<<إيتا>> - من مطلب الحرية والاستقلال حتى العزلة


*ضمن مسيرة الشعب الباسكي للحصول على شكل (ما) من الاستقلال، مرّ تنظيم "ايتا" (ارض الباسك والحرية) محطات حادة. وما بدأ تنظيمًا أقامه طلاب قوميون ثم تنظيمًا اعتبر ماركسيًا، وصل اليوم حالة من العزلة حتى بين الباسك أنفسهم *

ما هو تنظيم "ايتا" الذي برز اسمه بعد التفجيرات الدموية التي شهدتها العاصمة الاسبانية مدريد؟

 طوال سنوات نشط الحزب القومي الباسكي (محافظ وكاثوليكي) في اسبانيا، الا ان بداية نشاطه كانت في سنوات الستين، وقام بها تنظيم "اهوسكادي تا اسكاتسونا" (ارض الباسك والحرية)، او باختصار "ايتا". اقيم هذا التنظيم عام 1959. في بداية طريقه، كانت مواقفه شبيهة بمواقف الشق المتطرف في الحزب القومي الباسكي، الا ان هذا الحزب ابتعد، على مر السنوات، عن "ايتا" بسبب استخدامه للعنف لتحقيق اهداف سياسية.

لقد كانت مجموعة من الطلاب القوميين، واسمها "اكين"، هي التي اقامت تنظيم "ايتا". "اكين" انضمت الى الحركة الشبابية التابعة للحزب القومي، وفي عام 1958 بدأت الخلافات مما ادى الى طرد عدد من اعضاء "اكين" من الحركة الشبابية الحزبية، وهؤلاء اصبحوا نواة تنظيم "ايتا". منذ عام 1964 شمل التنظيم في مبادئه القومية مبادئ التحرر الاجتماعي ايضا واخذت العلاقات بينه وبين الحزب القومي بالتدهور. سبب الانشقاق بين الحزب وبين "ايتا" لم يكن بالاساس استعمال العنف ضد دكتاتورية فرانسيكو فرانكو، وانما التهم التي وجهها الحزب لتنظيم "ايتا" بأنه عمليا تنظيم ماركسي في غلاف قومي.

بالنسبة للحزب القومي الباسكي، كان على "ايتا" التقليل من استعمال العنف على الرغم من الرؤية القومية المسيطرة في حينه، التي قالت بأن العنف ليس الا نشاطا شرعيا ضد الظلم والقمع.

منذ العام 1968، اكثر "ايتا" من النشاطات العنيفة وابدى التزاما بالايديولوجية الماركسية والثورية، مع شمل مواقف قومجية باسكية متطرفة، ودعم لنضالات شعوب "العالم الثالث". في السنة ذاتها قام نشيط في "ايتا" بقتل شرطي قرب حاجز. وبعد ذلك قام رجال الشرطة بقتله. بعد هذه العملية باشهر، قتل القائد العام للشرطة من قبل نشطاء تنظيم "ايتا"، وهكذا بدأت موجة عنف قام نشطاء "ايتا" خلالها، وحتى نهاية حكم فرانكو الدكتاتوري، بثلاثة واربعين عملية قتل. ورد النظام الاسباني على عنف "ايتا" بموجة كبت قوية، مما زاد التضامن مع "ايتا" في اوساط المعارضة، وفي اوساط دولية. في العام 1973 قتل نشطاء في التنظيم رئيس وزراء النظام الدكتاتوري كاررد بلانكو وبعد سنة فجر "ايتا" عبوة ناسفة في مقهى في مدريد. في هذه العملية قتل 13 شخصا وقد ادت هذه العملية الى الانشقاق الاهم في تاريخ التنظيم على شقيه: العسكري والسياسي العسكري. لم تكن هذه العملية الاخيرة التي وجهت ضد مدنيين، حيث تم زرع قنبلة في مركز تسوق في برشلونة في العام 1982، وقتل في هذه العملية 12 مدنيا، وكانت الاخيرة التي قام بها "ايتا" ضد اهداف مدنية.

بعد وفاة فرانكو، وبعد اقرار قانون الاصلاح السياسي في كانون الاول 1976، شقت الطريق للقضاء على الجهاز الدكتاتوري ولاقامة نظام دمقراطي، وهكذا اقيمت احزاب جديدة اختفى قسم منها خلال فترة قصيرة. في تلك الفترة اقيمت جبهتان للقومية الباسكية اليسارية: اهوسكيكو اسكارا تلقت الدعم من "ايتا" السياسي العسكري، وهيري بتاسونا التي اقيمت عام 1978 الى جانب "ايتا" والتي التزمت بمبادئ الاستقلال والاشتراكية ودعمت العمل العسكري دون تنازلات. القطاعات المقربة من "ايتا" العسكري قاطعت الانتخابات العامة التي اجريت في حزيران 1977. الحزب القومجي حصل على اصوات كثيرة لكن الاحزاب لم تحصل على غالبية اصوات الناخبين.

في الانتخابات البلدية والمناطقية التي اجريت خلال 1979، عادت السيطرة القومية الى الساحة السياسية الباسكية. لكن بعكس ما حصل في السابق حصلت هيري بتاسونا على اصوات كثيرة. الحزب القومي ظل الحزب الاكبر وحاز على السيطرة في ثلاث مدن، وفي البرلمانات الثلاثة المناطقية الباسك. من الجدير بالذكر ان العمليات الارهابية لم تتوقف عند وفاة فرانكو على الرغم من العفو العام الذي صدر عام 1977، والذي شمل حتى الذين اتهموا باعمال القتل. بالرغم من ان القوميين عارضوا الدستور الجديد (الذي اقر بعد موت الدكتاتور فرانكو) كان هذا الدستور هو الذي سمح باقرار الدستور الباسكي المستقل الذي يشمل المطالبة بالحكم الذاتي بعد موت فرانكو. وشمل مطالبة ببرلمانات مناطقية، ومنح سلطات اكبر للبلديات بمنح العفو العام وبمنح الحريات الدمقراطية واقرار دستور مستقل. وقد جرى الاعتراف في ظل حكومة ادولفو سوارس بالعلم الباسكي في كانون الثاني من العام 1977.

 الاحزاب المعارضة الاساسية وقعت على اتفاق الحكم الذاتي وفيه التزمت بالعمل من خلال البرلمان لتحقيق الحكم الذاتي. مندوبو بتاسونا رفضوا المشاركة في المحادثات مع اعضاء البرلمان الباسكيين من اجل كتابة الدستور، وقدم اقتراح الدستور المستقل الى البرلمان الاسباني، وبعد ابحاث ومحادثات تم اقراره في شهر حزيران 1979. في الخامس والعشرين من شهر تشرين الاول عام 1979 نظم استفتاء في الباسك لاقرار الدستور (مع معارضة هيري بتاسون). وأقر سكان اقليم الباسك هذا الدستور وهو ما زال ساري المفعول حتى اليوم.

في العام 1980 نظمت الانتخابات الاولى في اطار الحكم الذاتي التي فاز فيها الحزب القومي، مما مكن من اقامة حكومة مركزها هذا الحزب. في اطار الحكم الذاتي الجديد، منح اقليم الباسك سلطة كبيرة. السلطة في الحكم الذاتي تمكنت من جباية الضرائب. وقد اقامت السلطة شرطة ووسائل خاصة لادارة اجهزة التربية والصحة، وتعمل على اعطاء مكانة للغة الباسكية، وما الى ذلك. في الاطار الجديد، حصلت الاحزاب القومية في الانتخابات على نسب تتراوح بين 45% و 65% من الناخبين، الا ان دعم هذه الاحزاب يتعلق بنوع الانتخابات اي ان هذه الاحزاب حصلت على نسب عالية في الانتخابات الباسكية وعلى نسب منخفضة في الانتخابات الاسبانية العامة.

مع اقرار الدستور الباسكي المستقل، قبل نحو 25 عاما، جرت محاولات لوقف الحرب التي يقودها "ايتا". وبعد مفاوضات مع الحكم المركزي حُل اتنظيم "ايتا" السياسي العسكري وبذلك بقي فقط تنظيم "ايتا" العسكري والى جانبه هيري بتاسونا، حتى يومنا هذا. وقد حاول الحزب الاشتراكي بقيادة فيليبة غونزالس والذي حكم اسبانيا في السنوات 1982 وحتى 1996 وبالتعاون مع الحزب القومي الباسكي عام 1987، التفاوض مع "ايتا"، الا ان هذه المفاوضات فشلت. الى جانب المفاوضات التي اقيمت في الجزائر عام 1989، انتهجت الحكومة الاشتراكية ارهابا رسميا بواسطة "الجماعات ضد الارهاب ومن اجل الحرية"، المسؤولة عن قتل 27 شخصا بين الاعوام 1983 و 1987.

في العام قام رئيس سلطة الحكم الذاتي الجديد، خوسيه انطونيو اردنسه، من الحزب القومي الباسكي، بالعمل على توقيع الاحزاب الباسكية على اتفاقية "التطبيع والمسامحة" في الاقليم. هذا الاتفاق كان خطوة هامة لاقامة جبهة قوميين موحدة بالاشتراك مع غير القوميين، ضد "ايتا" الذي قرر بعد الهزائم المتعددة، تركيز نشاطه في حرب عصابات في المدن. ولا زال هيري بتاسونا (الحزب المرافق لتنظيم "ايتا") ملتزما بمبادئ استقلال الباسك واقامة دولة ثورية واشتراكية لأنه يرى تناقضا مع الباسك (ارض الباسك والحرية) وبين اسبانيا، وذلك على الرغم من فقدانه المستمر لشعبيته.

هذه الوحدة بين الاحزاب الباسكية لم تدم طويلا ففي صيف 1988 انهارت هذه الوحدة، وذلك حين قررت الاحزاب الباسكية الكبيرة التقرب من هيري بتاسونا من خلال اتفاق استليا الذي يهدف الى التوحد حول اقتراح رفع درجة السيادة الباسكية اكثر من الحكم الذاتي القائم، ولهذا فإن الائتلاف القائم بين الحزب القومي والحزب الاشتراكي لم يعد قائما.

بعد مفاوضات سرية، اعلن "ايتا" عن وقف اطلاق النار لفترة غير محدودة. الا ان وقف اطلاق النار هذا لم يصمد اكثر من 14 شهرا. خلال الهدنة، فاز الحزب المرافق "لايتا" هيري بتاسونا، بدعم كبير في صناديق الاقتراع، للمرة الاولى منذ 1979. هيري بتاسونا لم يستوعب ان مستقبل الحزب السياسي متعلق باستمرار وقف اطلاق النار الذي اعلنه "ايتا". بعد فشل عدد من اللقاءات بين مندوبي الحكومة المركزية الاسبانية ومندوبي التنظيم، اعتقد "ايتا" ان عملية التفاوض لم تتقدم بالسرعة المطلوبة، فعاد التنظيم للنشاط الارهابي، وهكذا فقدت الاحزاب القومية الاغلبية في الحكم الذاتي.

فقدان تنظيم "ايتا" للدعم الجماهيري كان الخلفية لاشتداد المواجهة بين الاحزاب القومية الباسكية الكبيرة وبين الاحزاب الاسبانية (الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي) - الحزب القومجي. وبدلا من ان يعيد تجربة التحالف مع الحزب الاشتراكي، قرر عدم معاودة المشاركة في الحكم الذاتي، ويطالب حاليا باقرار "مشروع التعاون الحر" مع الدولة الاسبانية، والذي هو شكل من اشكال الاستقلال غير الحكم الذاتي.

الحكومة المركزية بدعم من المعارضة الاشتراكية (قبل الانتخابات الاخيرة - المحرر)، بدأت بالقيام بخطوات تهدف الى عزل "ايتا" عن محيطه الاجتماعي والسياسي. وهكذا تم اغلاق الصحف، التي حرضت على العنف بحسب مفردات السلطة المركزية، وتم ايضا منع حزب هيري بتاسونا (الذراع السياسي لتنظيم "ايتا") من المشاركة في الانتخابات الاخيرة في اقليم الباسك. وبعكس التوقعات، فلم تؤد هذه الاجراءات الى احتجاج سياسي واجتماعي واسع النطاق في اقليم الباسك.

تنظيم "ايتا" موجود اليوم على مفترق طرق: في اضعف فتراته، تأثيره يتضاءل، والطريق السياسية الشرعية مسدودة في وجهه، حيث اوقفت الحكومة المركزية نشاط الحزب واغلقت صحيفته. و "الكفاح المسلح" (الذي ترجم الى ارهاب شخصي ضد شخصيات في الجيش والشرطة وضد سياسيين من الاحزاب الكبرى) لا يشكل اي اختراق بالنسبة للتنظيم، بل على العكس فهو يعزله اكثر فأكثر عن الجمهور الباسكي. وبحسب هذه المعطيات، فإنه ليس في صالح التنظيم ان يقوم بعملية تفجيرية ضخمة في مدريد، بكل الاحول. في البداية بدا أن "ايتا" حتى لو لم يقم بالتفجيرات فهو سيدفع كامل ثمنها السياسي. والآن اتضح بعد فوز الاشتراكيين الاسبان ان ازنار هو الذي دفع الثمن.. ثمن تفجيرات ارتبطت في ذهن الشعب الاسباني بالتبعية السياسية والعسكريةالتي انتهجتها حكومة اليمين الاسباني للادارة الامريكية، خلافا للرغبة الشعبية.


افرايم دفيدي
السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع