زكي ناصيف.. كلمات على غير عادة.. لظاهرة فوق العادة

لم يكن بالامكان تفسير الدمعة على رحيل الملحن والفنان العريق، واحد بناة الفلوكلور اللبناني، زكي ناصيف، في نهاية الاسبوع الماضي، على انها دمعة على رحيل مبكر، بعد 88 عاما، منح نحو سبعين عاما منها للفن المميز. ولكن الدمعة، في هذه الفترة بالذات، كانت بالاساس على ظاهرة فنية رحل صاحبها، وابقاها لنا وسط قلق ان تضيع على مر السنين، امام الحالة الفنية المتردية التي نعايشها اليوم، التي "تصدح" فيها الغالبية الساحقة من الاصوات بفضل "الماكنات والاجهزة"، الى درجة انه حتى الاصوات الجميلة الناشئة اصبحت تتضرر بفعل تردي الحالة.
والدمعة، ايضا، ممزوجة بخجل غاضب، حين تسمع وترى ان عملاقا كزكي ناصيف، بنى فلكلورا للبنان، واثرى اغنيته الوطنية، ومنها ما تغنى وقوفا، مثل اغنية "راجع يتعمّر لبنان"، يكون في سنواته الأخيرة حالة اجتماعية بحاجة الى منحة اجتماعية، تقدمها مشكورة المؤسسة اللبنانية للارسال LBC، التي بقيت على وعدها له حتى ساعاته الأخيرة، اذ التزمت بكامل تكاليف معالجته. وكل هذا امام دولة لبنانية عاجزة مشلولة، تؤمن فقط رواتب تقاعد ساستها، الذين لم يخدموا اسم لبنان، لا بنيانا ولا اقتصادا ولا ثقافة ولا فناً، بجزء يسير مما قدمه ناصيف وزملاؤه الفنانون والمثقفون.
إن الوضع الاجتماعي المأساوي الذي يصل اليه كبار الفنانين العرب، وليس في لبنان فحسب بل في دول عربية كبيرة، وبشكل خاص مصر، هو وصمة عار على جبين حكام العرب، الذين قد لا تجد مكانا على جبينهم لهذه الوصمة من كثرة الوصمات.

تُسمع انتقادات هنا وهناك للمطرب وديع الصافي، لانه وبعد هذا العمر لم يقرر الاعتزال، خاصة وان صوته تراجع، ولكن حين تسمع منه عن حالة كبار الفنانين والمثقفين العرب في سنوات شيخوختهم، وان عددا منهم يعيش في حالة جوع، ولا يوجد من يؤمن لهم حتى العلاج الصحي، تفهم لماذا الصافي، الذي تجاوز الثمانين من العمر ما زال يصعد على المسرح ويغني.

في حقيقة الأمر انني لست ناقدا فنيا، ولكني اخترت في هذه المرّة، ان أكتب على غير عادة، حول انسان، فنان هو فوق العادة.. زكي ناصيف. فالمجتمع الذي تقوده السياسة والاقتصاد بحاجة الى ان يتغذى، من الغذاء، وايضا من الغذاء الروحي، الفني الثقافي، وقد غذانا ناصيف الكثير الكثير منه.

كأبناء جيلي، لا يمكننا القول اننا كنا نعلم من هو زكي ناصيف، وإذا فتشنا عن ايجابية للفضائيات العربية، فقد تكون انها قربت بعض كبار الفن والثقافة الينا، خاصة وان زكي ناصيف، مثل فلمون وهبي، ونجيب حنكش، والكثير من الملحنين اللبنانيين، لم نكن نعلم انهم وراء زخم كبير جدا من الفن الفلكلوري اللبناني الذي احببناه ورددنا، إن كان على لسان فيروز او نصري شمس الدين او وديع الصافي، وكنا ننسب كل اغنية جميلة للرحابنة، وحتى الآن نتفاجأ حين نعلم ان اغاني كثيرة انتشرت بيننا لم تكن للرحابنة، إن الرحابنة، وفي كلمة حق لهم، هم ايضا ظاهرة فنية ضخمة، ولكن هذه الظاهرة، وهذا ليس ذنبهم، اخفت ظواهر فنية لا أقل إن لم تكن حتى أكبر، كما هو الحال في ظاهرة زكي ناصيف.

في آخر مقابلة تلفزيونية له كانت من نصيب تلفزيون "نيو. تي. في" اللبناني، كان واضحا على ناصيف تقدمه في السن، ولكن ما كان واضحا ايضا، ما هو معروف عنه اصلا، تواضعه الشديد. وحين نشهد هذا التواضع، نضحك كثيرا امام مشاهد عنجهية "نجوم" عابرة باهتة، تملأ الفضائيات، وتدعي انها ساطعة وتناطح الشمس، ويسمح لنا محمود درويش استعارة كلماته لنقول، انهم عابرون في موسم عابر، ويبقى تراث ناصيف لاجيال طويلة ركنا كبيرا في فلكلور لبناني احببناه وغنيناه.


بقلم: برهوم جرايسي
السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع