شكيب جهشان الذي رحل وهو يغني للعم جمال ولبغداد ولثلاثة عشر غزالا (1)

رحل عنا شكيب جهشان الشاعر المربي والمربي الشاعر، الشاعر المتفائل حتى في اعتى الظروف واصعبها، شكيب جهشان الكلمة الطيبة والتواضع الذي يحمل كبرياء الوطن.
ولكنه ما زال بيننا ففي الامس فقط، كنا في رحابه العامرة في مدينته التي احبها الناصرة، نحْيي معه ذكرى عودته السنوية الاولى لنا، ابتسم لنا ومعنا ابتسامته المعهودة، وضحك وضحكنا من شر البلية الذي يضحك، وكالعادة اتاح لنا ان نرى واحدنا الآخر، ولكنني رفضت فراقه بعد انتهاء اللقاء السنوي الاول حاولت ان اكون معه بعد عودتي من عاصمة الجليل في كتابه الذي طلب من مؤسسة "مواقف" توزيعه علينا بعنوان "كان وبعض اخواتها" فضحكت حتى النخاع وانا اقرأ كلمة كلمة من حالنا نحن المعلمين امثال شكيب جهشان الذين نتقاعد وتبقى معنا كان وتبقى اخواتها لا تريد ان تتركنا ولا ان نتركها، فكيف بالفعل وكيف بالفاعل ورغم ذلك ومن خلال هذه اللغة السلسة الجميلة الخارجة لتوها من فكره ومن بين اصابعه فقد كان يسمع المطر كما قال الاديب وليد خليف في مقدمته.

قرأت في الديوان الاول "جزاء سنمار" وتذكرت طلاب الصف الخامس ومعلم التاريخ الذي لا يكل عن تعليمهم سنة بعد سنة ونحن نكتوي سنويا بمثل ما لاقاه سنمار، والا كيف صارت سعسع ساسا (ص 50)، اذا لم يكن ذلك كما حدث لسنمار، وعن زهرات يوم الارض الست التي سقطت دون ذنب يكتب قصيدة ص (54)، وهكذا صحبته وعدت الى كتابه الذي احبه" احبكم لو تعرفون كم "فمع طلابي نتحدث عن مهنة المعلم كرسالة وليست فقط مهنة ووظيفة فأي نبع واقعي اجمل من هذا الحب للطلاب والتعليم والتربية الذي يراه شكيب جهشان "ان علاقة المعلم بطلابه، في كل زمان ومكان، هي علاقة انسانية متميزة، قد تصل في سموها وحلاوتها الى علاقة الاب بابنائه، ولكن علاقة المعلم العربي في هذه البلاد بطلابه، لها فوق طابعها الانساني، طابع وطني" (احبكم ص 8).
هذا نثر الانتماء لهذه الاجيال اما الشعر فيقول فيه العامل الكادح في مهنة التعليم"
"ثلث قرن
وانا اعمل ناطورا على كرم عنب
والعناقيد صبايا
وهدايا" (احبكم..ص 16)
ويقول هذا المربي الشاعر بانتمائه لطلابه ورسالته: "يا ايها الابناء والاخوة
والمصير
هل تسمعون درسي الاخير؟
يقول شيخ عاصر الاتراك
والطاعون
- نزرع يأكلون
- تقول شمعة وتذرف الدموع كالنضار
- نموت لكن نقلب الليل نهار
- تقول زهرة في اول الغسق
- ما اقصر العمر ولكن عشته
- لآخر الرمق
- يقول نسر بدد الكفاح ريشه
- وحطم القدم
- هرمت لكن لم ازل
- اذلل القمم (احبكم ص 30 - 31)
وهكذا لم يتركني في دروسي ولا في بيتي وكان لقائي الاخير حتى الآن به وهو يتأبط خيرا كتابه "يطلون اوسمة من شذا" الذي صدر بعد مغادرته القسرية لنا قبل ما ينيف عن عام، فأخذت الكتاب فرحا بهذا اللقاء فاذا به ملفان اساسيان الاول كلمات من العاصفة والثاني احمني يا ابي واذا بالشاعر الفنان جورج فرح قد منح الغلاف جمالا على جمال الكلمات وعذوبة على عذوبة، واذا بمجلة "مواقف" التي وقفت خلف الاصدار الاخير "كان وبعض اخواتها" مستعينة "بدار الهدى" لصاحبها عز الدين عثامنة تعممه على الجمهور، فقلت له اتيت يا معلمي العزيز ويا صاحبي الكريم، فتذكر رسالتي الاولى له في كتاب (كتابة على جدار الجامعة)، فابتسم وقرأ بعضًا من ابداعه واوله هذا الحلم الانساني والطفولي بالسعادة  وبالتغلب على مصاعب الحياة وعلى ظلم السلطان، يقول الماركسي المناضل، حلم المتدين بالجنة ينسيه احيانًا مقاومة الظلم الجائر، ويستغل رجل الدين التاجر هذا الحلم الجميل الرائع لاخفاق تيار التقدم وعملية التغيير الى الامام ويقول العالم النفسي ان الحلم ضروري للطفل لانه يتخلص  في لاوعيه من مصاعب الحياة التي تواجهه، والعروس في حلمها تبني أجمل القصور، وبدون الحلم الجميل لم أكن استطيع هذا اللقاء مع هذا الصديق والمعلم الذي قال في حلمه: "حلمت انني أطير.
من لهفة أطير
فمرة أسابق السحب
ومرة أعانق النسور
حلمت انني أطير (يطلون.. 13)
*****
ولكن حلمه الجميل على صخرة الواقع المر ككل الحالمين في هذا العالم المجنون: "واذ افقت ذاهلا
من حلمي القصير
فتشت عن سحابة
فتشت عن سفح وعن عرش وعن نسور
فتشت لكن لم أجد
من حلمي المثير
الا بقايا خافق
ممزق
وخاطر كسير" (يطلون.. ص 15)
ولماذا؟ لان الدمقراطية التي بح صوت زميله في درس المدنيات وهو يتغنى بها، وأصبحت أميرته وأميرة طلابه الموعودة أصبح بلا وطن وقرأ لي عن الدمقراطية العروس:
"حبيبتي الأميرة الموعودة
يا فرحة البحار
والبراري،
من أين يا أميرتي الفريدة
آتيك بالياقوت والدراري..؟

حبيبتي
يا حلوة المرايا
يا واحة النخيل
والذهب
باسمك يا سيدة الصبايا
تعانق الهامات والركب
باسمك يا عروسة الزمن،
باسمك
أمسيت بلا وطن..." (يطلون.. ص 17-18)
فقلت له ولكننا باقون يا شاعرنا في وطننا، فضحك وضحك وضحك وطن يا  مفيد ولم لا تكشف سرك بأنك لم تستطع إكمال بيتي ولديك بيت لولدك في وطنهما ووطنك بل قامت لجنة التنظيم والبناء في حيفا باسم العروس اياها الدمقراطية باصدار أمر هدم لبيتي ولديك ولمن جاورهم، ولمن في سنهم في قرانا"
- تبكي
فقال: لِم تبك
قلت: لأني لم أشأ اعلامك بما يجري لنا بعد رحيلك فقد شبعت وأنت معنا من قصص الهدم؟ وهل تصلكم اخبارنا هناك؟
فبكى معي وقال:
"عندما تبكون أبكي معكم
واذا ما ارتعت
روعتم معي
ايها الضعف الذي وحدنا
أنت في البلوى
ندي الأضلع" (يطلون ص 50)
ران صمت حزين على جلستنا.. و ...
قال: طبعا.. رغم انك تعرف اني "أنا لا أعرف في الفن
ولا
في الفلسفة
كل ما أعرف أني
صاحب البيت
وغيري لفلفة" (يطلون.. ص 20)
قلت: ورغم ذلك يهدمون
قال: "أبشروا ايها الناس الحزانى
أبشروا قد لون الحب الزمانا
والمكانا.." (يطلون ص 24)
قلت: وما زلت متفائلا رغم سماعك كل ما سمعت؟
قال: أنت تعرف أن امثالنا لا ييأسون، ولو كان اليأس ديدننا لمل مشيناها
خطى كتبت علينا، ولا اخترنا طريقنا هذا الذي نعتز به يا رفيق.
وفي جلستنا هذه ذكرنا العم جمال وقصيدة "يا عم يا جمال.." (ص 68-78) مذكرا بدنشواي ومؤكدًا انه أي جمال الأخضر اليدين وتابع يقرأ "أغنية لبغداد" ص 79، هذه الحبيبة الاميرة، يغني لها وقلبه على الرشيد" وهو يبتني المجد
لنا
ويبني الحياة
قلبي على الرشيد
قلبي عليه يرفع البناء عاليا ص 81
ويمر على قصائد عن مرسيل خليفة وعن سهى بشارة ولكنه يأبى في آخر اللقاء الا ان يقرأ بصوته الجميل المخملي "ثلاثة عشر غزالا" التي كرسها لشهداء اكتوبر من ابناء هذا الوطن (ص 199 - 211) يختمها بهذا النشيد القوي المعبر "ثلاثة عشر غزالا
يطلون من شرفة في السماء
يطلون أوسمة من شذا
يطلون ملحمة من فداء
هي الأرض باقية في الدماء
هي الأرض باقية في الدماء
هي الأرض باقية في الدماء" (ص 211)
ودعته، على أمل ان ينقل اخبارنا التعيسة الى رفيقنا توفيق زيّاد والى صاحب المتشائل اميل حبيبي، فقد اصبحنا متشائلين أكثر من أي وقت مضى.
وللقراء عذرا اذا أثقلت عليكم بهذا الحلم والجولة القصيرة في كتاب شاعرنا شكيب جهشان الاخير "يطلون أوسمة من شذا.
(عرعرة)
المصادر:
1 - صيداوي مفيد (1997) - الصبار الجزء الاول الصفحات 58-60 اصدار دار الأماني للنشر والتوزيع - عرعرة.
2 - صيداوي مفيد (1990) كتابة على جدار الجامعة - اصدار خاص ص 18-19 - عرعرة.
انظر كذلك "الاتحاد" 4/11/1985 - مفيد صيداوي - رسالة عبر الجامعة الاتحاد للمربي والشاعر الجبهوي شكيب جهشان.
3 - جهشان شكيب (1988) - أحبكم لو تعرفون كم - اصدار خاص - الناصرة.
4 - جهشان شكيب (2004) - كان وبعض أخواتها - اصدار مجلة "مواقف" مؤسسة المواكب.
5 - جهشان شكيب (2004) - يطلون أوسمة من شذا - منشورات مواقف ودار الهدى، عز الدين عثامنة - كفرقرع.


* مفيد صيداوي *
الأثنين 19/4/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع