحاد وزميلاتها من صحف حزبية ان تصنعه، فهو يقرّ ان هذه الصحف صقلته سياسيا، اجتماعيا وثقافيا،حتى تبوأ مناصبه القيادية واخذ يمد الاتحاد بمقالاته الى اليوم،  بعدما ضاقت الحياة بوجهه. "عانيت من شظف الحياة وقساوتها كلاجئ لم يجد حتى سقفا يأويه بعد تشريدنا من مسكة الى الطيرة، وقد قابلت الجريدة لاول مرة بين حقول الذرة شرقي القرية في تموز 51. وكنت وقتها قد طردت من المدرسة الثانوية لعدم تمكني من دفع الرسوم. كانت في الطريق دراجة ملقاة على الارض، وعليها شنطة قديمة، برزت منها جريدة جاء في عنوانها الرئيسي "لتتوقف جرائم الحكم.." ولم اتمكن من قراءة كافة العنوان لانها كانت ملفوفة وخفت من مجرد لمسها، لكن الحديث عن الجرائم شدني حتى مر بي بعد ساعات صاحب الدراجة فسألته عن الجريدة الا انه قال انه بعثها لاصحابها، وشرح لي ان العنوان يتحدث عن جرائم الحكم العسكري في كفر ياسيف وقتها".
كان لقاء ابي وهيب الثاني في الاتحاد، بعد اشهر قليلة "خلتها طويلة، فكنت مشتاقا الى قراءة ما جاء فيها وهو منغرس في قلبي دون ان اجرأ على البوح فيه كشاب في السابعة عشر من عمره، وان تجرأت لن اتمكن من صياغته وترتيبه بتلك الصورة، وكان لقائي الثاني عندما صادفت شابين يوزعانها في مقهى القرية فطلبتها منهما، قائلا انني لا املك النقود، فناولاني اياها، ليس قبل اخذ وعطاء".
"جريدة الدراجة وصاحبها عبد الرحيم الظاهر حاج يحيى، والجريدة الاخرى من شاكر عازم ومحمد حسنين حاج يحيى( وقد عرفتهم فيما بعد)  لا تزالان شاخصتين امام ناظري واردت ان اعرف اصحاب هذا الكلام ، الذين يحملون هموم اشكالنا ويلعنون الحكم العسكري والظلم فصرت ارافقهم كلما جاءوا، صرت ابحث عنهم ويبحثون عني، وبدات بتوزيع بعض الاعداد في القرية لمن ارادوها سرا وبدأت الملاحقات، واشتدت في العام 56 بعد مجزرة كفر قاسم، دون ان تؤتي ثمارها وبدأت تتبلور في الطيرة بفضل الجريدة ورفاق الطيبة نواة صلبة كان من اعضائها الى جانبي خالد عبد الرحيم خاسكية ، حسن مصطفى منصور، عبد الرحمن مصاروة وحسن دعاس، وكنا نجتمع الى رفاق الطيبة في الكروم، نحن نمدهم باخبارنا للجريدة وهم يقدمون لنا الاتحاد والبيانات السياسية، أذكر منهم طيبي الذكر عثمان ابو راس، الشقيقين شاكر وابراهيم عازم، محمد حسنين حاج يحيى، ومنهم من لا زال حيا له وفير الصحة والعافية اذكر الان منهم سنديانة المنطقة عبد الحميد ابو عيطة، عبد الرحيم عازم، عبد الرحيم الحاج يحيى، محمد ابو اصبع ورفاقهم ممن ظللونا الى ان صلب عودنا خلال المثابرة والملاحقة، فقال لي عثمان "اجا الوقت يا غازي.."
واقمنا الفرع!

هو، بكل بساطة، ما ينفع الناس

اسوة بأرجاء البلاد، يحتفي المثلث الجنوبي وابناؤه باضاءة الشمعة الستين من عمر الاتحاد، وهي مناسبة لتوجيه التحية لالوف القراء والموزعين والكتاب والمحررين والاداريين. ولكن ان كان لا بد من تخصيص التحية فهي في مثلثنا، لكل من ذكر اسمه في هذا التقرير ولابراهيم بيادسة، ابو عمر من باقة، ومحمد العزوني من جلجولية ولطيب الذكر القسماوي محمد داهود طه، ولا بد من تجديدها لمن يعود اليه الفضل الاول باعداد هذه المادة، الرفيق محمد ابو اصبع ابو سلام والذي رافق الجريدة موزعا في سائر المنطقة ومراسلا منذ سنوات الخمسين وحتى اليوم. اليوم وهو في عامه الثاني والسبعين لا زال يوزع بعضها مستذكرا تلك الايام متطلعا الى الشمس، شمس الشعوب، شمس الاتحاد وشعبها! 


تقرير: أمجد شبيطة
الجمعة 14/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع