العنف: بين الاحباط وترجمته!


*في هذه المقابلة التي أجرتها "الاتحاد" مع د. مروان دويري يؤكد أن رد الفعل الغاضب للشباب والنساء هو بداية حوار يجب تفهمها وتحويلها إلى طاقات تغيير بناء نحو مجتمع أكثر عدالة* ويستنتج أن أنضج الطرق وأحكمها للتعامل مع الاحباط تكون بتحويله الى مسار نضال سياسي للشباب والنساء والمجتمع ككل..*

لم نعد في السنوات الاخيرة بحاجة الى الاحصائيات الرسمية، والارقام الجافة لنشعر بخطورة العنف ومدى انتشاره، فالعنف اليوم بات يتسلل إلى حياتنا اليومية بأدق تفاصيلها، الى العناوين الرئيسية في نشرات الاخبار متحولا الى هم كبير شرس ومقلق..
نحن اليوم نعيش في مجتمع يتعرض حوالي 40% من طلابه في المدارس الابتدائية الى حوادث عنف ويتخوف فيه 18% من طلاب المدارس الابتدائية و12% من طلاب المدارس الاعدادية من التوجه الى مدارسهم بسبب تعرضهم للعنف. ( المجلس القومي لسلامة الاولاد في اسرائيل، نتائج الاحصاء السنوي المنشور في 24.12.03)
 نحن اليوم نعيش في مجتمع تعرضت فيه واحدة من كل عشر نساء للعنف في العام 2003 . 12% من مجموع النساء البالغات في المجتمع الاسرائيلي .
نعيش اليوم في مجتمع يمارس فيه العنف تجاهنا كأقلية قومية وتجاه كل ما هو اخر، ضد الشرقي والمتدين واليساري والروسي..
في محاولة للوقوف عند هذه الظاهرة وتحليلها، التقت "الاتحاد" بالدكتور مروان دويري، احد كبار المختصين النفسيين في الوسط العربي.

نظام الدولة والحاجة لتبرير القوة والسيطرة

يستهل د. دويري حديثه بالتأكيد على ان التمعن بظاهرة العنف سواء في المجتمع اليهودي او الاسرائيلي لا تجدي نفعا دون فهم النظام الذي يعيش فيه الافراد. "يعيش الافراد في دولة أقيمت بالقوة، ولا زالت تنتهج هذا الاسلوب بمواصلة الاحتلال لشعب اخر، لذا فمن الطبيعي أن تشكل قيم القوة والسيطرة جزء هاما من قيم مواطني هذه الدولة الذين هم جزء لا يتجزأ من هذا النظام السياسي والاجتماعي. هنالك خلفية نفسية تتعلق بالتجربة التاريخية الجماعية لليهود والتي تعطي التبرير الأخلاقي لنهج القوة والسيطرة ألا وهي نفسية الملاحقة أو ما اصطلح على تسميته بالبارانويا اليهودية. النفسية اليهودية الجماعية تراوح بهذين المحورين وهي التي تمكّن الإسرائيلي اليهودي من التصرف كمعتد وفي نفس الوقت يشعر بأنه الضحية. منذ أكثر من ثلاث سنوات وجراء عسكرة الانتفاضة ارتفع منسوب الخوف والشعور بالملاحقة لدى الإسرائيلي وبالتالي ارتفع تبريره وقبوله لقيم القوة والسيطرة. إنها دائرة مغلقة علينا فهمها وفهم كيفية إخمادها أو إثارتها".

"الاتحاد": نفهم اذن، ان  للعمليات الانتحارية دورا خاصا ومباشرا في ذلك؟

د. دويري: يدعي البعض أن الهدف من هذه العمليات هو الوصول الى ما يسمى "توازن الرعب" ما دام التفوق العسكري محسوما لصالح إسرائيل. ربما يكون هذا التقييم مبنيا على استنتاج ساذج لانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.  ولكن إذا راقبنا ما حصل منذ بدء عسكرة الانتفاضة لرأينا أن هذه الإنتفاضة أثارت البارانويا اليهودية من جهة، ومكنت اليمين الصهيوني من استغلال هذه العمليات لتجنيد الرأي العام وراء تصعيد القوة والسيطرة من جهة أخرى. شراسة الاحتلال اليوم تدل على أزمة في نهج القوة إذ أن دولة اسرائيل تحولت الى اخطر مكان في العالم بالنسبة لليهود. ومع هذا فنفسية البرانويا تحول دون العدول عن هذا النهج الكارثي. المجتمع الإسرائيلي اليوم يتصرف كالمصدوم الذي كف عن قراءة الواقع الحالي ويتصرف بعدوانية بشعة كأنه يدافع عن بقائه أمام مخططات الإبادة النازية وهذا انفصام عن الواقع الحقيقي يشوبه كثير من دفاعيات الإنكار والإسقاط النفسية. أعتقد أن الحديث عن توازن الرعب هو في الحقيقة لعب بالنار، يغذي اليمين ويخدمه ويحول المجتمع الاسرائيلي الى اشد شراسة وعنفا.

"الاتحاد": ماذا يعني ذلك بالنسبة لنضال الشعب الفلسطيني؟

د. دويري: دعني اؤكد اولا ان ايقاف عسكرة الانتفاضة لا يعني التنازل عن الحقوق، فهنالك فرق بين المطالبة بالحقوق والنضال من أجلها وبين اخافة المجتمع الاسرائيلي. الصمود ومقاومة الاحتلال هما عمليتان شرعيتان يمكن أن تتما بأشكال مختلفة وأحيانا بالتعاون مع قوى السلام الإسرائيلية والعالمية وليس بالضرورة بواسطة تثوير البارانويا اليهودية.

"الاتحاد": وعمليات الاحتلال الاجرامية تمنع كل محاولة لاسماع الصوت العقلاني..

د. دويري: هذا صحيح ويتم وفق خطة اسرائيلية محكمة جدا، فحكومة شارون استفادت من عسكرة الانتفاضة ولكنها لم تتصدى لعسكرة الانتفاضة بل استغلتها لتحارب وتصفي السلطة الفلسطينية وياسر عرفات وبالتالي تجنبت الوصول الى طاولة المفاوضات مع الطرف العقلاني المسؤول وتجنبت الانسحاب. هذا في الجانب الفلسطيني، أما في الجانب الإسرائيلي فهنالك اغلاق مطبق يحول دون سماع الصوت الفلسطيني العقلاني. فصوت انفجارات الاستشهاديين يعلو ويغطي على صوت 22 دولة عربية تدعو للسلام في مؤتمر القمة في بيروت. اسهام العدوان كان كبيرا، فعدا عن تعميق البارنويا والاستشراس ضد الآخر بشكل عام لا بد أن ندرك بأن الجندي الذي يخدم الاحتلال، من اي موقع كان، في الحواجز او تفريق المظاهرات أو الاغتيالات السياسية وغيرها، لا يعود الى بيته بعد حوالي 3 أشهر بالقيم الانسانية ذاتها التي تحلى بها من قبل، إذ يصبح بحاجة نفسية إلى تبرير الأعمال العدوانية التي يقوم بها. الاحتلال ينتج انسانا يبرر نهج القوة والسيطرة في البيت والشارع والمدرسة. ومن جهة أخرى فقد ادى استمرار الاحتلال الى تدني مستوى المعيشة في البلاد، مما دفع اوساطا واسعة من العمال والشباب والنساء الى الاحباط، وهنالك قاعدة معروفة بعلم النفس، يكون العنف بموجبها الطريقة البدائية لاعطاء جواب للاحباط. فالإسرائيلي المحبط اقتصاديا واجتماعيا يصبح أكثر عنفا وفي هذه الحالة يكون عنفه منزاحا: أي أنه لا ينتهج العنف ضد مصدر إحباطه الحقيقي بل يزيحه أو ينقله إلى عناوين أخرى أضعف منه فيصبح زوجا عنيفا وأبا عنيفا وسائقا عنيفا وهكذا. المواطنون العرب في البلاد يتلقون نصيبا كبيرا من هذا العنف المنزاح أسوة بكل الأقليات التي تتلقى الضغط الناجم من حالات الإحباط التي تعاني منها الأغلبية.

"الاتحاد": وفي هذه الاجواء، كيف ننظر الى الظاهرتين المتناقضتين: الرافضون من جهة وخلايا الارهاب اليهودي من جهة اخرى؟

د. دويري: رافضو الخدمة والارهاب اليهودي يجسدون حالات شاذة ولا تعبر عن جوهر المجتمع الاسرائيلي المشحون بطاقات عدوانية، يكون تفريغها أحيانا ليس ضد مصدر الإحباط بل توجه صوب كبش الفداء، أي الاقليات سواء كانت الاقلية القومية العربية، أو حتى الشرقيين أو المتدينين في المجتمع اليهودي نفسه. على هذه الخلفية وعلى خلفية العنصرية المتصاعدة يمكن أن نفهم خلايا الإرهاب اليهودي. هذه الخلايا هي الإبنة الشرعية لعقلية القوة والسيطرة على الغير وانتهاك حقوقه.

"الاتحاد": أيصح أن ننظر بنفس الصورة الى الشباب العرب المتهمين بعمليات ضد الدولة؟

د. دويري: هذه الاتهامات الموجهة بين الحين والاخر لبعض الشباب لا تعكس بأي حال صورة المواطنين العرب في الدولة، فمجتمعنا العربي، رغم كل ما يتعرض له من اضطهاد وتمييز عنصري في البلاد يتصرف تصرفا شبه ملائكي حيث ظل ينادي بأعلى صوته للحصول على مواطنة كاملة. العرب في البلاد لا يقفون ضد الدولة بل يطالبون بأن يندمجوا بداخلها وأن يتم الاعتراف بهم كجزء لا يتجزأ منها. الدولة هي التي تعادي المواطنين العرب وليس العكس. لكن إبراز أخبار بعض الشباب المتهمين هو محاولة لتمسك إسرائيل بدور الضحية وإظهارها على أنها مهددة وذلك لتبرير استمرار الاضطهاد ضد المواطنين العرب.

مجتمعنا التقليدي: شرعنة العنف وبوادر التغيير

بنفس الصورة التي حلل فيها د. دويري العنف في المجتمع الاسرائيلي ككل، يواصل استعراض مصادر الاحباط والعنف في المجتمع العربي، فيشير الى تردي الظروف الاقتصادية من جهة ومن جهة ثانية الى الكرامة القومية المهانة ، جراء موقف الحكومة في أكتوبر 2000 والاحساس اليومي بالتمييز. "خذ مثلا شعور ابن مجد الكروم عندما يلحظ الفرق الشاسع بين قريته وكرمئيل المجاورة. عندما يلحظ التعامل معه في مكان العمل، المطار ومكتب التأمين الوطني، كل هذا يؤدي الى الشعور بالاحباط، اضافة الى الاوضاع الاقتصادية مما قد ينتج عنفا مضاعفا".

"الاتحاد": وهل تضاعف حقا العنف في وسطنا العربي؟

د. دويري: من الصعب الحديث عن ازدياد العنف عما كان عليه في مراحل سابقة، لكن هنالك اختلافا نوعيا آخذًا في الحدوث.

"الاتحاد": كيف؟

د. دويري: دعنا أولا نعطي صورة لمجتمعنا، فهو كمجتمع جماعي تقليدي كان يعطي الشرعية لبعض أنواع العنف الهادفة إلى ضبط المجتمع بالقوة مثل العنف ضد النساء وانتهاج أساليب عقابية في التربية والضبط الاجتماعي. هذا هو عنف أيضا لكنه شرعي في نظر السلطة الاجتماعية التقليدية. مع تراجع الحلم القومي في العقدين الأخيرين نشهد تصاعدا في الاشتباكات الحمائلية والطائفية. بشكل عام يمكن القول بأن السلطة الاجتماعية والتربوية كانت تقبض بقوة على زمام الامور وقد شرعنت التربية العقابية في البيت والمدرسة. وللايضاح دعني اسجل نموذجين من بحث أجريته مع بعض الزملاء قبل 10 سنوات في المدارس الثانوية:
في أحد الاسئلة سألنا الطلاب عن السلوكيات التي يواجهونها من قبل المعلمين، فقال 72% من الطلاب أنهم يتعرضون لصراخ من قبل المعلمين بين مرة في الدرس لمرة في الاسبوع بينما قال 50% انهم يتعرضون في نفس الفترة الى سماع الكلمات البذيئة و45% يتعرضون للضرب من قبل المعلمين. والانكى من كل ذلك ان الطلاب عندما سجلوا شكاواهم مما يلاقونه في المدرسة لم يشتكوا من العنف، مما يقول ان الطالب العربي يتعامل مع العنف كأمر طبيعي وكجزء من وظيفة المعلم.
ونموذج اخر من بحث أجريناه حول الاسرة العربية وتربية الاطفال، سألنا فيه الاباء عن الطرق التي ينتهجونها عندما يتصرف أبناءهم أو بناتهم بشكل لا يرضيهم. فاجاب نحو 80% من الاباء بانهم ينتهجون أساليب الشرح والتفهيم، والى هنا الامور بدت جيدة ولكن حين سئلوا "وماذا تفعلون عندما لا يمتثل الأبناء لهذا الأسلوب، فماذا تفعلون؟" عندها أجاب نحو 80% انهم لا يقبلون بهذا الوضع وسيتخذون كل الوسائل العقابية الممكنة بما فيها الضرب. وهذا يؤكد ان الاسرة لا تتحمل سلوك بنت أو ولد لا يطابق توقعات الاهل مع ان وجود هذه السلوكيات لدى الشباب والاطفال هو طبيعي والتعامل معه يجب ان يتم عبر الحوار، الاخذ والعطاء والتفهم والتنازل من كلا الطرفين.

"الاتحاد": وهذا العنف ينتقل الى الشباب والاطفال أيضا..

د. دويري: صحيح ، فهنالك دائرة كاملة يشعر فيها الإنسان العربي بإحباط شديد من التمييز القومي ضده من جهة، ومن السلطة الاجتماعية الضاغطة من جهة أخرى، فبدلا من مواجهة مصادر الإحباط الحقيقية من خلال عملية نضالية يقوم المعلمون والأباء بنقل غضبهم إلى الطلاب والأبناء، فيقوم هؤلاء بنقل غضبهم إلى من هم أضعف منهم أو إلى الأثاث والممتلكات.

"الاتحاد": كيف نفسر اذن تزايد أعمال العنف الصادرة عن الطلاب تجاه معلميهم؟

د. دويري: إذا كان الطلاب والأبناء والنساء يقبلون الضغط والسيطرة الاجتماعية قبل عدة عقود، فمع انفتاح مجتمعنا على العالم ومن خلال تجربته برفض الظلم ضده  أصبح الشباب والنساء يرفضون هذه السيطرة القامعة ويردون أحيانا بشكل عقلاني وأحيانا بشكل عنيف وغير عقلاني. ردود الفعل العقلانية كمجادلة المعلم أو الوالدين، وغير العقلانية كالعنف تلقى رفضا من قبل السلطة التربوية والاجتماعية وتسمى جزافا عنفا. أعتقد أن رد الفعل الغاضب للشباب والنساء هو بداية حوار يجب تفهمها وتحويلها إلى طاقات تغيير بناء نحو مجتمع أكثر عدالة.

"الاتحاد": ولبناء هذا المجتمع، ماذا بوسعنا ان نعمل الان؟

د. دويري: على مجتمعنا أن يكون مجتمعا حيا يتأثر ويؤثر ويتطور ويتغير ويمارس التعددية وألا ينشغل بالحفاظ على ما كان دون فحص مدى ملاءمته للمرحلة الراهنة. حين يفتح باب الحوار بين المربين والطلاب وبين الوالدين والأبناء سيدفع مجتمعنا إلى مزيد من الصحة الاجتماعية. على مجتمعنا أن يصارح نفسه ويدرك السلبيات بداخله ويعالجها بدل تغطيتها. دعني هنا اسجل نتائج بحث قمت به قبل مدة يشير إلى أن حوالي 10-20% من الاطفال يتعرضون لاعتداءات جنسية جدية وشبه كاملة، وفي 40% من هذه الاعتداءات يكون المعتدي إما من داخل العائلة او من معارفها. هذه المعطيات تقول انه من الضروري ارشاد العائلات على كيفية توعية أبنائهم وبناتهم وكيفية التعامل مع هذه الضحايا.

"الاتحاد": ما هي العناوين القادرة على مساعدة ضحايا العنف؟

د. دويري: هناك عنوانان مركزيان، الاول هو مكاتب الشؤون الاجتماعية المفتوحة لكل من يتعرض للعنف او الاعتداءات الجنسية والثاني هو الاخصائيين النفسيين والمستشارين التربويين، فعلى الرغم ان الكوادر العاملة في هذا المجال لا تفي بـ 20% من المطلوب في المدارس العربية، تظل الدعوة مفتوحة للمدارس بادخال برامج تربوية خاصة، لتوعية الطلاب حول حماية أنفسهم من الاعتداءات الجنسية وتعليمهم على مواجهة العنف بشكل غير عنيف. 
ما ذكرته حتى الان يتعلق بالعناوين الرسمية، ولكن وفي حالة الاحباط المجتمعي كالذي نعيشه فان أنضج الطرق وأحكمها للتعامل مع هذا الاحباط تكون بتحويله الى مسار نضال سياسي للشباب والنساء والمجتمع ككل.


أمجد شبيطة
الأثنين 12/4/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع