مسرحية العرس - تألق الممثل وانسانية الفكرة


تمثيل: سلوى نقارة، والتخت الموسيقي بقيادة الفنان خليل ابو نقولا
اخراج: غسان عباس
مكان وتاريخ العرض: 30/4/2004 مسرح اللجون - الناصرة
مقدمة:
رغم ندرة العمل المسرحي، نسبيا، في بلادنا الا ان التجريب هو ميزة بعض هذه الاعمال المسرحية. اذ نلاحظ حرص العديد من المسرحيين والممثلين على ريادة الجديد والابتعاد عن التقليد. هذه الاعمال بالذات هي التي تستقطب المشاهدين، وان اثارت نقاشا، قد يكون حادا احيانا، الا ان هذا النقاش يغني المسرح ولا يضيره البتة. هناك من لا يستسيغ التجريب في مناح فنية عدة، ويرى فيه خروجا على الفن، وابتعادا عن المسلمات، ونكراناً للماضي لا تثويرا وإغناءً، وهناك من يدعو الى الطريق الوسط، وهي في بعض حالاتها، هروب من المواجهة، وفي بعضها حالة ملحة، وهناك من يفتح باب التجريب على مصراعيه فاتحا صدره للريح. ان هذا النقاش ليس مقصورا على العمل المسرحي بل انه يتعداه الى جميع انواع الفنون، السينما، الرواية، القصة الرسم والنحت، وكذلك الامر في الامور الاجتماعية عامة.
لذلك فإن الاعمال المسرحية التي لفتت انتباه الجمهور العاملين والمهتمين في المسرح هي في الغالب تلك الاعمال التي ولجت عالما جديدا، وجرّبت وسائل العرض المختلفة من خلال توظيفها توظيفا سليما لا مجرد حشو وتصنع.
لم يعد الحديث حول التغيير الحاصل في وسائل العيش واساليب التفكير جديدا على احد، ولسنا بحاجة الى اثارة هذا الموضوع والتأكيد على وجوده المطلق الراسخ والثابت في حقيقته. ان ذلك يقودنا الى ضرورة الابتعاد عن التقليد وريادة الجديد بعيدا عن المحاكاة الممجوجة. فلكل امر وقته وزمنه ومكانه.
ان المتتبع للمشهد المسرحي يلاحظ اعتماد الحبكة المفككة اذا صح لنا التعبير. وهي تعتمد على سرد مجموعة من الحوادث والمواقف المنفصلة، ترتبط ببعضها البعض من خلال الشخصية المركزية وعاملي الزمان والمكان. وهذا فعلا ما اتبعته مسرحية "العرس"، فهل وفقت في ذلك والى أي مدى؟
يقوم العرض، كما ذكرنا آنفا، على عرض سلسلة من الاحداث من خلال الفلاش باك (الاسترجاع) ذلك الاسلوب الذي تم استعارته من السينما، وهو اسلوب يخدم عرض الاحداث في كل الفنون السردية. فلقد تم استغلال هذه الوسيلة الفنية في العديد من الاعمال الادبية والمسرحية وتوظيفها بكل عناصرها. هذا الاسلوب يتيح للراوي/ او السارد/ او الممثل في مثل حالتنا ان ينتقل من زمن لآخر، وان يقفز بين الازمان: الماضي والحاضر والمستقبل، ومتنقلا من مكان لآخر سارداً احداثا عدة في آن معا.
ليس هذا الاسلوب هو الاسهل طبعا، فهو يستوجب من السارد والمشاهد، معا، اليقظة والدقة في العرض والمشاهدة. فالجمل قصيرة، مفككة ومكثفة قد لا يربطها "المنطق" المألوف في الاعمال التقليدية. لذلك يفرض على المؤلف اصلا، والممثل والمخرج ثانيا ان يسلكوا سبيل الدقة والحذر للحفاظ على التوازن، دون اللجوء الى المبالغات بكل صورها، ثم يفرض ذلك على المشاهد، ثالثا، ان يتركز في الممثل وما يصدر عنه كي لا تفلت الخيوط من بين يديه، وبالتالي ان يربط هذه الخيوط ببعضها البعض. عليه بكلمات اخرى ان يبنى الحبكة التقليدية في ذاكرته وفكره غير معتمد على التوصيل التقليدي الكلاسيكي حيث الحبكة المتوازنة: العرض، الذروة، الحل. ففي مثل حالتنا يتبعثر الزمن ويتوزع عبر الفلاش باك وعلى المشاهد ان يلملم خيوط الزمن وخيوط الاحداث. هذا الاسلوب الفني، الذي يوظف بكثافة في كل الانواع الرديّة والمرئية، اذا استغل بفنية، اتاح الفرصة للمخرج ان يفاجئ المشاهد، وان يشده الى المتابعة وملء "الفجوات" حسب تعبير المنظر الالماني ولفجانج إيزر، مما يعني خلق تواصل بين المبدع/ الممثل/ المخرج وبين المتلقي/ المشاهد. ونحن اذ نستعير هذا الاصطلاح - الفجوات - من عالم السرديات ايمانا منا بتداخل الفنون والعلوم معا، بحيث نعلم مدى تأثير العلوم بكل انواعها على الفن على اختلاف اشكاله.
***
لقد احسن القيمون على العمل استغلال هذه الوسيلة الفنية وتوظيفها بحيث جاء العرض سلسا مثيرا ومحفزا على التواصل بين الممثلة - سلوى نقارة - وبين الجمهور او "الجمنهور" حسب تعبير "زينب" - الممثلة. فقد نجحت في شد المشاهد للمتابعة والمشاركة، والتأثير على مزاجه بين الضحك والجد، وبين المشاهد على اختلافها في مرّها وحلوها.
لقد عمل القيمون على استغلال الاسلوب التراكمي، لا الاسلوب التصاعدي في حشد الاحداث. فالاحداث - كما قلنا - لا تتبع المبنى التزامني ولا المبنى السببي، حيث هناك حدث يجر نتيجة، ففي القصة التقليدية او العرض التقليدي هناك حدث يؤدي الى حدث آخر.
اما في مسرحيتنا فإن الاحداث تتراكم الى جوار بعضها البعض بشكل "افقي" حتى يكون لها فعلها "العامودي" في وجدان المشاهد. فكيف يتم ذلك؟
***
بعد ان ينتهي العرض يأتي دور المتلقي في لملمة الخيوط المبعثرة، فنعرف بأن "زينب" المتخلفة عقليا قد فقدت والدتها، فاهتم والدها برعايتها وتدبير شؤونها ثم تكتمل المأساة بموت والدها فتتولى رعايتها عائلة "ابو العبد"، و "زينب" هذه لا رباطة للسانها، فهو ينفلت من عقاله، تماما كما ينفلت فكر الراوي في "تيار الوعي" فتأخذ في رواية الحكايات التي تعطينا صورة عن الواقع المر الذي تحياه زينب وأهل القرية من حولها، حيث انتهاك الحرمات، والاغتصاب واستغلال القوي للضعيف، والفساد الاخلاقي بشتى انوعه. وهكذا يتسنى للممثلة ان تكشف "المستور" دون قيود بعفوية الانسان الساذج، بل المتخلف او "المجنون" كما يحلو لمجتمعنا ان يدعو هؤلاء الناس. ألم يطلب منها المغني "المسلّح" بأن تتوقف عن الفضائح لأنها "مجنونة" حسب تعبيره؟!
ان هذا الاسلوب اتاح للاحداث بأن تجري كالتيار عبر فِكر "زينب" المتخلفة دون قيود او محرّمات، فانسابت الاحداث دون رابط زمني او سببي تنكشف فيه امور عدة، ويظهر المجتمع في تفككه وتناقضاته وعيوبه ونواقصه. فهل كل ذلك نابع من "مجنون يحكي وعاقل يسمع"؟! ربما فالمشاهد العاقل يصطدم بهذا الواقع، وهو الذي "يأخذ الحكمة من افواه المجانين" على حقيقتها معراة من كل زركشة وتمويه، يختلف اهل العروسين - كالعادة - في الامور الشكلية وفي الامور الجوهرية ويكشف المجتمع على حقيقته غارقا في وحل العادات والتقاليد الآسنة حيث الخارج اهم من الداخل وحيث المظهر اهم من الجوهر، ويتعرى مجتمعنا في عدم حساسيته تجاه المرضى والمتخلفين في اقسى صورته حيث تتعرض زينب للاغتصاب رغم ما هي عليه. وتنتهي المسرحية نهاية صارخة.
اختار القيمون على العمل فسحة قصيرة كي يخرج السرد من الذات الى الآخر، وذلك عبر التخت الموسيقي الذي يحضر لتقديم الاغاني في الاعراس، و "الفرقة" كما تتبدى ليس غريبة عن اهل القرية ولا عن "زينب"، وهي كوّة تتواصل من خلالها مع الآخرين، عدا الجمهور الذي تتواصل معه بشكل فعّال.
تقوم الفرقة الموسيقية بقيادة الفنان خليل ابو نقولا بتقديم اغاني العرس للجمهور - وهو الدور الاساسي - وباجراء حوار مقتضب احيانا مع زينب كوسيلة لاضاءة بعض جوانب حياتها الخفية علينا، او فتح المجال لبداية موضوع جديد وحدث متراكم آخر.
فهل كان هذا المزج موفقا والى أي حد؟
أشرنا سابقا الى ضرورة التكثيف والى مدى اهميته في مثل هذا النوع من العرض، وهذا ما جسده الفلاش باك الذي قامت به سلوى نقارة في تقمصها لشخصية زينب. وقد ابدعت بحيث شدّت المشاهد - كما ذكرنا - في تنقلها بين الاحداث المختلفة مضحكة كانت ام اسيانة، لكننا كنا بحاجة الى التكثيف في دور اعضاء الفرقة كي يحافظ العمل على تراص احداثه بعيدا عن الترهل في بعض مشاهده. فهل كان الاولى بهذا العمل ان يتحول الى "مونودراما" محضة؟ ام تلعب الفرقة دور الخلفية الموسيقية وحسب؟ ملاحظته تتركها للقيمين على العمل ما دام العرض عرضا اوليا.
لقد اجادت سلوى نقارة وابدعت، وكان يكفينا - نحن المشاهدين - هذا المشهد المسرحي الثقافي وهذا التألق، كما ان الموضوع بحد ذاته انساني مؤثر محفز وجذاب، وفكرة العرض الاخراجي بهذه العفوية هي فكرة حكيمة ذكية. وصوت خليل ابو نقولا - كعادته - رخيم عذب. لكن اقتطاع جزء من هنا وهناك من شحم العرض قد يخفف من تورمه الزائد لنحصل على مخلوق معافى ما دام بالامكان الاستمتاع، وبحق، بهذا العمل.


بقلم: رياض كامل
السبت 8/5/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع