بمناسبة يوم المرأة وعيد الأم
نص على نص كتبه وليد الفاهوم عن جمال الغيطاني

في (رواية) خُلسات الكرى
دفاتر التكوين: الدفتر الاول
دار شرقيات للنشر والتوزيع
ط 1 1996 القاهرة

في البدء لا بد من القول بأن لغة جمال الغيطاني جميلة تليق بجمال المناسبة. وانه مطلع على التراث العربي الرفيع الخاص بالحب والمرأة.. فيه يشم القارئ رائحة الف ليلة وليلة وطوق الحمامة في الالفة والايلاف لابن حزم الاندلسي، ويكاد يلمس جرأة ابي حكيمة في ديوانه، ويُسحَر حين يغرق في ضوع الياسمين بـ "ترجمان الاشواق" والمغرمين. والكتاب رواية متمردة على قوانين الرواية، وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة واللوحات الفنية يغلب عليها طابع السرد والانفعال وتفجير المكنون والمكبوت.. قصص يربط في ما بينها موضوع واحد هو الحب وبطلة واحدة هي المرأة في جميع اماكن وجودها وتفاصيلها، وفي ساعات بل في سويعات التجلي والبهاء الانثوي.
لذلك وعليه نجد الكاتب غارقًا في شعاع ونراه ملزما لانتقاء الكلمات الجميلة والمترفة التي تليق بهذا المقال، ولكل مقام مقال!

والكتاب ايضًا اقرب الى ادب الرحلات ووصف المكان والزمان، لكن دائمًا مع طغيان الانثى التي تضفي عليه لونا آخر متميزًا.. والتي يدلف الى محرابها من باب العين أي من حاسة النظر، فيبدأ جمال الغيطاني اختلاس النظر وهو مُسرنَم، لذلك جاء اسم الرواية "خلسات الكرى"، يبدأ بقول "الحلاج":

نظري بدءُ علتي     ويح قلبي وما جنى
يا معين الضنى علـــيّ، أعنّى على الضنى!

.. وتكون المقطوعة الاولى في فن التحنين. وهو كما في العامية تحريك العاطفة، كأن نقول: حنن فلانٌ قلب زيدٍ على عمرو. والتحنين شعبيًا هو انشاد الأناشيد التي تثير العاطفة نحو مكة قبل الحج اليها. أي اثارة الأشواق الى ارض يثرب ومكة، فلا تخلو من العبرات والانفعال الشديد، ويقول الغيطاني بأن التحنين من الحنين. "والحنين كما جاء في "اللسان" هو الشديد من البكاء والطرب، وهو خلاصة الشوق وتوقان النفس". ص 10
ويضيف ان المبتدأ ورفارفة متعلق بالمرأة، منذ كان في رحم امه. أي من الأم - المرأة الاولى - ومن الرحم ينبع ذلك التوق، ومن الحنين وشوق العودة اليه كان نزوعه وشوقه الدائم الى الانثى. هذا هو سر الجمال الأنثوي. وهذه هي عذوبة الكون، وهذا حال شائع يصعب تدوينه.

كثيرًا ما يدرك الذكر وجود الانثى قبل دخولها في مجال بصره ألم يقل الشاعر: "والاذن تعشق قبل العين احيانًا"؟ ألم يقل لنا العلم ان الانسان يدرك أحيانًا بموجات تحت سمعية او تحت بصرية تخترق لا واعيدة؟

أما بالنسبة الى الغيطاني ليس هذا وحسب، انما حضور المرأة "يؤنث المكان" ص 19. فهو يدركها في سمرقند في اوزباكستان، "بنية سمرقندية" ويدركها "بلبلة" في مراكش من أهل الطير حين يلغى حضورها كل ما عداها. ويلقاها ايضًا في القطار السريع الواصل بين مدريد وأشبيلية مرورًا بقرطبة حين "تنشر فخذاها دفئا الى سائر الجهات".. وهنا يبقي الكاتب القارئ معلقًا في فضاء الشك مسكونا برعونة الانفعال ودوام السؤال والتشويق.

ثم يراها في تونس المدينة وفي القيروان وفي موريليه (في المكسيك) ومسقط في عُمان واسطنبول ودمشق وبغداد وطليطلة - تلك المدينة المؤنثة التي يعول عليها، وهنا يبرع الكاتب في أنسنة المكان (ص 71) فكل مدينة ككل انثى لها ضوعها وطيبها وشذاها الخاص وساحات بوحها المتسعة وبشارفها التركية وموشحاتها الأندلسية وفيضها الأنثوي.
اجل.. المكان.. ما المكان؟ انه بالسكان.. المكان بزمانه وبما يحويه (ص 111) وبمدى استيعابه لنا وستيعابنا له. ما المرأة؟ انها الام والزوجة والابنة والصديقة والحبيبة والجدة والخالة والعمة.. انها الرحم والرحمة والعطف والعاطفة والدفء.. من قبل المهد الى اللحد،  من المحيط المائي الى المحيط الترابي.

والغيطاني يستوعب المكان في الزمان وفي الاثنى التي تحتويه ويحتويها. ففي كل طوافه وحله وترحاله يقول على الدوام:
"لم ألق أجمل ولا أكمل من لحظة بوح الانثى بقبولها وسفورها عن رغبتها، بالنظرة، باللفظة، بالخلجة، والشهقة، بالتنهيدة الحري، وقد جرّبت هذا وأتطلع الى المغاير لأعيش بدايات اخرى". ص 120.
اذا.. هو دائم البحث عن الجديد مع بقائه ضمن الاطار. وأي اطار هذا؟
يتعلق بالبغدادية ، يتزوجها، وهي خصبة، دافئة، حنونة، ينجب منها أحمد أخًا غير شقيق لمحمد وماجدة بغداد اختًا غير شقيقة لماجدة القاهرة.

ترى ما حال ماجدة العراق الآن؟ هل اغتُصبت؟ وهل من بوح في هذا الهزيج الثالث من الليل الحالك؟ ذلك الليل الذي لا تضيئه الا الماجدات.

(الناصرة)


الأثنين 22/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع