أجنحة الفراشة


"ستموتين بردًا"، هذا ما قاله لي جميع من عرف أنِّي عازمة على السفر إلى شمال إيرلندا. لم ينبهني أحد الى أنه من الممكن أن أتعلم أشياءً جديدة، ولم لا؟ ففي أي مكان نقصده، قريبًا كان أو بعيدًا، هناك ما نتعلم عنه أو منه. لا يهم، المهم أنني سافرت الى شمال ايرلندا، إلى مدينة "ديري/ لندن- ديري" تحديدًا، (وكان وجود اسمين للمدينة بعض ما تعلمته في هذه الزيارة).
كان هدف الزيارة المشاركة في "لقاء نسائي إستراتيجي"، بهدف الخروج بأساليب وإستراتيجيات عمل جديدة لإيصال النساء الى مائدة المفاوضات ومحادثات السلام.

*"أنا سائق سيارة أجرة سيدتي.."*

إنطلقنا من مطار مدينة "بلفاست"، في سيارة أجرة سوداء (لاحقًا سأتعلم شيئًا عن لون سيارة الأجرة). كان السائق لطيفًا جدًا، طلبنا منه المرور في الأماكن المهمة في "بلفاست" والشرح عنها. ربما كان طلبنا هذا ساذجًا، لكن السائق لم يكن كذلك، خصوصًا حين علم أن اللواتي يُقـلـّهن من الفلسطينيات والإسرائيليات.

كان المكان الأول الذي أخذنا إليه هو الجدران التي تفصل بين الكاثوليك والبروتستانت، الأحياء الكاثوليكية المحاطة بالجدران، كتابات "الغرافيتي" على الجدران، مراكز الشرطة بين الأحياء (الكاثوليكية والبروتستانتية).
أصغيت له في البداية دون ان أنبس ببنت شفة، عدا "نعم"، "نعم"، "نعم".. الى أن سألته إحدى الراكبات الاسرائيليات: "سيدي، أُعذرني إذا كان سؤالي وقحًا، ولكن.. هل أنت كاثوليكي أم بروتستانتي؟"، "أنا سائق سيارة أجرة سيدتي"، أجابها.
ابتسمت حينها، أُحب هذا النوع من الاجابات. فمن أكثر منا نحن الفلسطينيين في اسرائيل لديه التجربة في محاولة تفريقنا إلى مسلمين ومسيحيين ودروز وبدو إلخ..

مرت بضع لحظات من الصمت، شعرنا بالحرج كلنا. انا شخصيًا شعرت بالرضى والفخر لأنه اجاب هذه الاجابة، كسرت الجمود وسالته: "هل ما زال هنالك عنف؟"، "نعم، ولكن في فترات متباعدة وحالات خفيفة، أقل بكثير مما كان قبل 1998"، أجابني وعاد للحديث مجددًا.

كان حديثه مشوقًا جدًا. وبالنسبة لي، كان فيه العديد من المعلومات المهمة التي قد تساعدني على فهم صراعهم.  تحدث إلينا عن المحطات التاريخية المهمة في صراعهم، منذ بداية "التلاحم" عام 1968، مرورًا باتفاقية السلام في "الجمعة العظيمة" عام 1998، وبكل ما حدث في تلك الحقبة من الزمن، كاضراب عدد من السجناء الجمهوريين عن الطعام في العام 1981 وموت العديد منهم، وأولهم السجين "بوبي ساندس".
حدثنا عن "الهدنة" أيضًا ، أي وقف اطلاق النار/العنف عام 1994، ومحادثات السلام بين الأعوام 1993 و1998، الى أن أُبرمت اتفاقية العام 1998، وعن مشاركة النساء في الأحزاب وغيرها.

كان أحد الاشياء المثيرة التي أخبرنا عنها، انه في "موسم المسيرات" الذي يمتد بين شهر نيسان وشهر أيلول، ينشط الحديث عن الصراع والمشاكل، ويبرز في هذه الفترة بالذات ارتفاع الأعلام الفلسطينية في المناطق الكاثوليكية، والأعلام الاسرائيلية في المناطق البروتستانتية. فالكاثوليك الذين ينتمون بغالبيتهم الى القوميين أو الجمهوريين، يطالبون بانهاء السيطرة البريطانية على شمال ايرلندا والانضمام الى جمهورية ايرلندا. أما البروتستانت، والمتمثلون بالحزب الموالي (LOYALISTS) فيصرّون على البقاء مع بريطانيا العظمى. أي أن الكاثوليك يعتبرون أنفسهم تحت الإحتلال، ولهذا يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني.

كان واضحًا لنا أن سائق سيارة الاجرة مثقف جدًا ويعرف الكثير من المعلومات، أجاب على وابل اسئلتنا دون ملل. وحين كنا نصمت قليلا لنستمتع بالمناظر الخضراء الرائعة كان يطلب منا ان نتابع ونسأل.

حين شارفنا على الوصول إلى مدينة ديري/ لندن- ديري، كنا قد بدأنا بالحديث عن الموسيقى والأغاني التي تتحدث عن النضال والصراع والعنف والسلام. أسمعنا بعض الاغانيٍ، اغنية تتحدث عن الإرهاب "كيف تتجرأ أن تنعتني بالارهابي وانا ادافع عن وطني وبلادي؟"، اغنية اخرى تتحدث عن بوبي ساندس، من قيادة الجيش الجمهوري الايرلندي"IRA"  والذي يعتبرونه بطلاً وطنيًا، فقد مات في اوائل الثمانينات بعد ان اضرب عن الطعام لمدة 66 يومً. كان بوبي ساندس رائدا  لثلاثة وعشرين سجينًا حذوا حذوه وأضربوا عن الطعام. عشرة منهم توفوا. سبعة سجناء تم حقنهم بالأغذية بموافقة الاهل بعد ان سن قانون يعطي السلطة الحق، بموافقة الاهل، أن توقف المضرب عن الطعام عن اضرابه بواسطة حقنه بالغذاء. الستة الباقون توقفوا عن الاضراب.

كان يتحدث بحرقة كبيرة وبحماس شديد عن هؤلاء المناضلين، لم يتطلب منا الكثير من الجهد لنعرف أنه كاثوليكي. ولكن في شمال ايرلندا، الكاثوليكية ليست بالضرورة العقيدة الدينية، وانما ـ وغالبًاـ هي تدل على الموقف السياسي.
وصلنا الى ديري/ لندن ـ ديري. في طريقنا الى مكان اللقاء شعرنا بشيء صدم السيارة، تساءلنا.. فاذا به يفسر لنا أن ما صدم السيارة هو كرة ثلجية. فنحن في منطقة بروتستانتية وسيارات الأجرة السوداء معروفة انها للكاثوليك. وصلنا الى مكان اللقاء، كان هنالك سؤال أردت ان أسأله منذ إنطلقنا من بلفاست،" سيدي لدي سؤال أخير أعتقد اني اعرف الاجابة عليه ولكني سأسأله لماذا يوجد لهذه المدينة إسمان ، "ديري" و"لندن ديري"؟. إبتسامته جعلتني أفهم أنه متأكد من أني أعرف الاجابة ولكنه قال: "إختاري الاسم الذي تريدينه، ففي هذا موقف ايضًا".

*النساء الى طاولة المفاوضات*

في ديري، وتحديدًا في جامعة "اولستار" بدأنا لقاءنا، نساء أمريكيات، إسرائيليات وعدد لم يكتمل من الفلسطينيات. والسبب هو الإحتلال. نساء امريكيات- نسويات (من بينهن امرأة فلسطينية الأصل تعيش في أمريكا) بادرن لهذا اللقاء. الهدف: الخروج بأفكار جديدة لاشراك نساء في محادثات السلام في الشرق الاوسط.

كان اللقاء بعيدًا عن كل أشكال الحوارات التي عرفناها هنا. أولاً لم يكن هنالك اي تناسق بين المشاركات، من حيث الجيل، العمل، الخلفية والاراء. كان هذا اول ما تعلمناه: التنوع أمر ضروري لنجاح أي عمل.

كان من بين الموجهات إمرأة امريكية، تدرس وتبحث في العلم المركب، كانت مهووسة بدراستها هذه، التي أخبرتنا عنها بحماس شديد. فهي تبحث في تصرّف المجموعات البشرية من خلال تجارب على الحاسوب، هي تحدد قواعد للتصرف وتعطيها للنقاط (التي هي تمثل الوكلاء-أي نحن) التي تظهر على شاشة الحاسوب في حالة عشوائية، ثم تراقب كيف تتصرف هذه النقاط وفقًا للقواعد التي حددتها. في هذا العالم تنتج مصطلحات جديدة، ولكن حماسها للمصطلحات الجديدة التي تعلمتها ونقلتها لنا، كان في مكانه. فعلاً، ففي نشاطنا ونضالنا لانهاء الاحتلال والحصول على المساواة نحن بحاجة دائمًا الى أفكار جديدة، مصطلحات جديدة، ومنطلقات جديدة.

خمسة أيام في شمال إيرلندا بدأناها بدراسة المحطات البارزة في مسيرة النساء في اسرائيل وفلسطين ومشاركتهن في صنع القرار والتأثير. ثم انتقلنا الى الامور غير المتوقعة التي يمكن ان تحدث، وبعدها بدأنا ببناء استراتيجيات عمل جديدة. لم يكن الأمر بسهلاً، فعندما نتعود على نمط عمل معين، ردود فعل بأشكال محددة من دون أي جهد للتخطيط والتجهيز لأحداث غير متوقعة، تصبح قابليتنا لتغيير أساليب عملنا أصعب.
كان الأمر الأهم الذي أجمعنا عليه أننا يجب ان نغير النظام. كانت هذه كلمة المفتاح في جميع جلساتنا، "يجب أن نغير النظام".

في بعض اللقاءات شاركت نساء من ايرلندا، من منظمات نسائية مختلفة، تحدثن عن تجربتهن في ضم نساء الى طاولة مفاوضات السلام في شمال ايرلندا، وعن نجاحهن في ذلك. كما شرحن لنا كيف انهن الوحيدات اللواتي استطعن تأسيس حزب نسائي، "أئتلاف نساء شمال ايرلندا" الذي يجمع نساء ورجالا من جميع الفئات، الجهات والتيارات. تم تأسيس الحزب عام 1996. وفي الإنتخابات التي جرت عام 1998 حصل الحزب على مقعدين في الهيئة العامة. لكنه عاد وخسرهما في العام 2003. ومع ذلك، فإن إصرارهن على عدم اعتبار ذلك فشلاً وتصميمهن على مواصلة الطريق هو ما يستحق التقدير.

تحدثنا مطولاً عن "ظاهرة الفراشة"، التي يتطرق اليها ايضًا العلم المركب. "ظاهرة الفراشة" تقول ان حركة أجنحة الفراشة تسبب الهوريكان. نعم، من الممكن أن نصنع اشياءً صغيرة، لا اهمية لها اطلاقًا كحركة الفراشة. ونتيجة عملنا هذا ، من الممكن ان نحدث تغييرًا كبيرًا.
ولم يكن مفاجئًا أن تقوم النساء الامريكيات بإهداء كل واحدة منا فراشة في نهاية اللقاء.

*لماذا نحن-النساء؟*

لا يمكن أن تُصنع القرارات على مائدة المفاوضات من خلال تجاهل ضمني لنصف المجتمع. ذلك أن النساء - أيضًا لكونهن الأكثر تضررًا من الصراع - يجب أن تشاركن في وضع الحل، مثلما أنهن تشاركن في دفع ثمن الصراع. كما أن لدى النساء حساسية أكبر لقضايا حقوق الإنسان، خاصةً وأن هذه القضايا يجب أن تكون مركبًا أساسيًا في أي معاهدة سلام. كما أن للنساء، بشكل خاص، قدرة على المصالحة، مما يساهم في إنجاح المفاوضات، إضافة إلى الأهمية الخاصة لضمان التمثيل لأوسع تشكيلة ممكنة من الفئات والقطاعات.. 

نحن، كنساء فلسطينيات واسرائيليات، لسنا بالضرورة متفقات على كل شيء، ربما لكل واحدة منا رؤيا مختلفة لشكل السلام، ربما الاسرائيليات لا يقبلن جميعهن بحق العودة للاجئين الفلسطينيين، ربما بيننا كراهية، ربما افكار مسبقة تمنعنا من ان نتفق، ولكن شيئا واحدا مؤكدا هو أننا نستطيع الحديث عن كل شيء. نستطيع ان نبكي، أن نتألم دون أن نخجل أو نشعر بالضعف، ونستطيع أن نتصالح.

تبلورت في اللقاءات عدة اقتراحات لدفع نساء الى مائدة المفاوضات، والى مواقع صنع القرار، والدعوة لتنفيذها لا تقتصر علينا، النساء التي شاركن، ولا على التنظيمات التي أرسلتنا، ولا التنظيمات النسائية بشكل عام فقط. فكل شخص يمكنه ان يحرك أجنحته حيثما يشاء ومتى يشاء ولكنه حتمًا سيساهم في صنع التغيير الكبير.

من بين هذه الاقتراحات: حملة اعلامية واسعة حول الموضوع، كتابة مقالات، طرح الموضوع في مقابلات صحفية وانتاج أفلام. الأمر الآخر هو طرح مشاريع قوانين على طاولة الكنيست والمجلس التشريعي الفلسطيني تقضي بتخصيص أماكن للنساء على مائدة المفاوضات. ليس من المؤكد ان ننجح في تمرير القوانين، لكن الأثر هو طرح الموضوع على أجندة الرأي العام. تحضير قوائم لنساء يمكنهن المشاركة في المفاوضات، تحضير مواد عن النساء وعن رؤية النساء لحل الصراع، لنكون جاهزات، في حالة بدء محادثات من دوننا،لأن نخرج ونتظاهر ونفرض أخذنا بالحسبان. صنع مفاوضات بين نساء فلسطينيات واسرائيليات والخروج بمعاهدة سلام.

*سائق سيارة أجرة مرة أخرى*

كان هذا في يومنا الاخير في "ديري". طلبنا من سائق سيارة أجرة ان يأخذنا الى البلدة لنتجول ، او لنتسوّق بالأحرى. جلسنا في السيارة وكنا نتحدث، بالعربية. سألنا السائق عن هويتنا. "فلسطينيات" أجبنا. كان منفعلاً جدًا، رحب بنا كثيرًا، أخبرنا بأنهم متعاطفون جدًا مع القضية الفلسطينية. كان إنفعاله غريبًا بعض الشيء ولكنه كان مؤثرا. رفض أن يأخذ منا نقودًا وقال لنا : "هذا أقل ما يمكن أن نفعله، استمتعوا بزيارتكم لشمال إيرلندا". لا أعرف لماذا شعرته يقول لنا "أنتن فراشات، نعتمد عليكن في مواصلة التحريك بأجنحتكن".


عبير قبطي
السبت 20/3/2004


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع